اوري افنيري 

العالم ليس مسخّا


إسرائيل هي، كما هو معروف، بلاد اللا إمكانيات غير المحدودة.

على سبيل المثال، يعلن اليوم الدبلوماسيون في إسرائيل الإضراب.

إضراب دبلوماسيين؟ هذا غير ممكن! سُعاة البريد يُضربون. عمال الموانئ يُضربون. لكن الدبلوماسيين؟ أكثر الناس مؤسساتية وأكثرهم محافظة؟ الأشخاص الذين يخدمون جميع حكومات إسرائيل على اختلافاتها؟ الذين يعللون أي إثم، وليكن ما يكون؟

إذن، هذا الأمر ممكن في إسرائيل. توقف جميع العاملين في وزارة الخارجية عن العمل. لا يتم إصدار جوازات سفر جديدة للإسرائيليين الذين يضيّعون مستنداتهم في موسكو. لا يتم مد يد العون للإسرائيليين الذين يُسجنون في نيو يورك. لا يجرى التحضير لزيارة بنيامين نتنياهو إلى باريس.

عانى العاملون في وزارة الخارجية، طيلة سنوات، من شروط عمل مُخزية. رواتبهم متدنية إلى حد المهزلة. لذلك فهم أيضا يضربون.

هل يثير ذلك حفيظة رئيس الحكومة؟ هل يتأثر وزير الخارجية؟ لا أبدا. لا يخرج بنيامين نتنياهو من جلده ليضع حدا للإضراب، ولا يفعل أفيغدور ليبرمان شيئا لإعادة مستخدميه إلى العمل. كلاهما لا يكترثان. بل على العكس، فهما يبدوان وكأنهما سعيدان. من ناحيتهما، فليضربوا إلى الأبد.

وبحق. اتضح هذا الأسبوع للجميع كم هو جيد ذلك.

كان من المزمع أن يقوم الرئيس الروسي، ديمتري مدفيدف، بزيارة إسرائيل. لكنه قبل ذلك قام بزيارة أريحا التي تعتبر من أقدم مدن العالم. لقد صرح هناك، بحضور الرئيس أبو مازن، بأن روسيا قد اعترفت منذ زمن بالدولة الفلسطينية، وأنها ستواصل الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة خاصة بهم، عاصمتها القدس الشرقية.

ليس ذلك دقيقا تماما. لم تكن روسيا هي من اعترف بفلسطين، وإنما الاتحاد السوفييتي. وكان هذا الاعتراف بدولة مجرّدة، كان قد أعلن عنها ياسر عرفات عام 1988. لا يشبه ذلك الاعتراف بالدولة الفلسطينية الآن، تلك التي بدأت ترتدي حلة بعد الأخرى.

كان ينبغي بمدفيدف، بعد زيارته إلى أريحا، أن يأتي إلى القدس، أن يظهر إلى جانب بنيامين نتنياهو وأن يصافح أفيغدور ليبرمان. كيف كان يفترض بنتنياهو أن يرد على تصريح أريحا؟ كيف كان بإمكانه أن يتملص من الموضوع، من دون أن يذل نفسه أو أن يهين أكبر دولة في العالم؟

تم منع هذه المصيبة بسبب إضراب الدبلوماسيين الإسرائيليين. لقد رفضوا التجهيز للزيارة وترتيب اللقاءات. تنازل مدفيدف، والقائدان المرموقان – نتنياهو وليبرمان – تنفسا الصعداء.

من المؤكد أن ليبرمان يكنّ العرفان من كل قلبه للعاملين في مكتبه، هؤلاء الذين يكرههم. لقد أنقذوه. ماذا كان بوسعه أن يقول لمدفيدف؟ منذ أن دخل إلى منصبه كدخول دب إلى حانوت للخزف، تفاخر بعلاقاته الرائعة مع روسيا. هل يمقته الأمريكيون بشكل علني؟ ماذا في ذلك؟ أمريكا هي إمبراطورية آخذة في الأفول. والأوروبيون ليسوا على استعداد لمقابلته. ماذا في ذلك؟ من هم أصلا؟

لكن روسيا، يا لروسيا، هي صديقة حقيقية. إن ليبرمان يعبُد بوتين، الديمقراطي الفذ، الذي يعرف كيف يتعامل الشعوب الوقحة كالشيشانيين. ليبرمان يتحدث معه بلغته الأم. لقد تفاخر بأنه أسس علاقات سرية حقيقية مع روسيا. والآن ها هم يتصرفون معه على هذا النحو. يا للعار.

