اوري افنيري 

يمكن لهذا أن يحدث هنا! / أوري أفنيري


لقد قلت قبل سنوات أنه ثمة عجيبتين فقط في إسرائيل: اللغة العبرية والديموقراطية.

كانت العبرية لغة ميتة طيلة عدة أجيال، أشبه باللغة اللاتينية إلى حد ما، حين كانوا لا يزالون يستخدمونها في الكنيسة الكاثوليكية. وعندها، فجأة، عادت إلى الحياة، إلى جانب الحركة الصهيونية (ولكن بشكل مستقل). لم يحدث هذا الأمر مع أي لغة أخرى.

لقد اعتقد بنيامين زئيف هرتسل أن إنعاش اللغة العبرية هو نكتة. لقد أراد أن نتحدث بالألمانية. "هل سيطلبون تذكرة قطار بالعبرية؟" هزأ قائلا.

وبالفعل، نحن نشتري الآن تذاكر طيران بالعبرية. نحن نقرأ التوراة كمصدرها، ونستمتع جدا. لقد قال آبا إبن أنه لو تم اليوم بعث الملك داوود في القدس، لتمكّن من فهم الحديث في الشارع. صحيح أنه بصعوبة ما، لأن اللغة العبرية آخذة بالفساد، كمعظم اللغات في العالم.

على أية حال، فإن مكانة اللغة العبرية مضمونة. الأطفال والحائزين على جائزة نوبل يتحدثون العبرية.

بالمقابل، فإن قيمة العجيبة الثانية ليست مضمونة أبدا.

مستقبل – وكذلك أيضا حاضر – الديموقراطية الإسرائيلية يكتنفهما ظلام الشك.

ديموقراطيتنا هي أعجوبة، لأنها لم تنشأ على مهلها مع مرور الأجيال، مثل الديموقراطية الأنجلو-ساكسونية. لم يكن هناك أي ديموقراطية في الاستيطان اليهودي، ولا يوجد أي ذكر للديموقراطية في تقاليدنا الدينية. ولكن الآباء مؤسسي الصهيونية، معظمهم أبناء غرب ومركز أوروبا، طمحوا إلى تحقيق المُثل الاجتماعية الأكثر سموا في وقتهم.

لقد حذرت دائما من أن جذور ديموقراطيتنا سطحية ورقيقة، تحتاج إلى رعايتنا في كل وقت. أين ترعرع اليهود الذين أسسوا إسرائيل وأولئك الذين قدموا إلى البلاد من بعدهم؟ تحت كنف دكتاتورية المفوَض السامي البريطاني، القيصر الروسي، دكتاتورية طبقة العمال، ملك المغرب، بولندا التابعة لبيلسودسكي وأنظمة مشابهة. أولئك منّا الذين أتوا من بلاد ديموقراطية مثل جمهورية فايمار في ألمانيا أو الولايات المتحدة، كانوا أقلية لا أهمية لها.

وعلى الرغم من ذلك، لقد نجح مؤسسو الدولة في دفع الديموقراطية إلى التألق، التي لم تقل – حتى عام 1967 على الأقل – عن القدوة الأمريكية أو البريطانية، وربما حتى تفوقت عليهما. كنا فخورين بها، وحظينا بإعجاب العالم بنا. لم يكن لقب "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" شعارا دعائيا فارغا من المضمون.

ثمة من يدّعون أن هذا الوضع كان قد انتهى مع احتلال الأراضي الفلسطينية، الواقعة منذ ذلك الحين تحت نظام عسكري قاس، لا يوجد فيه أي ذكر للديموقراطية ولحقوق الإنسان. فليكن الرأي حول ذلك ما يكون، لقد أقامت إسرائيل من الناحية العملية وضعا معقولا ضمن حدود الخط الأخضر – حتى الآونة الأخيرة. بالنسبة للمواطن العادي، كانت الديموقراطية لا تزال حقيقة من حقائق الحياة. حتى المواطنين العرب، المجحف بحقهم، تمتعوا بحقوق فاقت بكثير حقوق المواطن في أي بلاد عربية.

