|
||
بسبب عدم وجود أي حوار جدي حول المواضيع الجوهرية، لم يبق أمام محللي وسائل الإعلام سوى التبليغ عن الدعايات الانتخابية. بعضها جيّد، بعضها غير مثير للاهتمام والبعض الآخر مقرف. وكأن هذه المنافسة هي بين خطباء، من صانعي البِدع، الإعلانيين و"الاستراتيجيين"، وليس الجمهور سوى مشاهد جانبي. حين ألتقي بالناس، يقولون لي بقلق: "أنا لا أعرف لمن أصوّت! لا يوجد أي حزب أدعمه حقًا!" وعندها يأتي السؤال الذي أخافه: "لمن تنصحني بالتصويت؟" لقد تابعت عن كثب 18 معركة انتخابية للكنيست، فيما عدا الأولى التي أجريت حين كنت ما زلت جنديًا. كنت أنا نفسي في بعضها مرشحًا. كنت أكتب دائمًا عن تفضيلاتي، ولكني لم أوجه القراء ذات مرة لمن يصوّتون. سأتصرف على هذا النحو في هذه المرة أيضا. في البداية أقول أن هناك توصية قاطعة تماما: التصويت. وفي هذه المرة أكثر من أي مرة سبقت. هذه ليست مسألة "عيد للديموقراطية" أو "واجب مدني" وما شابه من هذه الترّهات. التصويت في هذه المرة هو أمر حيوي. عدم التصويت هو بمثابة تصويت لصالح بنيامين نتنياهو وحلفائه، بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وكما يبدو الأمر الآن، أكثر من نصف أعضاء الكنيست التالية سيتكونون من أتباع اليمين المتطرف، بل وأكثر من ذلك. دزينة منهم على الأقل سيكونون فاشيين مُعلنين. عدم التصويت معناه تقوية مكانتهم أكثر فأكثر. هذا الوضع صحيح بشكل خاص بالنسبة لمواطني إسرائيل العرب. تشير الاستطلاعات إلى أن نصفهم تقريبًا لن يصوتوا أبدًا. توجد لذلك أسباب كثيرة: احتجاج عام ضد طابع الدولة "اليهودية"، احتجاج ضد التمييز، يأس من أي تغيير، تحفّظ من الأحزاب "العربية" وغير ذلك. كلها أسباب منطقية. ولكن المواطنين العرب الذين يمتنعون عن التصويت يقطعون الغصن الذي يجلسون عليه. إذا كان وضعهم سيء الآن، فيمكن أن يكون أسوأ بكثير غدًا، أسوأ بكثير جدًا. من شأن المحكمة العليا، التي تحميهم عادة، أن تنهار وأن تفقد سلطتها. يمكن لقوانين التمييز أن تتفاقم وأن تتزايد. هناك من يطمح، بين أوساط أتباع اليمين المتطرف، إلى انتزاع حق الانتخاب من المواطنين العرب. لماذا نلبي طلبهم راغبين ولا نذهب إلى التصويت؟ دعونا نخوض الآن في التصويت ذاته. لمن نصوّت؟ الطريقة التي انتهجتها هي كتابة قائمة تحتوي على كافة الأحزاب المتنافسة، بترتيب عشوائي. بعد ذلك أقوم بشطب كل الأحزاب التي لن أصوت إلى جانبها في حياتي، حتى وإن كانت حياتي هي الثمن. أولا، قائمة الليكود- بيتينو. كان الليكود بحد ذاته سيئًا للغاية. ومع إضافة أفيغدور ليبرمان، أصبح أسوأ بكثير. أنا أوافق مع رئيس الولايات المتحدة براك أوباما بأن نتنياهو سيؤدي بنا إلى كارثة محتمة. الرفض القاطع للسلام، التشبث القهري بالمستوطنات، تعميق الاحتلال – كل هذه الأمور تحوّل إسرائيل (إسرائيل ذاتها وليس الأراضي المحتلة فقط)، بشكل حتمي إلى دولة أبارتهايد. لقد سنت الكنيست السابقة قوانين مناهضة للديموقراطية بشكل واضح. والآن، وبعد أن تم تطهير كافة أتباع الليكود المعتدلين من القائمة، سوف تحظى هذه العملية بتسارع جديد. "لقد عذبكم والدي بالسياط، أما أنا فسأعذبكم بالعقارب". حين ينضم ليبرمان وأتباعه إلى الليكود، فإن الوضع