وفجأة، يحدث برق. لبرهة وجيزة كان المشهد مضاء كليا. ولكن يكفي واحد على ألف من الثانية للتأكد من أن المشهد من حولنا قد تغيير.

العملية التي أنجزتها الحكومة ضد أسطول المساعدة البحري إلى غزة كانت بمثابة برق كهذا.

الجمهور الإسرائيلي غارق في ظلمة متجاهلا العالم. لبرهة وجيزة، ظهر المشهد الحقيقي من حولنا، وكانت الصورة مفزعة. وعندها عاد الظلام، عادت إسرائيل إلى فقاعتها، واختفى العالم عن الأنظار.

ولكن هذه اللحظة كانت كافية لرؤية الصورة المشوّهة. منذ البرق الأخير، أخذ وضع إسرائيل يزداد سوءًا على كافة الأصعدة تقريبا.

ليس ذلك أسطول المساعدة البحري ولا العملية التي أنجزت ضده هما اللذان خلقا هذا المشهد. إنه قائم منذ أن بدأت هذه الحكومة عملها. لم تكن هي أيضا من خلق هذا التدهور. لقد بدأ قبل وقت طويل من ذلك.

إن عملية إيهود براك وشركاه لم تكن سوى تسليطا للضوء على الوضع الذي وصلنا إليه، ودفعته دفعة ساحقة إضافية ليزداد سوءًا.

كيف يبدو المشهد الجديد تحت ضوء برق باراك؟

ثمة حقيقة تتصدر القائمة، لم ينتبه إليها أي شخص حتى هذا اليوم: نهاية الكارثة.

في خضم الفوضى العارمة حول هذه القضية لم يأت ذكر الكارثة. على الرغم من أنهم دعوا رجب طيب أردوغان في إسرائيل باسم "هتلر الجديد"، وتحدث بعض أعداء إسرائيل عن "عملية نازية"، إلا أن الكارثة اختفت.

طيلة جيلين، كانت الكارثة هي الوسيلة الأساسية في سياستنا الخارجية. لعب ضمير العالم السيئ دورا هاما في نظرته إلى إسرائيل. لقد سببت الأحاسيس بالذنب (المُبرّرة) في أوروبا وأمريكا – سواء بسبب أعمالهما أو بسبب وقوفهما مكتوفتي الأيدي، أن تمنحا إسرائيل تعاملا خاصا في كل مسألة، ابتداء من السلاح النووي وانتهاء بالمستوطنات. تم تعريف أي انتقاد لأفعال حكوماتنا، تلقائيا، بأنه لا سامي.

ولكن الوقت كفيل بتغيير الأمور. لقد شوشت المآسي الجديدة الحواس. وقد نشأ جيل يعتبر الكارثة أمر يعود إلى الماضي البعيد، فصل تاريخي. تلاشت الأحاسيس بالذنب في كافة الدول، ربما باستثناء ألمانيا.

لم يشعر الشعب الإسرائيلي بذلك، لأن الكارثة ما زالت حيّة وقائمة في إسرائيل. هنالك إسرائيليون كثيرون هم أولاد وأحفاد لناجين من الكارثة، وقد تركت الكارثة في طفولتهم أثرا عليهم لا يُمحى. إضافة إلى ذلك، فإن هنالك آلية كبيرة تضمن عدم اختفاء الكارثة من ذاكرتنا، ابتداء من روضة الأطفال، مرورا بالمراسيم وأيام الذكرى، وانتهاء بالزيارات المنظمة "هناك".

لذلك دُهش الشعب الإسرائيلي حين أدرك أن الكارثة قد خسرت قوتها كجهاز سياسي في العالم. ضعف السلاح الأكثر نجاعة في جعبتنا.

إن حجر الأساس في سياسة إسرائيل هو التحالف مع الولايات المتحدة. إذا استخدمنا العبارة المحببة على قلب نتنياهو: هذا هو "حجر الأساس لوجودنا".

لقد حمانا هذا التحالف لسنين طويلة من كل المصائب. لقد كنا نعلم بأننا سنحصل على كل شيء من أمريكا: السلاح للحفاظ على تفوق قوتنا على جميع الجيوش العربية مجتمعة، الذخائر في حالات الحرب، المال لدعم اقتصادنا، الفيتو على أي قرار يصدر ضدنا في الأمم المتحدة، الدعم التلقائي لحكومتنا في أي مبادرة سياسية. إن كل دولة صغيرة ومتوسطة في العالم تعلم أنها إذا أرادت الدخول إلى القصر في واشنطن، فيتوجب عليها دفع رشوة للحاجب الإسرائيلي.

لقد ظهرت تصدعات في حجر الأساس هذا في السنة الأخيرة. هذه ليست تصدعات عفوية تتعلق بهذه الشخصية أو تلك، بل تصدعات تدل على حركة في الأرض تحت البناية. الكراهية المتبادلة بين باراك أوباما وبنيامين نتنياهو هي أمارة خارجية لمشكلة أعمق بكثير.

لقد عرف ذلك رئيس الموساد، حين قال الأسبوع الماضي في الكنيست: "من وجهة نظر الولايات المتحدة، نحن لم نعد ذخيرة مميزة وتحولنا إلى عبء".

