اوري افنيري 

تسونامي في مصر / أوري أفنيري


حاولت القيادة الإسرائيلية، حتى اللحظة الأخيرة، إبقاء حسني مبارك في سدّة الحكم.

كان ذلك بلا أمل. حتى الولايات المتحدة العظيمة وقفت عاجزة أمام التسونامي – غضب الجماهير في الميدان.

في النهاية، اكتفى الأمريكيون بالإمكانية الثانية، الأقل جودة: تأسيس دكتاتورية عسكرية موالية للغرب. ولكن هل ستكون هذه هي النتيجة بالفعل؟

عندما يواجه باراك أوباما وضعا جديدا، فإن رد فعله الأول يستحق بشكل عام الإعجاب.

بعد ذلك تأتي أفكار ثانية، وثالثة، ورابعة. والنتيجة النهائية تكون منعطفا يبلغ 180 درجة.

عندما بدأت الجماهير تحتشد في ميدان التحرير، كان رد فعله تماما كما فعل معظم الشرفاء في الولايات المتحدة، وفي العالم بأسره. جميعهم أعجبوا بالشباب والشابات الشجعان الذين واجهوا الشرطة السرية المرعبة، المخابرات، وطالبوا بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

كيف لم يكن بالإمكان أن نُعجب بهم؟ لقد كانوا غير عنيفين، كانت مطالبهم معقولة، نشاطهم كان ذاتيا، وكان واضحا أنهم يعبرون عن أحاسيس الأغلبية العظمى من الشعب المصري. من دون تنظيم محترم ومن دون قيادة، قالوا وفعلوا كل الأمور الصحيحة.

مثل هذا المشهد نادر في التاريخ. ما من محبي مقصلة متعطشين للدماء، ما من شيوعيين شجعان ينتظرون في الظل، ما من آيات الله يُملون العملية باسم الله.

لذلك أحب أوباما هذا الأمر. فهو لم يخف أحاسيسه. لقد طلب من الدكتاتور، بشكل علني تقريبًا، التخلي والانصراف.

لو كان أوباما مصرّا بهذه الطريقة، لكان للنتائج أن تكون ذات أهمية تاريخية. الولايات المتحدة، أكثر الدول العظمى المكروهة في العالم العربي، كان باستطاعتها أن تكهرب الجماهير العربية، العالم الإسلامي، وجميع دول العالم الثالث. كان يمكن لهذه أن تكون بداية عهد جديد تماما.

لديّ شعور بأن أوباما قد شعر بذلك. إن إحساسه الأول يكون صادقًا دائما. في مثل هذا الوضع يتبين الزعيم الحقيقي.

لكن عندها تأتي الأفكار الثانية. بدأ أشخاص صغار بخداعه. سياسيون، جنرالات، "خبراء أمنيون"، دبلوماسيون، محللون، وصوليون، رجال أعمال، جميع الأشخاص "ذوي الخبرة" – ذوي الخبرة بالفشل – بدأوا يضغطون عليه. وبالطبع، اللوبي الإسرائيلي ذو القوة الهائلة.

"هل أنت مجنون؟" - قالوا له. أن نتخلى عن طاغية من رجالنا؟ أنقول لطغاتنا في كل العالم أننا سنتخلى عنهم عند الشّدة؟

إلى أي مدى يمكنك أن تكون ساذجا؟ ديموقراطية في دولة عربية؟ أضحكتنا! نحن نعرف العرب! إذا قدمت لهم الديمقراطية على صينية، فلن يعرفوا الفرق بينها وبين وجبة من الفول! سيحتاجون إلى طاغية دائما لكي يحافظ عليهم! خاصة هؤلاء المصريون البؤساء! اسأل البريطانيين!

وعدا عن ذلك. ما هذه إلا مؤامرة يحيكها الأخوان المسلمون. ابحث في "غوغل" عنهم! إنهم الخيار الوحيد. يعني ذلك إما مبارك أو هم. إنهم الطالبان المصريون. والأنكى من ذلك، إنهم القاعدة المصرية! إذا قمت بمساعدة الديمقراطيين أصحاب النوايا الحسنة في إسقاط الحكم، فخلال وقت قصير ستكون لديك إيران ثانية، أحمدي نجاد مصري على حدود إسرائيل الجنوبية. إلى جانب حزب الله وحماس، سيُسقطون كافة الحكومات العربية، ابتداء من الأردن والسعودية وانتهاء بغيرهما، تماما كحجارة الدومينو.

تراجع أوباما أمام هؤلاء الخبراء. مرة أخرى.

يمكن بسهولة نقض كل تفصيل في هذه الرواية.