لقد كان كل ذلك هذا الأسبوع قيد الشك. وثمة من يقولون أن الشك قد تشتّت، وأن واقعا مخيفا قد ظهر.

تشارلز بويكوت، مدير أملاك مالك أحد أصحاب المزارع الإنجليز في إيرلاندا/ لم يكن قادرا على أن يتخيَل أنه على وشك لعب دور في بلاد تدعى إسرائيل، بعد 130 سنة من تحوّل اسمه إلى رمز عالمي.

لقد طرد النقيب بويكوت مستأجرين إيرلنديين لم يستطيعوا دفع رسوم الاستئجار في الوضع الاقتصادي اليائس الذي ساد في حينه. لقد ردّ الإرلنديون بسلاح من نوع جديد: قرروا ألا يتحدث إليه أحد، لا يعمل لديه أحد، لا يشتري منه أحد. لقد تحوّل اسم "بويكوت" إلى مرادف لهذا النوع من النشاط غير العنيف، الذي ندعوه بالعربية "مقاطعة".

الأسلوب ذاته قد سبقه. القائمة طويلة. من بينها: منذ العام 1830 فرض السود في الولايات المتحدة مقاطعة على المنتجات التي انتجها العبيد. بعد مرور 130 سنة، بدأت حركة حقوق الإنسان التي قادها السود في طريقها بفرض المقاطعة على شركة باصات في مدينة مونتغومري كانت قد حدّدت أماكن جلوس منفردة للبيض والسود. في حرب التحرير الأمريكية، فرض الثوار مقاطعة على البضائع البريطانية. هكذا فعل الماهاتما غاندي بعد مضي سنوات .

لقد فرض يهود الولايات المتحدة مقاطعة على سيارات هنري فورد، الذي كان لا ساميا معلنا. في العام 1933، فور تسلّم النازيين زمام السلطة، فرض اليهود مقاطعة في بلاد عديدة على البضائع الألمانية.

قاطع الصينيون اليابان التي اجتاحت بلادهم. قاطعت الولايات المتحدة الأوليمبياد في موسكو. قاطع أصحاب الضمير في كل العالم منتجات ورياضيو جنوب أفريقيا وساهمو بذلك مساهمة هامة في إسقاط نظام التمييز العنصري.

استخدمت جميع هذه الأنظمة حقا ديموقراطيا أساسيا: يحق لكل إنسان ان يرفض الشراء من أشخاص يمقتهم. يحق لكل شخص أن يرفض أن يدعم بماله أمرا يناقض إحساسه الأخلاقي العميق جدا.

هذا الحق هو الحق الذي يخضع الآن للاختبار.

في العام 1997 فرضت "كتلة السلام" مقاطعة على منتجات المستوطنات. نحن نؤمن بأن المستوطنات، التي هدفها المعلن هو منع إقامة الدولة الفلسطينية، تجعل مستقبل دولة إسرائيل يتعرض إلى الخطر.

حين عقدنا مؤتمرًا صحافيًا للإعلان عن المقاطعة، لم يحضره حتى صحافي إسرائيلي واحد. ولكن المقاطعة تسارعت. لقد كفّ مئات آلاف الإسرائيليون عن شراء منتجات من المستوطنات. لقد دفع الأمر الاتحاد الأوروبي إلى تفعيل البند، في الاتفاقية مع إسرائيل، الذي يحدد بألا تتمتع منتجات المستوطنات بامتيازات الجمرك التي تم منحها للمنتجات الإسرائيلية.

تعمل اليوم مئات المشاريع الاقتصادية في المستوطنات. لقد اضطروا أو استُدرجوا إلى الذهاب إلى هناك، لأن الأرض (المسلوبة) هناك أقل ثمنا بكثير من الأرض في إسرائيل. إنهم يتمتعون بالإعفاء الضريبي، بالمنح السخية وبالامتيازات الأخرى. بإمكانهم أن يستغلوا العمّال الفلسطينيين كما يحلو لهم وأن يدفعوا لهم أجرا مضحكا. يضطر الفلسطينيون إلى العمل لدى من يستغلونهم، لعدم وجود إمكانيات أخرى لإعالة عائلاتهم.

