اوري افنيري 

خطاب الملك / أوري أفينري


في منتصف الستينيات نقل إليّ دبلوماسي ألماني رسالة مفاجئة. طلب أحد أبناء العائلة المالكة الأردنية أن يتحدث معي في عمان. في ذلك الوقت، كانت الأردن لا تزال دولة معادية من الناحية الرسمية.

حصلت بطريقة ما على إذن من الحكومة الإسرائيلية. زوّدني الألمان، لكرمهم المفرط، بجواز سفر لم تكن تفاصيله جميعها دقيقة. وبهذه الطريقة، مع كثير من الغمزات، وصلت إلى عمان (عن طريق القاهرة) وتمت استضافتي في فندق فاخر.

انتشر نبأ إقامتي هناك بسرعة، وبعد بضعة أيام بدأ الأمر يربك الحكومة الأردنية. لذلك طلب مني بأدب شديد المغادرة، وعلى الفور، من فضلك.

قبل ذلك دعاني مسؤول عالي المستوى لوجبة عشاء في مطعم أنيق. كان الرجل مثقفا جدا، حضاريا جدا، وقد تحدث بلغة إنجليزية ممتازة. لشدة دهشتي، أخبرني أنه بدوي، ابن إحدى العشائر الهامة. في تلك اللحظة تحطمت جميع مفاهيمي عن البدو.

لقد نقشت الوجبة في ذاكرتي لأنني في غضون عشر دقائق (بكل معنى الكلمة) تعلمت عن الأردن أكثر مما تعلمته في عشرات السنين من القراءة. تناول مضيفي منديلا ورقيا ورسم خارطة مجرّدة للمملكة. "أنظر إلى جيراننا،" طلب مني. "هنا سوريا، التي فيها دكتاتورية بعثية علمانية. هنا العراق، التي يوجد فيها أيضا نظام حكم بعثي متطرف، لكنها تكره سوريا. هنا السعودية، دولة محافظة ومتدينة جدًا. بعد ذلك مصر، وفيها دكتاتور عسكري موال للغرب. ثم إسرائيل الصهيونية. في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تتعاظم أسس ثورية. وعلى بعد لا يذكر تقريبا توجد لبنان المقسمة بين الطوائف والفصائل، وهي على وشك وقوع حرب أهلية دائما".

"من جميع هذه البلاد،" أضاف، "يتدفق إلى داخل الأردن لاجئون، عملاء وأيديولوجيات. علينا استيعاب واحتواء جميعهم. علينا خوض لعبة دقيقة جدا من الموازنات. إذا تقربنا من إسرائيل أكثر مما يجب، فعلينا إرضاء سوريا في اليوم التالي. إذا حضنا السعودية اليوم، فعلينا تقبيل العراق غدا. نحن ممنوعون من الاتصال بواحدة من هذه الدول فقط".

هنالك انطباع آخر أخذته معي من الأردن: الفلسطينيون في الأردن (فيما عدا اللاجئين، الذين لم أقابلهم) راضون جدا عن الوضع القائم. إنهم يسيطرون على الاقتصاد، يزدهرون ويصلّون من أجل استقرار الحكم.

أتمنى لو أن جميع السياسيين والأكاديميين لدينا تلقوا درسا منوّرًا للبصيرة كهذا الدرس. لأنه قد سادت في إسرائيل - ولا تزال تسود - أفكار جنونية تماما عن الأردن.

الصورة العامة هي أنها دولة صغيرة، تحكمها عشائر بدوية بدائية، ومعظم سكانها فلسطينيون يتوقون إلى إسقاط الحكم.

(يذكرني ذلك بحديث آخر – في القاهرة هذه المرة – مع من كان في ذلك الحين وزير الخارجية من الناحية العملية، بطرس بطرس غالي، من أتباع الطائفة القبطية وأحد أذكى الناس الذين قابلتهم في حياتي. لقد قال لي "إن الخبراء الإسرائيليين لشؤون العرب هم الأفضل من نوعهم في العالم. لقد قرؤوا كل شيء، يعرفون كل شيء، ولا يفهمون أي شيء. ذلك لأنهم لم يعيشوا أبدا في دولة عربية").

إلى أن جاءت اتفاقية أوسلو، كان زعماؤنا السياسيون جميعهم يدعمون "الخيار الأردني". لقد كانت الفكرة أن الملك حسين فقط مستعد وله القدرة على صنع السلام معنا، وأنه سيقدم لنا القدس الشرقية هدية، إضافة إلى أجزاء من الضفة الغربية. لقد اختبأ من خلف هذا الخطأ القرار الصهيوني التقليدي بأن يتم تجاهل وجود الشعب الفلسطيني ومنع إنشاء دولة فلسطينية بأي ثمن.