فلنبدأ بإيران. حسب الرواية، تخلى الأمريكيون السُذّج عن الشاه وعن شرطته السرية، التي قمنا نحن بتدريبها ، من أجل دفع الديمقراطية قدمًا. لكن آيات الله سيطروا على الثورة. لقد تبدّل طغيان الشاه الوحشي بدكتاتورية الخميني وورثته الأكثر وحشية. هذا ما قاله بنيامين نتنياهو، هذا الأسبوع، عندما حذر من أن الأمر ذاته على وشك الحدوث في مصر.

لكن قصة إيران الحقيقية مختلفة تماما.

في العام 1951، انتخب في إيران سياسي وطني يدعى محمد مصدق في انتخابات ديمقراطية – الأولى من نوعها في تلك الدولة. لم يكن مصدق شيوعيا، ولم يكن حتى اشتراكيا. لقد أحدث إصلاحات بعيدة المدى، قام بتحرير الفلاحين، وعمل بشكل مكثف على تحويل دولة متخلفة إلى دولة عصرية، ديمقراطية وعلمانية. لتمكين ذلك قام بتأميم صناعة النفط، التي كانت تحت سيطرة شركة بريطانية طمّاعة، كانت تدفع لإيران عائدات سخيفة. تظاهرت الجماهير في ميدان طهران المركزي من أجل مصدق.

كان رد الفعل البريطاني سريعا وحاسما. أقنع ونستون تشرشل الرئيس دويت آيزنهاور بأن مصدق سيحوّل إيران إلى تبِِعة للاتحاد السوفييتي. في العام 1953 أحدث السي آي إيه انقلابا. اعتقل مصدق وبقي في السجن حتى وفاته. تم إرجاع النفط إلى البريطانيين. الشاه، الذي هرب قبل ذلك، أعيد إلى ما سابق عهده وقاد نظام حكم الرعب، الذي استمر حتى ثورة الخميني، بعد مرور 26 عاما.

لولا هذا التدخل الأمريكي لربما تحوّلت إيران إلى ديمقراطية علمانية وليبرالية مستقرّة.

إن تحذير نتنياهو بأن مصر ستقع في أيدي الأخوان المسلمين في حال جرت هناك انتخابات ديمقراطية، هو تحذير يبدو منطقيا إلى حد كبير، ولكنه مدحوض بالدرجة ذاتها.

هل سيحكم الأخوان المسلمون؟ هل هم متطرفون على شاكلة طالبان؟

ولدت منظمة الأخوان المسلمين قبل 80 عاما، قبل فترة طويلة من ولادة أوباما ونتنياهو. على مر هذه السنوات، استقرت الحركة وتعاظمت. يوجد فيها جناح ليبرالي قوي، شبيه بالحزب الإسلامي الديمقراطي الحاكم في تركيا بنجاح كبير جدا، وهي تحاول تقليده. إذا قامت مصر ديمقراطية، فستشكل الحركة فيها حزبا شرعيًا كسائر الأحزاب، المدمجة في العملية الديمقراطية.

(هذا، بالمناسبة، كان سيحدث أيضا مع حماس في فلسطين، عندما فازت الحركة في انتخابات ديمقراطية – لو لم يقم الأمريكيون، بتوجيه من زعمائنا ، بإسقاط حكومة الوحدة التي تم تأليفها ودفع حماس إلى اتجاه معاكس).

المصري العادي هو شخص متدين، لكن إسلامه بعيد عن النوع الراديكالي. ليست هناك أية إشارة إلى أن الشعب، الذي يمثله الشباب في الميدان، سيتحمل نظام حكم متدين متطرف. الفزاعة الإسلامية اسم على مسمّى: فزاعة.

إذن ماذا سيفعل أوباما الآن؟ كانت خطواته هذا الأسبوع بائسة، إذا صح التعبير غير المبالغ به.

فبعد أن انقلب ضد مبارك، وافق فجأة على أن مبارك يجب أن يبقى في الحكم، من أجل قيادة الإصلاحات الديمقراطية. لقد أرسل إلى مصر محام قامت شركته بتمثيل عائلة مبارك (مثلما أرسل بيل كلينتون يهودًا صهيونيين "للوساطة" بين إسرائيل والفلسطينيين).

هل سيقود الطاغية الممقوت ديمقراطية، سيقوم بسن دستور ليبرالي جديد، سيتعاون مع الأشخاص ذاتهم الذي زجّ بهم في السجن وعذبهم بشكل منهجي؟ طوبى لمن يصدق ذلك.