ولكن الحقيقة هي أن ليس بوتين هو صديقه. يوجد لأفيغدور ليبرمان صديق حقيقي واحد في العالم: ألكسندر لوكاشنكو، رئيس روسيا البيضاء، "الدكتاتور الأخير في أوروبا".

صحيح أن ليبرمان لم يولد في روسيا البيضاء، بل في مولدافيا المجاورة. لكن لا شك في أن روسيا البيضاء هي وطنه الثاني. إنه يقضي إجازاته في مينسك، عاصمتها. هناك اختبأ حيث أراد (ونجح أيضا) في ابتزاز نتنياهو، عندما توسل إليه الأخير بالانضمام إلى الائتلاف.

لأن لوكاشنكو هو توأم روحه. إنه مثال يُحتذى به. لقد تعلم منه أيضا كيف يتم التعامل مع جمعيات حقوق الإنسان. هذا الاختراع هو ملكيّة لرئيس روسيا البيضاء، وليس لزعيم "إسرائيل بيتنا". كان لوكاشنكو هو من أرسل تحذيرا رسميا لقادة النضال من أجل حقوق الإنسان في بلاده وهددهم بعقوبات صارخة إذا استمروا "بتحريف المعلومات" حول روسيا البيضاء.

وجاء في التحذير الخطي أن "وزارة العدل تحذر الجمعيات من خرق قانون الجمعيات ووسائل الإعلام، ومن نشر معلومات مشكوك بأنها تلحق الضرر بمؤسسات تطبيق القانون وبالجهاز القانوني في الجمهورية". نفذت الشرطة تفتيشات في مكاتب الجمعيات، والكي جي بي (نعم، تتم حتى الآن دعوة الشرطة السرية في روسيا البيضاء بهذا الاسم) تدخلت في القضية.

لقد استقى ليبرمان إلهامه من هناك، حين شن حربه ضد ناشطي السلام وحقوق الإنسان في إسرائيل، الذين أطلق عليهم، هذا الأسبوع، لقب "داعمي الإرهاب". أنا لا أتحدث اللغات السلافية، لكني على يقين من أن كل ذلك يبدو أكثر دقة في اللغة البلاروسية منه في العبرية.

يمكن أن نضحك (مؤقتا) من ادعاء ليبرمان بأن منظمات السلام وحقوق الإنسان تسبب نزع شرعية دولة إسرائيل، وخاصة نزع شرعية جنود الجيش الإسرائيلي.

ولكن لا يمكن أن نضحك من نزع الشرعية ذاتها. إن عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين آخذ بالازدياد، لتوجّه بذلك صفعة إلى حكومة نتنياهو.

عندما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني قبل 22 عاما عن تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة، اعترفت بها 110 دولة. تم في جميعها رفع مستوى التمثيل الفلسطيني إلى درجة السفارة. تجاهلت حكومة إسرائيل ذلك. حسب رأيها، كان ذلك إعلانا واعترافا عديمي المضمون. لم يغير ذلك شيئا في الوضع الفعلي على أرض الواقع. كانت بؤرة استيطانية جديدة واحدة في الضفة الغربية أكثر أهمية في نظر الحكومة من رأي مئة دولة. "عالم ممسوخ" – العالم هو مسخ – يقولون بالإيديش.

لكن الموجة الجديدة للاعتراف بفلسطين هي مسألة مختلفة تماما. حين تعترف بفلسطين دول مهمة كالبرازيل، الأرجنتين وتشيلي، وتجر ورائها مجموعة من دول أمريكا الجنوبية، فإنه لذلك معنى. عندما تجدّد روسيا اعترافها، على لسان صاحب أعلى صلاحية في روسيا وعلى أرض فلسطينية، فهذه حقيقة مهمة. وإذا كان أحدهم يعتمد على الدعم الأمريكي القوي كالصخر، أساس وجودنا، فمن الجدير به أن ينتبه إلى معلومة صغيرة ظهرت هذا الأسبوع: حازت الممثلية الدائمة لمنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن على الحق برفع العلم الفلسطيني فوق مقرّها، فذلك حق محفوظ للسفارات فقط.

يتم هنا طبخ سيناريو مثير. اعترف حتى الآن ثلثا دول العالم بدولة فلسطين، والحبل على الجرار. هذه لم تعد سوى دول العالم الثالث الصغيرة، بل دول لها مكانتها في العالم. يقوم أبو مازن وسلام فياض، بهدوء وباجتهاد، بتأسيس مؤسسات الدولة الفلسطينية. إنهما يستثمران جهودهما في التطوير، يقيمان مدينة جديدة شمالي رام الله، يحدّان من صلاحيات قوى الأمن ويحظيان بتشجيع ودعم من حكومات العالم.

