|
||
لقد تمت الإجابة على هذا السؤال. يحلو لي الآن أن أسأل أكثر: "عندما تقولون صهيونية، ماذا تقصدون؟" هذه هي إجابتي أيضا، عندما يسألونني ما إذا كنت صهيونيا. عندما تقولين صهيونية، ماذا تقصدين؟ تنمو في الأيام الأخيرة لدينا هيئات للدفاع عن الصهيونية كالفطريات بعد المطر. إنها فطريات سامة. أثرياء أمريكيون على اختلافهم – ومن بينهم أرباب المقامر، أبطال بيوت الذعارة، مبيضو الأموال ومخفو الضرائب على أنواعهم – يكلفون هيئات "وطنية" في إسرائيل، بهدف خوض حرب الـ"صهيونية" المقدسة. يجري الهجوم على اتساع كافة الجبهات. وضعت بعض المنظمات هدفا نصب أعينها لتطهير الجامعات من "من هم ما بعد الصهيونية". إنهم يهددون بحجب التبرعات، يدبون الرعب في قلوب الرؤساء والعمداء ويتوعدون البروفيسورات والطلاب. يذكر هذا الأمر الأمريكيين، من دون أدنى شك، بفترة الرعب التابعة للسناتور جو مكارتي، الذي أتعس الآلاف من المفكرين، البروفيسورات والفنانين، ودفع الكثير منهم إلى الانتحار أو إلى الهجرة. بالنسبة للأوروبيين، فيمكن لهم أن يتذكروا الأيام التي وشى فيها بروفيسورات "آريون" بزملائهم الخائنين، وحين ألقى طلاب جامعيون يرتدون قمصان بنية اللون زملائهم اليهود من النوافذ. ما هذه إلا جبهة واحدة من الهجوم الكبير. ثمة هيئة تعلن باعتزاز أنها قامت بتمرير دورة لمئات الصهيونيين المهنيين بهدف تنقية "ويكيبيديا"، الموسوعة الحرة على الإنترنت، من المضامين غير الصهيونية، وزرع القيم الصهيونية فيها. يسطع نجم المصطلح "ما بعد صهيوني" في الدعاية التي تروجها عشرات – وربما مئات – الهيئات التي يعينها المليارديرات في لوس أنجلس وأشباههم في الولايات المتحدة، بهدف إرجاع تاج الصهيونية إلى سابق عهده. لماذا هذا المصطلح بالذات؟ المقصودون هنا هم اليساريون، ولكن الذين يهاجمون "اليساريين" هم أشخاص يعرفون أنفسهم كيمينيين، وأتباع اليمين المتطرف يرغبون في أن يبدوا كأتباع الوسطية الوطنية بالذات. إنه من غير الجميل أيضا ومن غير النيّر التحدث عن بروفيسورات "لبراليين" أو "متقدمين". إن مصطلح "ما بعد الصهيونيين" هو الموازي الإسرائيلي لـ "حُمر" مكارتي و"يهود" سابقيه في ألمانيا. إنه ملائم للخونة، لمؤامرة إرهابية. ولكن ما معنى "ما بعد الصهيوني"؟ لماذا لا يقولون ببساطة "مناهض الصهيونية"؟ إن لم تخني ذاكرتي، فقد كنت أول من استخدم هذا المصطلح. لقد أدليت بشهادة في محاكمة تشهير قمنا الشروع بها، أصدقائي وأنا عام 1976، ضد منظمة ادعت أن "المجلس الإسرائيلي من أجل السلام الإسرائيلي-الفلسطيني"، الذي أسسناه آنذاك، هو "هيئة معادية للصهيونية". شرحت للقاضية وجهة نظري: أن الصهيونية هي حركة تاريخية، فيها الكثير من الأنوار والظلال، وقد انتهت وظيفتها فور إقامة الدولة. منذ ذلك الوقت، حلت محلها الوطنية الإسرائيلية. معنى مصطلح "ما بعد الصهيونية" هو أنه بعد إقامة الدولة، حلّت مرحلة تاريخية جديدة. يمكن للشخص "ما بعد الصهيوني" أن يتعاطف أو أن يقدّر إنجازات الحركة الصهيونية و/أو أن ينتقدها. إنه ليس مناهضا للصهيونية. قبلت القاضية ادعائي وحكمت لصالحنا. لقد حصلنا على