اوري افنيري 

خبز وسيرك / أوري أفنيري


لقد فوجئت جدا حين أبلغوني، في أواخر العام 1976، أن رئيس الحكومة اسحق رابين يدعوني للقاء شخصي في منزله.

لقد فتح لي الباب بنفسه، قدم لي كأس ويسكي، وسكب كأسا له أيضا، وبدأ الحديث من دون مقدمات: "قل لي، أوري، هل قررت القضاء على كافة الحمائم في حزب العمل؟

قبل بضعة أسابيع من ذلك الوقت، بدأت مجلة "هعولام هازيه" سلسلة من كشف النقاب عن أعمال الفساد التي اقترفها العميد المقترح لبنك إسرائيل، آشر يدلين. عشية ذلك الحديث، بدأنا سلسلة من الشكوك لأعمال فساد قام بها وزير الإسكان، أبراهام عوفر. كلاهما كان من زعماء معسكر "الحمائم" في الحزب.

أجبته أنه ليس بإمكاني، لمزيد الأسف، أن أمنح حصانة لسياسيين فاسدين، حتى وإن كانت مواقفهم السياسية قريبة من مواقفي. الآراء أمر والفساد أمر آخر.

رويت ذلك هذا الأسبوع في نقاش حول الفساد تم إجراؤه في جامعة تل أبيب، فور إصدار كتاب البروفيسور يوسي شاين حول "لغة الفساد".

تمت دعوة طاقم مختلط جدا للنقاش. شمل الطاقم وزيري عدل سابقين – يوسي بيلين، زعيم "مبادرة جنيف" ودنيئيل فريدمان، الذي أثارت هجماته القاضية على محكمة العدل العليا، في حينه، معارضة شديدة؛ يديدياه شطاين، مفكر متدين-وطني يدعو إلى التفاهم مع العلمانيين والجنرال (احتياط) يتسحاك بن يسرائيل، من أفراد سلاح الجو ووكالة الفضاء الإسرائيلية، وهو عضو في الكنيست السابقة من حزب "كاديما". وقد قال عنّي ميسّر اللقاء أنني أنا من أسس الصحافة المحققة وكشف النقاب عن فضائح فساد زعزعت الدولة.

هاجم البروفيسور شاين بشدة كاشفي الفساد، ومن ضمنهم القضاة، رجال الشرطة والمدعون العامّون. لقد ادعى أنهم يشكلون خطرا على الديموقراطية الإسرائيلية ويكيدون للثبات الوطني. هاتان الكلماتان -"الثبات الوطني" – تميّزان اليمين لدينا.

وبالفعل فالجميع يعرفون أن فضائح الفساد أصبحت تستحوذ مؤخرا على مكان مركزي في الحياة الوطنية. ينتظر رئيس الدولة السابق إصدار قرار حكم بحقه لاتهامه بالاغتصاب، رئيس الحكومة السابق متهم بالحصول على رشوة بأحجام هائلة، وزير مالية سابق يقبع في السجن، وزير كبير تمت إدانته بعمل مشين لأنه أولج لسانه في فم ضابطة (كان ذلك في اليوم الذي قررت فيه الحكومة شن حرب لبنان الثانية)، وزارة الخارجية موجودة في خضمّ تحقيق منذ سنوات، وقائمة السياسيين، الموظفين الكبار والضباط الذين يتواجدون في مراحل مختلفة من التحقيقات والمحاكمات، لهي قائمة طويلة.

لا يعالج كتاب شاين الفضائح ذاتها. إنه يركّز على المكانة التي تحظى بها هذه الفضائح في النقاش العام. أعتقد أنه يجب شطبها من العناوين وإبعادها عن مركز الحلبة.

يوجد لادعاءاته ما يمكنها أن تتمسك به.

تتصدر اكتشافات الفساد في العناوين الرئيسية، في العديد من الأحيان، المكان الذي كان يجب أن يكون مخصصا لمواضع يمكنها أن تقرر مستقبلنا.

لنأخذ على سبيل المثال، فضيحتين حاليّتين.

الفضيحة أ: صادقة لجنة الكنيست على اقتراح قانون يتيح لـ"لجنة القبول" في البلدات الجماهيرية، التي يصل تعداد سكانها إلى 500 عائلة، أن تمنع قبول مرشحين لا يروقون لها.