قالت صيغة أخرى من هذا القرار إن "الأردن هي فلسطين". لقد شرحها لي أريئيل شارون، قبل حرب لبنان الأولى بتسعة أشهر. "سوف نقذف بالفلسطينيين من لبنان إلى سوريا. سيطردهم السوريون جنوبا إلى الأردن. سيقومون هناك بإسقاط الملك ويحوّلون الأردن إلى دولة فلسطينية. ستختفي المشكلة الفلسطينية، وما سيبقى هو نزاع عادي بين دولتين، إسرائيل وفلسطين".

"وماذا بالنسبة للضفة الغربية؟" سألته.

"سنتوصل إلى تسوية مع الأردن،" قال لي. "ربما نظام حكم مشترك، ربما بشكل ما من التقسيم الوظيفي". (قمت بنشر الحديث على التوّ، دون أن أقتبس شارون نفسه).

تعلو هذه الفكرة بين الحين والآخر. لقد قدم هذا الأسبوع أحد السفاحين فائضي الفعالية في الكنيست اقتراح قانون إضافيا، اسمه "الأردن – دولة القومية للشعب الفلسطيني".

ناهيك عن النكتة بأن دولة معينة تسن قانونا لتعريف دولة أخرى، فقد تسبب ذلك أيضا في إحراج سياسي كبير. ولكن بدلا من إلقاء الاقتراح في سلة المهملات، فقد تم تحويله للمناقشة في لجنة فرعية، يتم فيها إجراء المناقشات بشكل سري.

جلالة الملك، عبدالله الثاني، قلق لذلك. إن لديه أسبابا لا بأس بها ليقلق.

ثمة ربيع عربي ديموقراطي، من المحتمل أن ينتقل إلى مملكته. هنالك ثورة في سوريا المجاورة، التي يمكن لها أن تدفع اللاجئين إلى الجنوب. هنالك زيادة في تأثير إيران الشيعية، التي من المحتمل أن تؤثر سلبا على مكانة مملكته السنية.

لكن جميع هذه الأمور لا تكاد تذكر حيال الخطر الآخذ بالازدياد من جانب إسرائيل اليمينية المتطرفة.

بالنسبة له، يكمن الخطر الأكثر إلحاحا في زيادة القمع والاستيطان في الضفة الغربية. سيؤديان في يوم ما إلى هجرة الكثير من الفلسطينيين إلى الأردن وتغيير التوازن الديموغرافي بين المحليين والفلسطينيين في المملكة.

إن هذا الخوف هو الذي جعل والده، في فترة الانتفاضة الأولى، يقطع تواصله مع الضفة الغربية، التي تم ضمها إلى الأردن بعد حرب 1948. (إن مفهوم المصطلح "الضفة الغربية" هو أردني، من أجل التمييز بينها وبين "الضفة الشرقية"، وهي الأراضي الأصلية في المملكة).

إذا كانت "الأردن هي فلسطين"، فليس هنالك سبب لئلا تضم إسرائيل الضفة الغربية، تصادر أراض فلسطينية، توسع المستوطنات الحالية وتقيم مستوطنات جديدة، وبوجه عام "أن تقنع" الفلسطينيين بأن يبحثوا عن حياة أفضل على الضفة الشرقية من النهر.

لقد فكر الملك بذلك حين عبّر هذا الأسبوع عن قلقه في المقابلة التي حظيت بانتشار واسع. لقد طرح أيضا إمكانية الفدرالية بين الأردن والدولة الفلسطينية في الضفة الغربية. الهدف الواضح هو إفشال المؤامرات الإسرائيلية. ربما هو يرغب كذلك بإقناع الفلسطينيين بأن عملية كهذه ستقرب نهاية الاحتلال الإسرائيلي ويدفع قدما بطلبهم لأن يتم قبولهم كعضو كامل في الأمم المتحدة، دون أن يفرض الأمريكيون الفيتو.

يوضح مبادرو اقتراح القانون هذا أن هدفهم الأساسي هو في مجال "الإعلام". إنهم يؤمنون أن فكرتهم ستضع حدا لعزلة إسرائيل وانعدام شرعيتها في العالم. سيتقبل العالم أن الدولة الفلسطينية موجودة عبر الأردن، ولذلك لا حاجة إلى دولة فلسطينية ثانية.