كان خطاب مبارك المؤسف أمس الأول هي القشة التي فصمت ظهر البعير المصري. لقد أظهر أنه قد فقد أي صلة بالواقع، وربما حتى أنه أصيب بمرض نفسي. لكن حتى الطاغية المجنون لم يكن ليلقي خطابا كهذا لو لم يؤمن أن الأمريكيين لا يزالون إلى جانبه. هدير الغضب الذي تعالى من الميدان حين كان الخطاب المسجل في ذروته، شكّل الإجابة. لم تكن هذه الإجابة بحاجة إلى مترجمين.

ولكن أمريكا كانت قد تزحزحت. إن أداتها الرئيسية في مصر هو الجيش. الجيش هو من يُمسك الآن بيديه مفتاح المستقبل القريب. عندما اجتمع "المجلس العسكري الأعلى" في اليوم الخامس، قُبيل الخطاب المخزي، وأصدر "البيان رقم 1"، كانت الآمال ممزوجة بمخاوف كبيرة.

الماركة "بيان رقم 1" معروفة في التاريخ. إنها تقول أن جماعة من الضباط قد استولت على الحكم. إنها تعد بشكل عام بالديمقراطية، انتخابات قريبة، وفرة اقتصادية وجنة على الأرض. في حالات نادرة يفي الضباط بوعودهم بالفعل. ولكن في معظم الحالات تمخضت عن ذلك دكتاتورية عسكرية من النوع الأسوأ.

في هذه المرة، لم يشر البيان إلى أي شيء. ظهر المجلس على التلفاز وبيّن أنه موجود هناك – جميع كبار الجنرالات، من دون مبارك ومن دون خادمه، عمر سليمان.

لقد استلموا هم الحكم الآن. بهدوء، ومن دون سفك للدماء، للمرة الثانية خلال 60 عاما.

يجدر بنا أن نتذكر المرة الأولى. كان ذلك بعد فترة من الشغب ضد البريطانيين، أحدثت مجموعة من الضباط الشباب انقلابا. كانوا جنودا مخضرمين من الحرب ضد إسرائيل في العام عام 1948، واختبئوا في البداية من وراء ظهر جنرال ذو أقدمية يثير الثقة. وقد تم طرد الملك فاروق، ذلك الحاكم الذي احتقره الجميع. لقد استقل الياخت الخاص به في الاسكندرية وأبحر إلى مونت كارلو. لم تُسفك قطرة دم واحدة.

ابتهج الشعب. لقد أحب الجيش والانقلاب. ولكن هذه كانت ثورة جاءت من الأعلى. لم تحتشد الجماهير في ميدان التحرير.

حاول الجيش في البداية أن يحكم بواسطة سياسيين مدنيين. ولكن سرعان ما كُره هؤلاء. وقد تحوّل ضابط شاب وذو حضور، الميجر جنرال جمال عبد الناصر، إلى القائد الأعلى. لقد قاد إصلاحات بعيدة المدى، أعاد الكرامة إلى المصريين وإلى العالم العربي بأسره – وأسس الدكتاتورية التي قضت نحبها البارحة.

هل سيقلّد الجيش المصري هذا المثال، أم أنه سيتصرف كما فعل الجيش التركي عدة مرات، حين استولى على الحكم وسلمه إلى حكومة مدنية منتخبة؟

كثير من هذه الأمور ستكون متعلقة بأوباما. هل سيدعم قيادة ديمقراطية، كما سيملي عليه قلبه من دون شك، أم أنه سيتصرف وفق نصيحة "الخبراء"، ومن بينهم الإسرائيليون، الذين سينصحونه بالاعتماد على دكتاتورية عسكرية، كما يفعل الرؤساء الأمريكيون منذ وقت طويل؟

أيا كان تصرفه، فإن الفرصة الوحيدة التي توفرت للولايات المتحدة، ولأوباما بشكل خاص، أن يكونوا قدوة للعالم عن طريق قيادة لامعة في اللحظة التاريخية، عند بدء الثورة قبل 19 يوما – قد تم تفويتها.

أما بالنسبة لنا، نحن الإسرائيليون، فهنالك عبرة إضافية من التاريخ. عندما قام "الضباط الأحرار" بثورتهم عام 1952، سُمع في إسرائيل صوت واحد كان ينادي بدعمهم. كان ذلك صوت مجلة "هعولام هازيه"، التي كنت أنا رئيس تحريرها. أما الحكومة فقد فعلت العكس، وضاعت الفرصة التاريخية في اكتساب مودّة الشعب المصري.

أشعر أننا سنرتكب الآن الخطأ ذاته. يبدو التسونامي في إسرائيل ككارثة طبيعية مخيفة، وليس كما هو: فرصة رائعة لعقد تحالف مع الشعب المصري.