يصبح أخطر بكثير. سوف يضطر نتنياهو إلى اتخاذ مواقف أكثر تطرفًا، خوفا من أن يفقد مكانه لصالح ليبرمان الذي أصبح الآن رقم 2. قد ينجح ليبرمان في إسقاط نتنياهو وأن يحلّ محله حتى في المستقبل غير البعيد. إن سطوع نجم نفتالي بينط في هذه الانتخابات يزيد اليأس. يبدو أن هذه هي القاعدة في اليمين الإسرائيلي: لكل شخص ذي آراء متطرفة يمكن أن نجد شخصًا أكثر تطرفًا منه. المجموعة التالية التي سأشطبها من القائمة هي الأحزاب الدينية والحاريدية. المجموعة مؤلفة بالأساس من حزبين: "يهدوت هتوراة" الشكنازية و"شاس" الشرقية. لقد كان كلاهما ذات مرة معتدلا جدًا في شؤون الحرب والسلم. ولكن تلك الأيام قد ولّت منذ زمن. أجيال من التربية على كراهية غير اليهود، أجيال عنصرية متطرفة قد ولّدت زعامة يمينية متطرفة. بينط أيضا ترعرع في هذا المشتل. وكأن ذلك لا يكفي، فإن هذه الأحزاب تريد أن تحوّل إسرائيل إلى دولة شريعة يهودية، كأخوتهم المسلمين الذين يريدون فرض دولة الشريعة الإسلامية على شعوبهم. إنها تعترض بشكل تلقائي تقريبًا على أي فكرة متحضّرة، مثل تشريع دستور مكتوب، فصل الدين عن الدولة، الزواج المدني، الزواج بين الجنس الواحد، الإجهاض، وأمور عديدة أخرى. يجب شطبها من القائمة! تختلف كثيرا الأحزاب التي تطلق على نفسها اسم "أحزاب المركز". الكبير بينها هو حزب العمل، بزعامة شيلي يحيموفيتش، التي من المتوقع أن تصل حسب استطلاعات الرأي إلى ما يعادل 18 مقعدًا. عليّ أن أعترف أنني لم أحب شيلي ذات مرة، ولكن هذا يجب ألا يؤثر على تصويتي. يمكنها أن تتفاخر (وهي تفعل ذلك بالفعل) بإنجازات غير بسيطة. لقد أخذت حزبًا على فراش الموت ونفخت فيه روح الحياة. لقد جمعت حولها مرشحين جدد ويستقطبون الانتباه. المشكلة هي أن شيلي يحيموفيتش قد ساعدت في شطب السلام عن جدول الأعمال القومي. إنها تغمز المستوطنين وحلفائهم بعينيها. على الرغم من أنها دفعت ضريبة كلامية كما هو مطلوب من أجل "حل الدولتين"، إلا أنها لم تفعل أي شيء لتحقيقه. إن الموضوع الرئيسي والوحيد التي تتناوله شيلي هو "العدل الاجتماعي". صحيح، لقد وعدت شيلي بعدم الانضمام إلى حكومة نتنياهو- ليبرمان. ولكن التجربة تعلمنا ألا ننظر إلى مثل هذه الوعود بجدية فائقة - توجد دائمًا "حالة طوارئ وطنية" في كل زاوية وركن. ولكن حتى رئيسة معارضة تنكر السلام يمكن أن يؤدي إلى ضرر هائل. آسف، لا يناسبني! منافسة شيلي الرئيسية هي تسيبي. تبدو ليفنيه، من الناحية الخارجية، النقيض التام. موضوعها الأساسي، والحصري تقريبًا، هو إعادة استئناف المفاوضات مع أبي مازن. جميل جدًا، ولكن تسيبي ليفنيه ورئيسها السابق، إيهود أولمرت، كانا في السلطة لمدة أربع سنوات متواصلة تقريبًا. لقد شنّا في هذه الفترة حربين ("لبنان 2 و"الرصاص المصبوب") ولم يقتربا من السلام حتى بخطوة واحدة. لماذا نصدقها الآن؟ لم أسمع من تسيبي ليفنيه ذات مرة أي كلمة من التعاطف مع الشعب الفلسطيني أو أية كلمة شفقة حول وضعه. أظن أنها معنية بالفعل بـ"عملية سلمية" ولكن ليس بالسلام ذاته. ثمة شخصية مثيرة في هذه الانتخابات وهو يئير لبيد. ما هو برنامجه الحزبي؟ حسنًا، أنه يبدو جميلا في التلفزيون، والتلفزيون هو الحلبة الوحيدة في هذه الانتخابات. إنه يؤيد كل الأمور الجيدة. وكما قال غروشو ماركس: "هذه هي مبادئي. إذا لم تعجبك، فلدي غيرها أيضا". أنا أعتبره "لبيد لايت" مقارنة بوالده، طومي، الذي انتقل هو أيضا من التلفزيون إلى السياسة. كان لبيد الأب رجلا معقدًا أكثر بكثير: رجل دمث جدا في التواصل الشخصي، خشن المزاج بشكل فظيع في التلفزيون، وطني متطرف في الشؤون الوطنية وعلماني متطرف في نظرته إلى المتدينين. يريد ابنه أن نصوت إلى جانبه لأنه شاب لطيف. إنه لا يخفي أمنيته في أن يكون وزيرًا – ولكن ليس من دون حقيقة! في حكومة نتنياهو. آسف، لا يناسبني! إذا تخطين الأحزاب العربية الوطنية، غير المعنية بأصوات اليهود، الأحزاب التي لا احتمال لها في اجتياز نسبة الحسم، يبقى في القائمة مرشحان معقولان: الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة و"ميرتس". كلاهما قريب من الأمور التي أؤمن بها. إنهما نشطان في النضال من أجل السلام مع الفلسطينيين، ويناضلان من أجل العدل الاجتماعي. كيف أختار بينهما؟ الجبهة في أساسها هي الوجه الجديد للحزب الشيوعي. هل لذلك أن يردعني؟ لم أكن شيوعيًا في حياتي، ولم أكن ماركسيًا أيضا. أنا أعرف نفسي كاشتراكي- ديموقراطي. لدي ذكريات كثيرة متعلقة بالحزب الشيوعي – بعضها جيد وكثير منها سيء. لا يسهل على شخص في سني أن ينسى الماضي الستاليني المتشدد لهذا الحزب. ولكن هذا الأمر غير مهم هنا. نحن لا نصوت من أجل الماضي، بل من أجل المستقبل. يجب أن نشير بالذكر إلى الحقيقة أن الجبهة تعتبر نفسها حزبا عربيًا-يهوديًا - الحزب الوحيد من هذا النوع (منذ اختفاء "القائمة المتقدمة للسلام"، التي ساعدت في تأسيسها في العام 1984). ولكن معظم اليهود يتقيدون أن الجبهة مصنفة كحزب "عربي"، لأن أكثر من 90% من منتخبيه هم من العرب. يجدر بنا أن نوجه الاحترام إلى عضو الكنيست اليهودي فيه، دوف حنين، ونشاطه المبارك. لو كان حنين يقيم حزبا جديدًا خاصًا به، لكان سيستقطب الكثير من أصوات الشباب وربما كان سيغير مشهد الانتخابات. في نهاية الأمر، أنا أفضل "ميرتس"، ولكن من دون حماسة مفرطة. هناك شيء واهن وتعب في هذا الحزب، الذي تأسس عام 1973. إنه يقول كل الأمور الصحيحة حول السلام والعدل الاجتماعي، الديموقراطية وحقوق الإنسان. ولكنه يقولها بصوت خافت. لا توجد وجوه جديدة، لا توجد أفكار جديدة، لا توجه شعارات جديدة. مفكرون كثيرون، أدباء وفنانون نادوا بشكل علني بالتصويت إلى جانب "ميرتس". (لقد شدد الحزب على عدم دمج يساريين في القائمة ممن لا يحملون شهادة حلال "صهيونية" واضحة). ولكن كما قال يوسف ألموغي قبل سنوات: المفكرون لا يملأون نصف سقيفة. في نهاية الأمر، "ميرتس" هو الاختيار الأصح في الظروف القائمة. إن ارتفاع ملحوظ لعدد أعضائها في الكنيست التالية سوف يثير على الأقل أملا بمستقبل أفضل. والمستقبل هو المهم. بعد يوم من هذه الانتخابات الكارثية، يجب أن نبدأ في مجهودنا لخلق طيف سياسي جديد. يجب ألا نقف في المستقبل أمام مثل هذا المأزق. ليحذونا الأمل أنه في المرة القادمة – وهذه المرة يمكن أن تأتي أسرع مما هو متوقع – ستكون لدينا إمكانية للتصويت برضا تام وبحماس من أجل حزب ديناميكي، يجسّد بشكل أمين معتقداتنا وآمالنا. |