تعويضات كبيرة. أصبحت اليوم الشخص الحي الوحيد في إسرائيل الذي توجد بحوزته شهادة قضائية بأنه غير مناهض للصهيونية – بالضبط كما أن الشخص الذي يتم تسريحه من مستشفى للأمراض العقلية، توجد بحوزته تأشيرة رسمية بأنه عاقل. منذ ذلك الوقت اكتسب مصطلح "ما بعد الصهيوني" مكانة بين أوساط أكاديمية، واكتسب تفسيرات مختلفة ومتنوعة، فكل شخص وذوقه. ولكن هذا انقلب، في أفواق المكارتيين الجدد لدينا، إلى تشهير لا غير. الشخص ما بعد الصهيوني هو خائن، عدو إسرائيل، يحب العرب، يخدم العدو، جزء من المؤامرة العالمية لتدمير الدولة الصهيونية. ولكن ما معنى دولة صهيونية؟ وما هي الدولة اليهودية؟ نشر شلومو أفينيري، وهو بروفيسور محترم في الفلسفة، مخرا مقالا ادعى فيه بشدة أن إسرائيل هي دولة يهودية، وأنها يجب أن تكون كذلك. لقد أثار هذا المقال جدلا صاخبا. تلقيت عدة رسائل احتجاجية من أشخاص اعتقدوا، خطأ، أنني المؤلف. هذا يحدث بين الفينة والأخرى. قبل بضع سنوات، ذكرت الأسبوعية البريطانية ذات السمعة الممتازة "إكونوميست" اسمي بدل اسمه، وقد نشرت بعد أسبوع "اعتذارا لكيلكما". ولكن الفرق كبير. أفينيري هو بروفيسور هام، من تلاميذ تعاليم هاجل، خبير في تاريخ الصهيونية، مدير عام أسبق لوزارة الخارجية وصهيوني متزمت. أما أنا، كما هو معروف، فلست بروفيسورًا، لم أنهِ المدرسة الابتدائية، لم أكن ذات مرة متحدثا حكوميا ونظرتي إلى الصهيونية مركّبة جدا. لقد ادعى أفينيري في مقاله، بحماسة، أن إسرائيل هي دولة يهودية كما أن "بولندا هي دولة بولندية واليونان هي دولة يونانية". كان ذلك ردّا على مقال مفكر فلسطيني من مواطني إسرائيل، واسمه سلمان مصالحة، كان قد ادعى أنه لا يمكن أن تكون هنالك دولة يهودية، كما أنه لا يمكن أن تكون هنالك "دولة إسلامية" أو دولة "كاثوليكية". صرخ أفينيري محتجًا، كيف يمكن المقارنة بين الأمور. فاليهود هم شعب! إسرائيل تابعة للشعب اليهودي، ودينه هو الدين اليهودي. هذا منطقي، أليس كذلك؟ ليس بالضرورة. الشبه لا يشبه المشبه به. إذا كانت بولندا تابعة للبولنديين واليونان تابعة لليونانيين، فإن إسرائيل تابعة للإسرائيليين. ولكن حكومة إسرائيل لا تعترف بوجود أمة إسرائيلية. (لم تحسم المحاكم القضية التي قدمناها بعد، وطلبنا فيها بالاعتراف بأولادنا بأنهم ينتمون إلى الأمة الإسرائيلية.) لو طالب أفينيري بالاعتراف بأن إسرائيل تابعة للإسرائيليين، كما أن بولندا تابعة للبولنديين، لكنا سنصفق له. ولكنه يدعي أن إسرائيل تابعة لليهود. وتثور أسئلة مبدئية على الفور. على سبيل المثال: أي يهود؟ اليهود مواطني إسرائيل؟ بالتأكيد أن هذا ليس قصده. إنه يقصد "الشعب اليهودي" المنتشر في العالم، شعب معظم أبنائه وبناته ينتمون إلى الأمة الأمريكية، الأمة الفرنسية، الأمة الأرجنتينية – وكذلك إلى الأمة البولندية والأمة اليونانية. وكيف يتحول الإنسان إلى أمريكي؟ بواسطة حيازة الجنسية الأمريكية. وكيف يتحول الإنسان إلى فرنسي؟ بواسطة تحوله إلى مواطن الجمهورية الفرنسية. وكيف يتحول الإنسان إلى يهودي؟ آهة، ها هي المشكلة. بموجب قوانين دولة إسرائيل، اليهودي هو من وُلد لأم يهودية، أو اعتنق الديانة اليهودية، ولم يعتنق ديانة أخرى. بما معناه: التعريف هو تعريف ديني، وديني فقط. كالمسلم أو الكاثوليكي. وبالتأكيد، ليس كالبولندي أو كاليوناني. يتواجد في إسرائيل مئات آلاف المواطنين الذين قدموا من روسا وبناتها، وهم من غير اليهود حسب التعريف الديني. إنهم يعتبرون أنفسهم إسرائيليين من كافة النواحي، يتحدثون العبرية، يدفعون الضرائب، يخدمون في الجيش. ولكنهم لا ينتمون إلى الشعب اليهودي ذاته، الذي تتبع له الدولة حسب أقوال أفينيري. مثلهم مثل مليون ونصف المليون مواطن الذين هم عرب فلسطينيون. الدولة اليهودية غير تابعة لهم، حتى وإن كانوا يتمتعون – نظريا على الأقل – بحقوق مواطن كاملة. بكلمات أكثر بساطة: الدولة تابعة، حسب ادعاء أفينيري، لملايين الأشخاص الذين لا يعيشون فيها وهم يتبعون لأمم أخرى، ولكن ليست تابعة لملايين الأشخاص الذين يعيشون فيها وينتخبون للكنيست. ما الذي أقر أن هذه الدول هي "دولة يهودية"؟ أفينيري، وكثيرون آخرون، يدعون أنه قد تم تحديد طابع الدول في قرار أصدرتنه هيئة الأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني من عام 1947، الذي قسّم البلاد بين "دولة يهودية" و"دولة عربية". هذا غير صحيح. لم تقرر هيئة الأمم المتحدة إقامة دولة تابعة لكافة اليهود في العالم، ولم تقرر أيضا إقامة دولة تابعة لكافة العرب في العالم. لقد أقرّ مجلس الأمم المتحدة (وبحق)، الذي فحص طرقا لتسوية النزاع بين اليهود والعرب في البلاد، أن الحل الوحيد الممكن هو أن تكون لكل جمهور من الجمهورين القوميين دولة خاصة به. هذا ولا غير. باختصار: لا تتطرق كلمتا "يهودية" و "عربية" في قرار هيئة الأمم المتحدة إلى طابع الدولتين، بل إلى تعريف الجمهورين في البلاد فقط، اللذين سوف يقيما الدولتين. جمهورين في البلاد فقط، اللذين سوف يقيما الدولتين. ليس لهما أي معنى آخر. ولكن البروفيسور الذي يتوصل إلى مثل هذا الاستنتاج، يجب استنكاره كـ "ما بعد صهيوني" وطرده من جامعته. من ناحية المكارتيين الصغار لدينا، فإن مجرد مناقشة هذا الأمر ممنوعة منعا باتا. يُمنع التفكير. تُمنع الكتابة. وبالتأكيد، يُمنع الكلام. سيجلس في كل جامعة مفتشون صهيونيون، يتلقون تقارير عن المحاضرات التي يلقيها البروفيسورات، يفحصون منشوراتهم، يتم تبلغهم بوشايات الطلاب ضد زملائهم ويحافظون على نظافة أيديولوجية. مثلهم مثل "البوليتروكيون" – المفوضون السياسيون – في الاتحاد السوفييتي. كما في "الثورة الثقافية" في الصين، حين تم إرسال آلاف البروفيسورات والمفكرين الآخرين إلى معسكرات العمل وإلى قرى نائية. ولكن نتيجة أعمالهم يمكن أن تختلف عن ما يأملون به. وبدل تحويل مصطلح "ما بعد الصهيونيين" إلى كلمة مرادفة للخيانة، فإن من شأنهم أن يحوّلوا المصطلح "صهيونية" إلى كلمة مرادفة للفاشية، الأمر الذي سيفرح قلوب كل الداعين في العالم إلى مقاطعة "الدولة اليهودية". حين تتحول الجامعات الإسرائيلية إلى جامعات نقية من المفكرين الذين لا يمشون في الثلم، سيكون من السهل جدا مقاطعتها. عندما تقولين صهيونية، فهل تقصدين رؤيا هرتسل أم فاشية يهودية؟ |