الهدف من وراء مقاطعتنا هو، من بين أمور أخرى، أن نكون وزنًا موازيًا. وبالفعل، لقد انعزمت بعض المصانع الكبيرة وخرجت من الأراضي المحتلّة، بالأساس في أعقاب الضغط من قبل مستثمريهم وزبائنهم. لقد فزع المستوطنون، ولذلك أمروا موظفيهم في الكنيست بسن قانون يمنع المقاطعة.

تمّ، يوم الثلاثاء الأخير، سن قانون "قانون المقاطعة"، وأدى إلى عاصفة لم يسبق لها مثيل في الدولة. غداة ذلك اليوم فورا، يوم الثلاثاء صباحا، قدّمت "كتلة السلام" إلى محكمة العدل العليا التماسا يحتوي على 22 صفحة لإلغاء القانون.

"قانون المقاطعة" ينم عن تفكير قانوني متعمّق. من الواضح أنه لم تتم صياغته من قبل الأصفار البرلمانيين الذين طرحوه، بل من قبل أفضل الأدمغة القانونية. وقد تم تعيين هؤلاء، على ما يبدو، من قبل أرباب الكازينوهات والمبشرين الإنجيليين نصف المجانين الذين يدعمون اليمين الإسرائيلي المتطرف.

أولا، يموّه القانون نواياه بشكل جيد. وكأنه أُقد تم إعداده لمكافحة "نزع شرعية" دولة إسرائيل في أرجاء العالم. إنه يمنع الدعوة إلى مقاطعة دولة إسرائيل، ومن ضمن ذلك، "الأراضي الواقعة تحت سيطرة إسرائيل". لأنه لا يوجد في إسرائيل دزينة من الأشخاص الذين يدعون إلى مقاطعة دولة إسرائيل، فمن الواضح أن الهدف الحقيقي والوحيد هو منع مقاطعة المستوطنات.

حوّلت مسودة القانون الأصلية المقاطعة إلى مخالفة جنائية. كان هذا ملائم جدا، لأننا كنا لنذهب بسرور إلى السجن بسبب هذا الأمر. ولكن القانون يفرض بالصيغة الأصلية عقوبات من نوع آخر، خطيرة إلى حد كبير.

ينص القانون على أن بإمكان كل مستوطن يدّعي أنه تضرر بسبب المقاطعة أن يطلب تعويضات غير محدودة من أي شخص أو منظمة ذات علاقة بالمقاطعة – من دون أن يضطر إلى إثبات أي ضرر. معنى ذلك أنه يمكن لكل واحد من الـ 300 ألف مستوطن طلب الملايين من كل ناشط واحد يدعو إلى المقاطعة، وبذلك تدمير حركة السلام بأكملها.

كما نذكر في الالتماس إلى محكمة العدل العليا، فإن القانون غير دستوري بشكل واضح. (صحيح، لا يوجد لإسرائيل دستور رسمي، ولكن المحكمة العليا قد قبلت المبدأ بأن "قوانين الأساس" تشكل مثل هذا الدستور من الناحية الفعلية).

أولا، يسلب القانون بشكل واضح الحق الأساسي في حرية التعبير. الدعوى إلى المقاطعة هي نشاط سياسي شرعي، لا يقل شرعية عن الدعوة إلى مظاهرة في الشارع، التعبير عن الرأي أو عريضة جماهيرية.

