|
||
يستغرق السفر من ديوان رئيس الحكومة في القدس إلى المقاطعة في رام الله نحو نصف ساعة. ولكن الإثنان بعيدان عن بعضهما البعض كبعد الكرة الأرضية عن المريخ. وقد أخذ كيري على نفسه مهمة ترتيب لقاء بين الرجلين - ربما في مكان ما في الفضاء الخارجي. على القمر مثلا. اجتماع – ما الهدف منه؟ هذا هو البيت القصيد. يبدو أن الهدف هو لقاء لمجرد اللقاء. لقد شاهدنا هذه المشاهد طيلة سنوات عديدة. حاول الرؤساء الأمريكيون، أحدهم تلو الآخر، عقد لقاء بين الطرفين. تقول مقولة أمريكية أساسية، وهي متجذرة عميقا في الثقافة الأنجلو-ساكسونية، أنه إذا كان اجتمع شخصان مستقيمان وعاقلان وناقشا الخلافات التي بينهما، فسيتم حل كل شيء. هذا الأمر يكاد يكون تلقائيًا: لقاء - حوار - اتفاق. لمزيد الأسف، هذا لا يعمل في النزاعات بين الأمم، النزاعات التي يكون لها جذور تاريخية عميقة أحيانًا. حين يلتقي زعيمان وطنيان، فإنهما يأتيان في معظم الأحيان ليلقيا اتهامات قديمة أحدهما على الآخر، ويكون الهدف هو إقناع العالم أن الطرف الثاني منحط ولعين. يحدث أحيانًا أن أحد الطرفين أو كلاهما يكون معنيا بجرّ اللقاء إلى الأبد. يرى العالم أن الزعماء يلتقون، وأن الوسيط والمصورين يعملون عملا شاقًا. جميعهم يتحدثون بلا انقطاع عن السلام، السلام، والسلام مرة أخرى. أتذكر رجلا مهذبا إسكندنافيًا اسمه غونار يارينغ. هل تتذكرونه؟ لا؟ لا يهم. يمكن نسيانه بالفعل. لقد كان دبلوماسيا سويديا ولديه نوايا حسنة، وقد طلبت منه منظمة الأمم المتحدة في أوائل السبعينات أن يعقد لقاء بين المصريين والإسرائيليين وأن يصنع السلام بينهم. نظر يارينغ بجدية بالغة إلى مهمته التاريخية. لقد سافر بالطائرة دون انقطاع ذهابا وإيابا بين القدس والقاهرة. تحول اسمه في نهاية الأمر إلى نكتة في إسرائيل، ويبدو كذلك في مصر أيضا. كان الخصوم في تلك الأيام أنور السادات وغولدا مئير. وكما عرفنا في الوقت الحقيقي، أرسل السادات بواسطة يارينغ رسالة مصيرية: إذا قامت إسرائيل بإرجاع شبه جزيرة سناء كلها، فهو مستعد لصنع السلام مع إسرائيل. رفضت غولدا الاقتراح رفضا باتا. من الطبيعي أنه لم يتم عقد لقاء. (انتشرت نكتة في تلك الأيام: غولدا والسادات يقفان أحدهما مقابل الآخر على ضفتي القنال. تصرخ غولدا: "اصنع الحب وليس الحرب!" ينظر إليها السادات عبر المنظار ويجيب: "الأفضل هي الحرب!") الجميع يعرفون كيف انتهى هذا الفصل. بعد أن رفضت غولدا كل شيء، شن السادات هجومه على امتداد القنال وأحرز نصرا أوليا مفاجئًا. لقد بدأ العالم السياسي يتحرك. تم إقصاء غولدا، وبعد توقف من أربع سنوات، ارتقى مناحيم بيغن السلطة وصنع السلام مع السادات- ذات السلام الذي كان قد اقترحه السادات قبل الحرب. لم يحظ الجنود الإسرائيليون الثلاثة آلاف و العشرة آلاف من الجنود المصريون الذين قتلوا في الحرب برؤية ذلك. على فكرة، توفى يارينغ في عام 2002، من دون أي يبقي وراءه ذكرا لدينا. جون كيري هو ليس غونار يارينغ. أولا، لأنه لا يمثل هيئة دولية ليس لديها قوة، مثل الأمم المتحدة، بل إنه يمثل الدولة العظمى الوحيدة في العالم. تقف من ورائه القوة العظمى الهائلة للولايات المتحدة الأمريكية. حقا؟ سيحتاج إلى الكثير من القوة للتوصل إلى ما يصبو إليه: تنظيم لقاء بين نتنياهو وأبي مازن، ليس مجرد لقاء، بل اللقاء بأل التعريف. تبدو هذه مهمة سهلة. يعلن نتنياهو، بصدقه الاعتيادي، عن أنه يريد اللقاء. إنه لا يريد فقط، بل يتوق إلى ذلك! في الحضور الرنان لمذيع تلفزيوني، يعرف قوة الصورة، يقترح إقامة خيمة في منتصف الطريق بين القدس ورام الله (على حاجز قلندية؟) والجلوس هناك مع أبي مازن حتى يخرج دخان أبيض ويتم التوصل إلى اتفاقية كاملة حول كافة تفاصيل النزاع. من يمكنه أن يعارض مثل هذا الاقتراح السخي؟ لماذا، تبًا، لا ينقض أبو مازن على الاقتراح ويختطفه بكلتا يديه؟ لسبب بسيط. مجرد بدء مفاوضات جديدة سيكون بمثابة نصر سياسي هائل لنتنياهو. من الناحية العملية، هذا ما يريده، هذا وليس أكثر – الاحتفال، الصخب، المصافحة مع الزعماء، الابتسامات، الخطابات المليئة بالنية الحسنة، الحديث بصوت مرتفع عن السلام. وعندها؟ وعندها لا شيء. ستستمر المفاوضات إلى ما لا نهاية – أشهر، سنوات، عقود. لقد رأينا هذا المشهد. اسحق شامير كان قد تفاخر، كما نذكر، بأنه كان سوف يماطل في المفاوضات إلى الأبد. ربح نتنياهو سيكون واضحًا وفوريًا. سيبدو في أعين العالم وفي البلاد كرجل سلام. الحكومة الحالية، اليمينية والأكثر تطرفا منذ إقامة الدولة، سوف ترمم صورتها. هذا سيخجل الأشخاص الذين يطالبون بمقاطعة إسرائيل وسيكتم أصواتهم. سيزول الخوف الزائد في القدس من "عدم الشرعية" و "العزل". وما الذي سيربحه الطرف الفلسطيني من هذه الخطوة؟ صفر، لا شيء. لا وقف الاستيطان. وحتى لا تحرير للأسرى الفلسطينيين المسنين مسبقا المسجونين منذ أيام اتفاقية أوسلو (كما أطلق سراح أسرى حماس في صفقة غلعاد شليط). آسفون، لا توجد "شروط مسبقة"! يطالب أبو مازن بأن يتم تحديد هدف المفاوضات مسبقًا: إقامة الدولة الفلسطينية في إطار الحدود التي تستند إلى خطوط عام 1967 مع تبادل للمناطق. إن شطب مثل هذا الإعلان من اتفاقيات أوسلو هو الذي حسم مصيرها بالفشل. لماذا يكررون نفس الخطأ للمرة الثانية؟ إضافة إلى ذلك، يريد أبو مازن تحديد المفاوضات بسنة واحدة مثلا. نتنياهو يرفض ذلك بالطبع. يحاول كيري المسكين الآن أن يعمل شيئا يُشبع الذئب ويبقي الحمل على قيد الحياة. على سبيل المثال، إعطاء أبي مازن ضمانات أمريكية من دون أن يكون هناك ضمان إسرائيلي. في كل هذه المساومة تم نسيان حقيقة واحدة. إنه الفيل مرة أخرى. الفيل الواقف في وسط الغرفة، الذي ينكر نتنياهو مجرد وجوده، ويحاول كيري تجاهله. الاحتلال. يفترضون عادة أن المفاوضات تدور بين متساوين. يبدو نتنياهو وأبو مازن في رسومات الكاريكاتير بطول متساو. صورة أمريكية لرجلين عاديين، يرتبان الأمور فيما بينهما، وهي تفترض أن الشريكين متساويين إلى حد ما. ولكن كل هذه الصورة هي صورة كاذبة. هل يمكن عقد لقاء بين ذئب وحمل؟ بالتأكيد نعم – شريطة أن يحضروا حملا جديدا كل يوم. يعمل الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية كما يحلو له. كذلك الأمر في رام الله. إذا أراد نتنياهو ذلك، فيمكن لأبي مازن أن يجد نفسه غدا في سجن إسرائيلي، برفقة هؤلاء المسنين الذي يرفض نتنياهو إطلاق سراحهم. على مستوى أقل تطرفا، يمكن لحكومة إسرائيل في أي لحظة، وكما ترغب، أن توقف تمرير الأموال التي تقوم بجبايتها من أجل الفلسطينيين، كما فعلت من قبل عدة مرات في الماضي، وأن تؤدي بالسلطة الفلسطينية إلى الانهيار. هناك مائة طريق وطريق، كل واحدة أكثر فذلكة من الأخرى، تستطيع فيها سلطات الاحتلال أن تنكل بحياة الفلسطينيين، كلهم معا وكل واحد منهم على حدة. ما الذي يمكن للفلسطينيين أن يفعلوه بهدف تفعيل ضغط مضاد على حكومة إسرائيل؟ قليل جدا. هناك التهديد بانتفاضة ثالثة. هذا يقلق الجيش الإسرائيلي، ولكنه لا يخيفه حقا. سيكون رد الجيش زيادة القمع وسفك الدماء. هناك أيضا تهديد بتوجه آخر إلى الأمم المتحدة للتوصل إلى قرار إضافي في الجمعية العامة، لرفع مكانة فلسطين كعضوة كاملة في المنظمة. هذا سوف يثير حفيظة نتنياهو، ولكن الضرر الحقيقي سيكون ضئيلا. يجب على كل القوة والضغط المطلوبين بهدف بدء المفاوضات الحقيقية التي تؤدي إلى السلام أن تأتي من قبل الولايات المتحدة. هذا أمر مفروغ منه حتى أنه لا جدوى من تكراره. هنا يوجد البيت القصيد. يمكن لكيري أن يحضر المال لرشوة الفلسطينيين، أو للهمس في آذانهم تهديدات تقشعرّ لها الأبدان، ليقنعهم بلقاء نتنياهو في تلك الخيمة الخيالية. لن تكون لذلك أية أهمية. الاحتمال في مفاوضات حقيقية تعلق كله بأن يقرر براك أوباما أن يضع ثقله كله على كفة الميزان، أن يواجه الكونغرس واللوبي الهائل الموالي لإسرائيل، وأن يفرض على الطرفين خطة السلام الأمريكية. كلنا نعرف ما الذي يجب أن يكون في مضمونها: دمج بين مسار كلينتون ومبادرة السلام العربية. إذا كان جون كيري غير قادر على توفير هذا الضغط، فمن الأفضل ألا يبدأ أبدا. ما الجدوى من الحضور وإثارة الفوضى، حين لا توجد لديك الوسائل لفرض حل؟ في الحقيقة، إنها وقاحة ما بعدها وقاحة. |