يأتي القانون، الذي ستتم المصادقة عليه في الأيام المقبلة، ليتخطى قرار حكم المحكمة العليا، الذي يقضي بأن رفض قبول العرب في هذه البلدات هو أمر غير قانوني. إن نص القانون هو بمثابة إعمال فكر من البهلوانية اللغوية، وذلك بهدف منع ذكر كلمة "عربي". ولكن القصد معروف لدى الجميع.

يُستشف من البحث التي أجرته جمعية "عدالة"، أن البلدات الـ 695 التي ينطبق القانون عليها تستحوذ على معظم الأراضي التابعة للدولة (والتي تمت مصادرة جزء كبير منها من الجمهور العربي منذ قيام الدولة). لا يوجد أي ساكن عربي في أي منها.

هذه حكاية أبارتهايد علني، من النوع الذي كان منتهجا في الولايات المتحدة ضد اليهود والسود. لقد أكل الدهر عليها وشرب منذ 50 سنة. إنها متعلقة بجوهر دولة إسرائيل. إنها تحوّل مشكلة وجود 20% من مواطني الدولة إلى قنبلة موقوتة.

لقد أعلن الحاخام الأكبر في صفد، منذ فترة وجيزة، وهو موظف حكومي، أن بيع أو تأجير الشقق للعرب هو بمثابة خطيئة. كانت مدينة صفد، قبل عام 1948، مدينة مختلطة وفيها أغلبية عربية. أبو مازن وُلد فيها. أعلن الحاخام عوفاديا يوسف، أول أمس، وهو منارة مئات آلاف اليهود الشرقيين، أن بيع الأراضي للـ"غرباء" - أي للعرب الذين عاشوا في البلاد منذ 1300 سنة قبل أن يأتي الحاخام عوفاديا إلى هنا ممنوع منعا باتا.

الفضيحة ب: نشر أحد الضباط الكبار مستندا، كان من شأنه أن يصف مكيدة من قبل رئيس الأركان القادم (يوآف غلانط) لتلطيخ سمعة رئيس الأركان الحالي (غابي أشكنازي). المستند هو مستند مزوّر، وتشهد الكثير من الإشارات أن مصدره يعود إلى بيئة رئيس الأركان أشكنازي. وقد اتضح أن الضابط المزوّر هو صديق أشكنازي وزوجته. وقد شرع مراقب الدولة بالتحقيق في هذه الفضيحة.

هذه فضيحة ذات عصارة كبيرة حسب جميع الآراء. مكائد في القيادة الكبرى في الجيش.

كيف تم التطرق إلى هاتين الفضيحتين في وسائل الإعلام؟ تم ذكر قضية لجنة القبول مرّة أو مرّتين. أما قضية "مستند غلانط" فيسطع نجمها في وسائل الإعلام منذ أشهر، والاحتفال في بدايته فقط.

لا شك في أن فضائح الفساد الكبيرة تساعد وسائل الإعلام - والجمهور بأكمله - في إبعاد المواضع المركزية التي تخص وجودنا: الاحتلال، القضاء على احتمالات السلام، توسيع المستوطنات، الطوق المتواصل على غزة، القوانين العنصرية ضد الأقلية العربية في إسرائيل، كافة المخاطر النابعة من الحرب التي أصبح عمرها 130 سنة بيننا وبين الفلسطينيين.

لا يرغب الجمهور أن يسمع عن هذه الأمور. إنه يريد أن تتلاشى هذه الشؤون من أمام أعينه وأن تدعه يستمتع بحياته. هذه مناورة وطنية للتهرب من الواقع. من الأسهل بكثير التعامل مع مستند مزيّف موضوع في خزنة أشكنازي من التعامل مع جرائم الحرب التي تم تنفيذها خلال حملة "الرصاص المسكوب"، والتي قادها أشكنازي.

من الأسهل أن نتسلى بالشؤون الشخصية الخاصة بزعمائنا الذين يتعثرون في حياتهم اليومية: العاملة الفلبينية غير القانونية التي تم تشغيلها في بيت براك، خداع تذاكر الرحلات الجوية لإيهود أولمرت، لسان رامون الطويلة، الرشوة التي تلقتها شخصيات مرموقة في القدس بهدف إقامة المبنى الديناسوري في وسط المدينة.

لقد منح حكام روما الشعب panem et circensis ("خبز وألعاب سيرك")، لكي يموّهوا أفكارهم عن شؤون الدولة. فضائح الفساد المتتالية تشكل ألعاب السيرك لدينا.