ثانيا، يناقض القانون مبدأ المساواة. لا ينطبق القانون على أي مقاطعة أخرى معمول بها الآن في إسرائيل: ابتداءً بمقاطعة الحاريديم للحوانيت غير الحلال (المناداة إلى مقاطعات كهذه ملصقة على الجدران في جميع الأحياء المتدينة في البلاد)، وانتهاء بالمقاطعة الناجحة لجبنة الكوتتج بسبب سعرها المرتفع. ستكون دعوة المجموعات اليمينية المتطرفة بمقاطعة الفنانين الذين لم يخدموا في الجيش قانونية، أما دعوة الفنانين اليساريين لعدم الظهور في المستوطنات فستكون غير قانونية.

لأن هذه البنود وما يشبهها في القانون تناقض بشكل واضح قوانين الأساس، فقد اتخذ مستشار الكنيست القضائي خطوة غير اعتيادية أبدا ونشر رأيا، يقول فيه أن القانون ليس دستوريا بشكل واضح ويناقض "جوهر الديموقراطية". حتى المستشار القانوني للحكومة، وهو السلطة القضائية العليا في السلطة التنفيذية، نشر بيانا رسميا يقول فيه أن القانون موجود "على حدود عدم الدستورية". ولكن لأنه خاف خوفا رهيبا من المستوطنين، أضاف أنه مستعد، على الرغم من ذلك، للمرافعة عن القانون في المحكمة. ستأتي فرصة ذلك عمّا قريب: لقد أمهلته محكمة العدل العليا شهرين فقط للرد على التماسنا.

تقوم مجموعة صغيرة من أعضاء الكنيست الجديرين بعدم الاكتراث بممارسة الإرهاب ضد معظم أعضاء الكنيست، ويمكنها أن تمرر فيها أي قانون ترغب به. قوة المستوطنين هائلة، واليمينيون المعتدلون يخافون بحق من أنهم إذا لم يكونوا متطرفين بما يكفي فلن يُدرجهم مركز الليكود في القائمة القادمة للكنيست. هكذا تنتج ديناميكية المنافسة غير المكبوحة – من يستطيع تمرير القانون الأكثر تطرفا.

لا شك في أن القوانين غير الديموقراطية تلاحق بعضها البعض. من بينها: قانون يمنع المواطنين العرب، عمليا، من العيش في مجتمعات محلية من 400 عائلة أو أقل. قانون يلغي مواطنة أشخاص تمت إدانتهم بـ "مساعدة الإرهاب". قانون يجبر الجمعيات على كشف التبرعات من المؤسسات الحكومية الأجنبية. قانون يمنح أفضلية في القبول إلى وظائف حكومية لمن خدم في الجيش (وبهذا يُخرج العرب من الحسبان). قانون يلغي حقوق التقاعد لأعضاء كنيست سابقين لا يمثلون للتحقيق في الشرطة (مثل عزمي بشارة). قانون يمنع ذكر "النكبة" (طرد العرب عام 1948). تمديد سريان مفعول القانون الذي يمنع المواطنين الإسرائيليين (العرب) من العيش في إسرائيل مع أزواجهم من الأراضي المحتلة).

ثمة قانون على وشك الإقرار يمنع الجمعيات من الحصول على تبرعات من الخارج بمبلغ 20 ألف شيكل فما فوق، قانون يفرض ضريبة دخل بقيمة 45% على جمعيات لا تعترف بها الحكومة، قانون سيجبر الجامعات على أداء النشيد الوطني الإسرائيلي في المناسبات العلنية، تعيين لجان تحقيق للتحقيق في تمويل الجمعيات اليسارية.

يحوم على الكل تهديد اليمين المتطرف الواضح بمهاجمة المحكمة العليا الليبرالية بشكل مباشر، سلب حقها في إلغاء القوانين غير القانونية ومنح الحكومة السيطرة على تعيين قضاتها.

قبل 51 سنة، عشية محاكمة أيخمان، كتبت كتابا عن ألمانيا النازية. سألت في الفصل الأخير: "هل يمكن لهذا أن يحدث هنا؟"

كانت إجابتي صحيحة في حينه، فكم بالحري الآن: "نعم، يمكن لهذا أن يحدث هنا!"