اوري افنيري 

طفل روزماري / أوري أفنيري


منذ أن شاهدت في طفولتي ارتقاء النازيين سُدّة الحكم في ألمانيا، فأنا أشعر بدغدغة في أنفي حين يشّتم رائحة ظاهرة فاشية، حتى عندما تكون الرائحة طفيفة وبعيدة.

لقد دغدغ أنفي حين بدأ الجدل حول ما يُدعى "حل الدولة الواحدة".

تحدثت إلى أنفي وقلت: هل جُننت؟ أنت مخطئ في هذه المرة. فهذا برنامج يساري. يطرحه اليساريون غير المشكوك بأمرهم، من كبار الأيديولوجيين في البلاد وفي العالم، وحتى الماركسيين المُوثّوقين.

ولكن أنفي لا يكترث لشيء. إنه يواصل الدغدغة.

وقد اتضح الآن، في نهاية المطاف، أن أنفي لم يخطئ.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تؤدي فيها خطة يسارية رائدة إلى نتيجة يمينية متطرفة.

لقد حدث ذلك، على سبيل المثال، مع أبشع شعارات الاحتلال: الجدار الفاصل. لقد اخترعه اليسار.

حين ازدادت الأعمال الإرهابية في ذلك الوقت، اقترح سياسيون "يساريون"، وعلى رأسهم حاييم رامون، حلا أمنيا سحريا: عائق غير قابل للاختراق بين إسرائيل والأراضي المحتلة. لقد ادعوا أن هذا الأمر سيوقف الإرهابيين ولن تكون هنالك حاجة إلى أعمال وحشية في الضفة.

لقد عارض اليمين هذا الأمر بشدة. وأدرك أن هذه مبادرة لرسم حدود للدولة ودفع حل الدولتين قدما، الذي رأى فيه تهديدًا مصيريًا.

ولكن، على حين غرّة، غيّر اليمين موقفه. لقد أدرك أن الجدار يحمل في طياته إمكانية رائعة لضم مناطق كبيرة من الضفة الغربية وتمريرها إلى المستوطنات. وهذا ما حدث بالفعل: لم تتم إقامة الجدار على الخط الأخضر، بل تمت إقامته بمسار يخترق الضفة الغربية عميقا في أماكن عدّة. إنه يستلب مساحات شائعة من أراضي القرى الفلسطينية.

يتظاهر اليساريون الآن ضد الجدار أسبوعيا، ويرسل اليمين جنودا لإطلاق النار عليهم، في الوقت الذي يتقهقر فيه حل الدولتين إلى الخلف.

بدأ اليمين الآن يكتشف حل الدولة الواحدة. وها هو أنفي يدغدغ.

كان موشيه آرنس من الأوائل، وقد كان وزير الدفاع الأسبق من قبل الليكود. آرنس هو شخص يميني متطرف، من أتباع الليكود الأكثر تطرفا. بدأ يتحدث عن دولة واحدة من البحر إلى النهر، حيث سيحصل فيها الفلسطينيون على كامل الحقوق، بما فيها الجنسية وحق الاقتراع.

أما أنا فقد فركت عينيّ. هل هذا آرنس ذاته؟ ماذا جرى له؟ ولكن ثمة حل بسيط لهذا اللغز.

يواجه آرنس وزملاؤه مسألة حسابية تبدو وكأن لا حل لها: كيف يمكن تحويل المثلث إلى دائرة.

هنالك ثلاثة أضلاع لهدفهم: (أ) دولة يهودية، (ب) أرض إسرائيل الكبرى و (ج) ديموقراطية.
كيف يمكن الوصل بين هذه الأسس الثلاثة بواسطة دائرة متجانسة واحدة؟

يعيش بين البحر والنهر نحو 5.6 مليون يهودي و 3.9 مليون فلسطيني – بنسبة 59% من اليهود مقابل 41% من الفلسطينيين (بمن فيهم سكان الضفة الغربية، قطاع غزة، القدس الشرقية والمواطنين العرب في إسرائيل. (هذا العدد لا يشمل بالتأكيد ملايين اللاجئين الذين يعيشون خارج حدود الدولة).