في تلك السنوات التي كنت أحرّر فيها مجلة "هعولام هازيه" وقد خضنا معركة ضد الفساد السلطوي، كنت أدرك الخطورة الكامنة في هذه المعركة.

لقد أقلقتني، في أكثر من مرة، فكرة أننا حين نكشف الأعمال الملتوية التي ينفذها السياسيون الفاسدون، ألسنا نجعل الجمهور يمقت السياسيين جميعا، والسياسة ذاتها؟ ألسنا نمد يد العون لخلق جوّ من "كلهم فاسدون" وحفر هوّة عميقة بين الجمهور والسياسة؟

إذا كانت السياسة تفوح رائحة نتنة، فلن يختار الجيدون المستقبل السياسي لأنفسهم. سيتم التخلي عن السياسة كلها لتبقى بين أيدي قليلي المهارات وقليلي الذكاء، ذوي المستوى الأخلاقي المتدني وحتى الأسس الجنائية. لقد أصبح هذا الأمر واضحا الآن في الكنيست.

من شأن السياسة والسياسيين أن يمهدوا الطريق للفاشية. تستغل جميع الحركات الفاشية في العالم احتقار السياسيين لتثير في الجمهور الحنين إلى "رجل قوي"، ليطرد الأوغاد و"يبسط النظام".

كل هذا من شأنه أن يؤدي إلى استنتاج يقضي بالتخلي عن مكافحة الفساد، وخاصة التحدث عنه.

ولكن هذا استنتاج خطر للغاية.

إن المجتمع الذي يمنح حصانة للزعماء المفسدين يحفر قبره بنفسه. لقد تعفنت الجمهورية الرومانية من الداخل وانهارت. هذا ما حدث أيضا لدول كثيرة منذ ذلك الحين، وفي جيلنا هذا أيضا. ليس الحديث عن الفساد هو الذي يدمّر الديموقراطية، بل الفساد ذاته. لا يمكن كنس الفساد لإخفائه تحت البساط لفترة طويلة. حتى وإن توقفت وسائل الإعلام عن إقامة الطقوس من حول الفساد، فإن الإشاعات حوله تنتشر بين الجمهور وتزيد عدم الثقة بالسلطة أكثر فأكثر.

حين يقوم الوزراء بإشغال أكبر المناصب في الخدمات العامة بأشخاص يتمتعون بالوساطة الحزبية أو بالمقربين منهم، فإن إدارة شؤون الدولة والتوزيع المالي يُسندا إلى أشخاص غير ماهرين و/أو غير نزيهين. يتم إقصاء الجيدين والماهرين بواسطة "التعيينات السياسية". حين يتم شراء السياسيين – بكل بساطة - من قبل أرباب الأموال، فإنهم يضطرون للعمل لمصلحتهم، خلافا للمصلحة العامة. تنخفض جودة الزعماء - والزعماء ذوو الجودة السيئة يحددون مصيرنا فيما يتعلق بالحياة أو بالموت، بالحرب أو بالسلام.

هذه ليست مشكلة إسرائيلية فقط. يسيطر الفساد في دول عديدة. ثمة من يدعي أن الولايات المتحدة أكثر فسادا من إسرائيل. لقد فتحت المحكمة العليا هناك الباب على مصراعيه منذ فترة وجيزة، حين سمحت لأرباب المال الكبار بشراء السياسيين بشكل علني تقريبا. صحيح أن الأمر ليس كما هي الحال لدينا، فالسياسي الأمريكي الذي يسقط في مصيدة الفساد المالي، يتم إبعاده على الفور. (هل تذكرون الأقوال الأبدية التي تفوه بها نائب الرئيس المفسد سبيرو أنغيو: "لقد غيّر الأوغاد القواعد ولم يعلموني").

الكفاح ضد الاحتلال والكفاح ضد الفساد لا يتعارضان فيما بينهما. بل على العكس، إنهما يكملان بعضهما البعض.

الاحتلال يهدم قيمنا الأخلاقية. إن الجمهور الذي لا يرتدع من القسوة اليومية في الأراضي المحتلة، يفقد أيضا مناعته ضد الفساد.

الاحتلال هو مرض خبيث، أما الفساد فما هو سوى ألم في الأسنان. ولكن حين تكون الأسنان مؤلمة، من الصعب أيضا معالجة المرض.