إذا كان جلالة الملك يشعر بأن هنالك بُعد آخر، أكثر خطورة بكثير، في هذه العملية الدعائية، فإنه على حق. من الواضح إنه يفكر في أبعاد أكثر عمقا على المدى البعيد.

يعود ذلك إلى المأزق الأساسي لليمين الإسرائيلي، مأزق يبدو أن لا حل له.

في الواقع لم يتخلّ اليمين الإسرائيلي أبدا عن حلم "أرض إسرائيل الكبرى". معنى الأمر: رفض كلي لـ"حل الدولتين" بكل أشكاله، وإنشاء دولة يهودية من البحر إلى النهر.

في الواقع، سيعيش في دولة كهذه – في الوضع الراهن – 6 مليون من اليهود و 5.5 مليون من الفلسطينيين. (2.5 في الضفة الغربية، 1.5 في قطاع غزة و 1.5 آخرون هم مواطنون إسرائيليون). ثمة باحثون يعتقدون أن الأرقام أكبر من ذلك.

وفق جميع التنبؤات الديموغرافية، سيشكل الفلسطينيون قريبا جدا أغلبية في هذه المنطقة. ماذا سيكون عندها؟

يؤمن بعض المثاليون (أو يوهمون أنفسهم) أنه أمام الرأي العام العالمي، لن يكون أمام إسرائيل خيار سوى منح الجنسية لجميع السكان، بحيث تتحول المنطقة إلى دولة ثنائية القومية، أو متعددة القومية، أو لا قومية. لا حاجة للعد من أجل التأكد أن 99.999% من اليهود في إسرائيل سيعارضون هذه الإمكانية بكل ما أوتوا من قوة. فهذا هو النقيض التام لهدف الصهيونية.

الإمكانية البديلة هي أن تتحول هذه المنطقة إلى دولة أبارتهايد، ليس فقط بجزء منها وليس فقط عمليًا، وإنما كلها وبشكل علني. لن ترى الأغلبية العظمى من اليهود في إسرائيل ذلك جميلا. فذلك أيضا معارض لقيم صهيونية أساسية.

لا يوجد حل لهذا المأزق. وربما يوجد، رغم ذلك؟

يبدو أن الملك قلق لوجود مثل هذا الحل. إنه كامن، في الواقع، في ماهية الحلم بأرض إسرائيل الكبرى.

الحل هو تكرار نكبة 1948، لكن بأبعاد أكبر من ذلك.

معنى الأمر أنه في فترة من الفترات، حين تكون الظروف العالمية مواتية لذلك – كارثة كبرى عالمية تقيد الرأي العام العالمي في مكان آخر، حرب كبرى أو ما شابه – ستطرد الحكومة كل السكان غير اليهود. إلى أين؟ الجغرافيا تُملي الإجابة: إلى الأردن. أي إلى الدولة الفلسطينية التي كانت الأردن ذات مرة.

أعتقد أن كل إسرائيلي تقريبا يؤيد فكرة أرض إسرائيل الكبرى، يفكر بذلك في قلبه، إما عن وعي أو في عقله الباطني. ربما ليس كخطة تنفيذية للمستقبل القريب، لكن بالتأكيد كالحل الوحيد للمدى البعيد. تربيع الدائرة.

قبل أكثر من نصف قرن، نظم زئيف جبوتنسكي – مؤسس الحركة الإصلاحية والأب الروحاني لبنيامين نتنياهو – قصيدة حظيت بشعبية كبيرة بين أوساط المنظمة العسكرية الوطنية (التي التحقت بها حين كنت صغيرا جدا).

إنها أغنية جميلة، ذات لحن جميل. تقول لازمتها "ضفتان للأردن / هذه لنا، وهذه أيضا".

إن جبوتنسكي، مؤيد كبير لحركة الثورة الإيطالية في القرن الـ 19، كان وطنيا متطرفا وليبراليا حقيقيا أيضا. يقول أحد أبيات القصيدة: "سيرتوي هناك من الوفرة والثراء/ ابن العرب، ابن المسيحية وابني / لأن رايتي هي راية طاهرة ونزيهة/ ستطهر ضفتي الأردن".

لقد كان شعار "الإتسل" مؤلفا من خارطة أرض إسرائيل من ضفتي الأردن وعليها بندقية. لقد أصبح ذلك شعار حركة "حيروت" التي تزعمها مناحم بيغن، الحزب الأب لليكود.

إن فكرة الأبناء الثلاثة، الطهارة والنزاهة قد تخلى عنها اليمين الإسرائيلي منذ زمن. إن شعار "الأردن هي فلسطين" يقول إنه قد تنازل أيضا عن الضفة الشرقية من الأردن.

حقا؟