حاول بعض "الخبراء" التشكيك بهذه الأرقام، ولكن علماء مهنيين، بما فيهم إسرائيليون أيضا، يوافقون عليها، مع بعض التغييرات الطفيفة.

واحسرتاه، فإن هذه النسبة تتغيّر بسرعة لصالح الفلسطينيين. يضاعف الجمهور الفلسطيني نفسه كل 18 سنة. حتى إذا أخذنا بالحسبان الزيادة اليهودية الطبيعية في إسرائيل وإمكانية الهجرة في المستقبل المنظور، فيمكننا أن نحسب بدقة تكاد تكون متناهية الموعد الذي سيتحول فيه الفلسطينيون إلى أغلبية بين النهر والبحر. هذه مسألة سنوات وليست مسألة عقود.

الاستنتاج الذي لا بد منه: يمكن التوصل إلى طموحين من بين الطموحات الثلاثة، ولكن لا يمكن التوصل إلى الطموحات الثلاثة: (أ) لا يمكن لدولة يهودية أن تكون ديموقراطية في كافة أنحاء البلاد، (ب) لا يمكن لدولة ديموقراطية أن تكون دولة يهودية في كافة أنحاء البلاد، و (ج) لا يمكن لدولة يهودية وديموقراطية أن تكون أرض إسرائيل الكبرى.

هذا منطق بسيط. منطق منطقي. لا داع لأن نكون آرنس، وهو مهندس، لنكتشف ذلك. لذلك يفتش اليمين عن منطق آخر، يمكّنه من إقامة دولة يهودية وديموقراطية في البلاد كلها.

نشرت صحيفة "هآرتس"، في الأسبوع الماضي، سبقًا مثيرا: هنالك شخصيات بارزة في اليمين المتطرف، وبالذات من الأكثر تطرفا، قبلت حل الدولة الواحدة من البحر إلى النهر. إنهم يتحدثون عن دولة يكون فيها كافة الفلسطينيين مواطنين كاملي الحقوق.

لا يخفي أفراد اليمين الذين اقتبس نوعام شيزاف أقوالهم في مقالته ما الذي أدى بهم إلى اتخاذ هذا التوجه: إنهم يريدون إحباط إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وهو أمر يعني القضاء على مشروع الاستيطان وإخلاء عشرات المستوطنات والبؤر الاستيطانية في مختلفة أنحاء الضفة الغربية. إنهم يريدون أيضا وضع حد للضغط الدولي المتزايد الذي ينادي بحل الدولتين.

ثمة فرح وسرور بين أوساط بعض اليساريين في العالم، ممن يؤيدون حل الدولة الواحدة. إنهم يصبون جرار من التهكم على معسكر السلام الإسرائيلي (اليساريون يحبون التهكم على اليساريين) ويرفعون من شأن اليمين الإسرائيلي. يا لها من شهامة! يا له من استعداد لكسر الأطر، للتفكير خارج القوقعة، ولقبول أيديولوجيتهم! اليمين فقط هو الذي سيصنع السلام!

ولكن هؤلاء الأشخاص الأوفياء حين سيقرءون النصوص، سيكتشفون أن الأمر ليس كذلك بالضبط. ولتوخي الدقة، هذا هو النقيض التام.

الشخصيات اليمينية الست الذين تم اقتباس أقوالهم في المقالة موحدون في عدة نقاط، يجدر أن نبدي رأينا بها.

أولا: جميعهم يرغبون في إخراج قطاع غزة من الحل المقترح. غزة لن تكون تابعة للبلاد بعد ذلك. هكذا يقللون عدد الفلسطينيين بمليون ونصف المليون، ويحسّنون التوازن الديموغرافي المُهدد. (لقد اعترفت إسرائيل، في اتفاقيات أوسلو، بأن الضفة الغربية وقطاع غزة هما وحدة جغرافية واحدة، ولكن اليمينيين يرفضون اتفاقية أوسلو، التي يعتبرونها من بِدع يساريين خونة).

ثانيا: ستكون الدولة الواحدة، بطبيعة الحال، دولة يهودية.

ثالثا: سيتم ضم الضفة الغربية فورا، بحيث يكون بالإمكان مواصلة تطوير المستوطنات من دون عائق. فإنه من غير الممكن أن تكون هنالك، في إسرائيل الكبيرة، قيود مفروضة على المستوطنات.