ماذا في ذلك؟ - يسأل الإسرائيلي العادي. في نهاية الأمر يثبت غير اليهود، مرة أخرى، بأنهم لا ساميون، لكن ما المهم في ذلك؟ نحن المسيطرون على الأرض، ولن تغير ذلك أية أعمال دبلوماسية. وطالما كنا نحظى بالدعم الأمريكي غير المتحفظ، يمكننا أن لا نهتم.

هل هذا صحيح؟ لقد تمكنّا، طيلة سنوات، من الاعتماد على الأمريكيين بأعين مغمضة. تم التصدي لكل قرار "معادٍ لإسرائيل" بفرض فيتو أمريكي صارم. لكن هل هذا الأمر ما زال مضمونًا؟ حين تعترف جميع الدول الهامة في العالم بدولة فلسطين، هل ستستطيع الولايات المتحدة أن تكون المعارضة الوحيدة؟

في وقت تعلن الدبلوماسية الإسرائيلية فيه إضرابها، تتشكل في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مبادرة لاستنكار المستوطنات. يعارض العالم كله هذه المستوطنات التي هي بشكل جلي غير قانونية بموجب القانون الدولي. طالبت الولايات المتحدة بتجميدها. هل ستستطيع الولايات المتحدة فرض حق النقض الفيتو على قرار يعبر عن سياستها الذاتية؟ وإذا فعلت ذلك في هذه المرة أيضا، فماذا سيحدث في المرة القادمة، وفي المرة التي ستليها؟

وحتى لو أن حق النقض "الفيتو" لا يزال يبسط سيطرته على مجلس الأمن - فليس الأمر كذلك في الجمعية العمومية التابعة لهيئة الأمم المتحدة. إن الجمعية العمومية - وليس مجلس الأمن – هي من قررت عام 1947 أن تقام في البلاد، دولة يهودية ودولة عربية الواحدة إلى جانب الأخرى. هنالك شوارع في كافة المدن الإسرائيلية يُطلق عليها اسم ذلك القرار. إذا قرر المجلس الآن أنه قد حان الوقت لتحقيق القسم الثاني من القرار - إقامة الدولة العربية – فإن ذلك سيقوي الموجة العالمية أكثر فأكثر للاعتراف بفلسطين.

الحكومات العربية، التي دفعت حتى الآن ضريبة كلامية من أجل الدولة الفلسطينية ولم تحرك ساكنا للمساعدة في إقامتها – ستحتاج الآن هي أيضا لإعادة التفكير.

تدور في تونس الآن ثورة شعبية ضد الدكتاتورية، التي كانت تشبه كافة الأنظمة الدكتاتورية العربية الأخرى - نخبة صغيرة وفاسدة، لا تكترث لإرادة الشعب وتتعاون بشكل علني أو خفي مع إسرائيل.

طيلة السنوات الثلاث عشرة التي أقام فيها ياسر عرفات في تونس، زرت هذه الدولة مرات عديدة. كنت أعلم دائما أنه تحت الواجهة الليبرالية الجميلة تختبئ دولة شرطة عنيدة ومضطهدة. لكن عندما رأيت التونسيين الذين يمشون في الشارع وعلى آذانهم زهرة ياسمين عطرة– لم يخطر ببالي أن هنا بالذات ستنشب الثورة الشعبية العربية الأولى.

وها قد حدث ذلك. وفي تونس بالذات. هذا تحذير خطير للحكام في جميع الدول العربية، من المغرب حتى عمان. ستسقط الدكتاتوريات، ستكون هنالك محاولة لإقامة حكومات ديمقراطية ناجعة، وإذا لم ينجح ذلك – ستقام حولنا أنظمة حكم إسلامية.

هذه أول البشائر. تسير بنا حكومة إسرائيل الحالية نحو الهاوية. ولكن هذه الحكومة قد قويت، هذا الأسبوع بالذات، عندما تنازل إيهود باراك، نابوليون في طبعة للجّيب، بشكل نهائي عن أي طموح للانضمام إلى اليسار الاجتماعي-الديمقراطي وأقام كتلة يمينية معلنة، تكون بمثابة ليكود ب، لتكون شريكة مخلصة لنتنياهو وليبرمان.

إن الدولة التي يوجد لديها مثل هؤلاء الزعماء، لن تكون بحاجة إلى أعداء.