رابعًا: لا يجري الحديث عن منح جنسية لكل الفلسطينيين على الفور. ستكون هذه عملية تستغرق وقتا، وقتا طويلا. ربما جيل، ربما أكثر.

يُجمل كاتب المقال أقوالهم على النحو التالي: "عملية ستستغرق عقدًا وحتى جيلا كاملا، وفي نهايتها سيتمتع الفلسطينيون من حقوق شخصية كاملة، غير أن الدولة ستبقى، من ناحية شعاراتها وروحها، دولة يهودية... هذه ليست رؤيا ’دولة كل مواطنيها’ وليس ’إسراسطين’، بعلم يحمل الهلال والنجمة إلى جانبه. معنى الدولة الواحدة أنها ستبقى تحت سيادة يهودية".

من الجدير أن نصغي جيدا إلى الأقوال الموضحة التي قالها أصحاب الاقتراح أنفسهم (التشديد من قِبلي):

أوري إليتسور، مدير عام مجلس الضفة والقطاع سابقا: "أنا أتحدث عن دولة يهودية هي دولة الشعب اليهودي، وتوجد فيها أقلية عربية كبيرة."

حنان بورات، من مؤسسي غوش إيمونيم، الذي دعا اليهود إلى أن يفرحوا بعد المجزرة التي ارتكبتها باروخ غولدشطاين: "(أنا) أرفض الجنسية الأوتوماتيكية التي يقترحها أوري إليتسور، وهي أمر ساذج ويمكن أن يؤدي إلى أمور خطيرة، ولكن أقترح تطبيق القانون الإسرائيلي بالتدريج على الأراضي الفلسطينية، بداية في المناطق التي تتواجد فيها أغلبية يهودية، وخلال عقد من الزمن وحتى جيل واحد على كافة المناطق."

يقسّم بورات الفلسطينيين إلى ثلاث فئات: (أ) من هو معني بدولة عربية ومستعد لتحقيق ذلك بواسطة الإرهاب وبالنضال ضد الدولة - ليس له مكان في أرض إسرائيل. بما معناه: سيتم طرده. (ب) من يقبل مكانه وبسيادة يهودية، ولكنه لا يريد أن يأخذ قسطا في الدولة وأن يؤدي كل واجباته تجاهها - يمكنه أن يكون مقيما، يستحق الحقوق الإنسانية الكاملة، ولكن لا يستحق التمثيل السياسي في مؤسسات الدولة. (ج) الشخص الذي يقول أنه وفيّ للدولة ولقوانينها، وهو مستعد أن يؤدي كافة واجباته تجاهها وأن يعلن عن وفائه لها، يمكنه أن يحصل على جنسية كاملة. (هذه ستكون، بطبيعة الحال، قلة ضئيلة.)

تسيبي حوطوفيلي، عضو كنيست من الهامش اليميني المتطرف في الليكود: "يجب أن نضع في الأفق السياسي مواطنة الفلسطينيين في يهودا والسامرة... هذا سيحدث بشكل تدريجي... يجب تخصيص وقتا طويل الأمد لهذه العملية، ربما حتى جيل كامل، حيث يستقر الوضع خلاله على أرض الواقع وربما يتم ترسيخ رموز الدولة وطابعها في الدستور. (بهذا الشكل تتم إزالة) علامة الاستفهام عن يهودا والسامرة.. أولا، أنا أومن تماما بحقنا على أرض إسرائيل. شيلو وبيت إيل هما بالنسبة لي أرض أجدادنا بكل ما في هذا التعبير من معنى... نحن الآن نتحدث عن منح المواطنة في يهودا والسامرة، وليس في غزة. ليكن واضحا: أنا لا أعترف بالحقوق الوطنية للفلسطينيين على أرض إسرائيل... هنالك مكان بين البحر والنهر لدولة واحدة، دولة يهودية."

موشيه آرنس: "إن دمج السكان العرب (مواطني إسرائيل) في المجتمع الإسرائيلي (هو) شرط مسبق، وبعد ذلك فقط يمكن أن نتحدث عن منح المواطنة للفلسطينيين في المناطق الفلسطينية." أي أن آرنس يقترح التركيز على دمج المواطنين العرب في إسرائيل - الأمر الذي لم يحدث خلال 62 السنة الأخيرة - وبعد ذلك فقط التفكير بمشكلة مواطنة سكان الضفة الغربية.

إميلي عمروسي، مستوطنة تنظم لقاءات بين المستوطنين وبين فلسطينيين في القرى المجاورة: "لا تصنع منّي متوّجة ’الدولة الواحدة’. في نهاية الأمر ربما تصل الأمور إلى هناك، ولكننا بعيدون جدا. هيا نتحدث أولا عن بلاد واحدة... نحن لا نتحدث عن مواطنة، بل عن مصطلحات مثل علاقات الجوار... ليكونوا أولا جيراني الجيّدين، وعندها سنمنحهم الحقوق... في المستقبل البعيد ستكون هنالك حاجة إلى منح المواطنة لهم جميعا."

رئوفين ريفلين، رئيس الكنيست: "البلاد غير قابلة للتقسيم... (أنا) أرفض فكرة الدولة لكل مواطنيها أو الدولة ثنائية القومية، وأفكر بترتيبات سيادة مشتركة في يهودا والسامرة تحت سلطة الدولة اليهودية، وحتى بنظام حكم فيه برلمانان، يهود وعربي... يهودا والسامرة (ستكونان) مجالان ثنائيان، يتم حكمهما بشكل مشترك... ولكن هذه الأمور ستستغرق وقتا... وليس لهم أن يلوّحوا أمامي بالديموغرافية".

نظام الحكم الموصوف هنا ليس دولة أبارتهايد، بل شيء أسوأ بكثير: دولة يهودية، تقرر فيها الأغلبية اليهودية إذا ومتى سيتم منح المواطنة لجزء من العرب. المصطلح الذي يكرّر نفسه، "ربما جيل"، هو غير دقيق للغاية، وليس ذلك صدفة.

ولكن الأهم من ذلك كله: يوجد هنا صمت صارخ بالنسبة لأهم الأسئلة: ماذا يحدث حين سيتحوّل الفلسطينيون إلى أغلبية في الدولة الواحدة؟ هذا لي سؤال "إذا"، بل هو سؤال "حين": لا يوجد أدنى شك في أن ذلك سيحدث، ليس "بعد جيل"، بل قبل ذلك بكثير.

هذا الصمت الصارخ يستوجب التفكير. من لا يعرف إسرائيل فقط، يمكن له أن يؤمن بأن أتباع اليمين مستعدون لقبول هذا الوضع. إن شخصا ساذجا فقط يمكنه أن يؤمن أنه سيحدث لدينا، آنذاك، ما حدث في جنوب أفريقيا، حين سلّم البيض (وهم قلة قليلة) السلطة للسود (وهم الأغلبية الساحقة) من دون سفك دماء.

لقد قلنا أعلاه أنه لا يمكن "تحويل المثلث إلى دائرة". ولكن في الحقيقة توجد طريقة أخرى: التطهير العرقي. يمكن للدولة اليهودية والديموقراطية أن تمتد من البحر إلى النهر- إذا لم تكن تحتوي على فلسطينيين.

يمكن للتطهير العرقي أن يتم تدريجيا (كما حدث لدينا عام 1948 وفي كوسوفو عام 1998) أو بشكل صامت ومنتهج، بعشرات الأساليب الحذقة، كما يحدث الآن في القدس الشرقية. ولكن لا يوجد أدنى شك في أن هذه هي المرحلة الأخيرة في رؤيا الدولة الواحدة التي يتوقعها اليمينيون. المرحلة الأولى هي تغطية كافة أنحاء البلاد بالمستوطنات والقضاء على احتمال حل الدولتين، وهو الأساس الواقعي الوحيد للسلام.

يصف فيلم رومان بولانسكي "طفل روزماري" شابة لطيفة تلد طفلا جميلا، يتضح أنه ابن الشيطان. إن من شأن الحل اليساري الأمثل المتمثل بحل الدولة الواحدة أن يلد في نهاية الأمر وحشا يمينيا.