تم التعبير عن الأقوال بشكل أمضى من حد السيف في كلام الجنرال دافيد بتراوس، الذي قال أن استمرار النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني يشكل خطرا على حياة الجنود الأمريكيين في العراق وأفغانستان. لم تمح جميع أقوال التهدئة التي جاءت بعد ذلك أهمية هذه الأقوال. (عندما أغمي على بتراوس هذا الأسبوع، أثناء الإدلاء بشهادته في السينات، اعتبر ذلك يهود متدينون أنه عقاب من السماء.

لم يقتصر الأمر على تغيّر مصيري في العلاقات بين إسرائيل وأمريكا، بل إن مكانة الولايات المتحدة إنها آخذة بالتضاؤل باستمرار، وهذه إشارة تنبئ بالسوء بالنسبة لمستقبل السياسة الإسرائيلية.

العالم يتغيّر، بصمت وباستمرار. إنها ما زالت الدولة العظمى الأولى في العالم، ولكنها لم تعد دولة عظمى قادرة على كل شيء. فها هي الصين تنفخ عضلاتها، ومكانة دول مثل الهند والبرازيل آخذت تتعزّز، دول مثل تركيا – نعم، تركيا! - لقد بدأت تلعب لعبة مستقلة.

هذه ليست مسألة سنة أو سنتين، بل مسألة سنوات طويلة، ولكن من يفكر بمستقبل إسرائيل بعد عشر سنوات، عشرين سنة، سيجد أنه إذا لم يطرأ تغيّر جوهري على وضعنا، فإن قوتنا ستضمحلّ بشكل متواصل هي أيضا.

إذا كان التحالف مع الولايات المتحدة هو أحد لَبِنات الأساس في السياسة الإسرائيلية، فإن دعم يهود العالم هو اللّبِنَة الأخرى.

فعلى مدى 62 عاما، كان بإمكاننا أن نثق بها ثقة عمياء. ليس مهما ما نفعله، فإن يهود العالم سيقومون ويؤدون التحية. في السرّاء والضرّاء، في النصر والإخفاق، في القضايا المتوهجة والمظلمة، سيدعم يهود العالم، سيقدمون المال، سيتظاهرون وسيضغطون على حكوماتهم. من دون أي اعتراض، من دون أي تفكير، من دون انتقاد.

لم يعد الأمر كذلك. بصمت، بصمت، تصدعت هذه اللبنّة أيضا. يُستشف من أبحاث ذات أهمية أن أغلبية كبيرة من الجيل اليهودي الناشئ في الولايات المتحدة، تدير ظهرها نحو إسرائيل. إن ولاءها للمؤسسة الإسرائيلية لا يتبدل بالتعاطف مع إسرائيل الليبرالية – إسرائيل، بكل بساطة، أخذت تتلاشى وتختفي من عالم هذه الأكثرية الروحاني.

هذا أيضا لن يتم الشعور به فورا. تستمر اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للعمل السياسي (إيباك) في فرض هيمنتها على واشنطن. يستمر الكونغرس في رقصه على أنغام الناي الذي تعزف عليه. ولكن، حين سيتقلد الجيل الجديد مناصب هامة، فإن الدعم لإسرائيل سيضعف وسيكفّ السياسيون الأمريكيون عن الزحف على بطونهم، وستغيّر حكومة الولايات المتحدة سياستها تجاهنا بشكل تدريجي.

كما أن هنالك تغييرات عميقة تحدث تحت الأرض في فضاءنا المجاور. لقد كشفت قضية الأسطول البحري النقاب عن جزءا منها.

كما أن تأثير حلفاء حكومة إسرائيل آخذ بالانخفاض بشكل تدريجي. إنهم يفقدون من مكانتهم، وتظهر في الفضاء قوة قديمة-حديثة: تركيا.

حسني مبارك منشغل في محاولة تأمين التركة لابنه جمال، والمعارضة الإسلامية في دولته ترفع رأسها. يفقد المال السعودي تأثيره مقابل الانجذاب الجديد نحو تركيا. لقد اضطر ملك الأردن إلى التأقلم. محور تركيا – إيران – سوريا – حزب الله – حماس هو القوة الصاعدة، ومحور مصر - السعودية - الأردن - فتح هو القوة الهابطة.

لكن الأهم من ذلك كله هو التغيير الحاسم الذي حدث في الرأي العام العالمي. من يستهزأ بذلك فهو أشبه بستالين الذي سأل "كم وحدة عسكرية توجد لدى البابا؟".

قبل عدة أيام بثوا في التلفزيون الإسرائيلي فيلمًا مثيرا عن المتطوعات الألمانيات والاسكندنافيات اللواتي تدفقن إلى البلاد في الخمسينات والستينات كي يعشن ويعملن في الكيبوتسات. وُصفت إسرائيل آنذاك كدولة صغيرة وشجاعة، محاطة بالأعداء الحقودين، دولة أُقيمت على أنقاض الكارثة وتحولت إلى قلعة للحرية، للمساواة وللديمقراطية، التي وجدت لها تعبيرا ساميا في تلك القطعة الفنية الرائعة، ألا وهي الكيبوتس.

أولئك الشابات والشبان المثاليون الذين قدموا من جميع أنحاء العالم، الذين تطوعوا في الكيبوتسات في حينه، يتواجدون اليوم على متن السفن التي تبحر نحو غزة المختنقة، المُداسة والمجوّعة، التي تأسر قلوب خيرة الشباب في العالم. لقد تحول داود الإسرائيلي إلى جوليات الإسرائيلي.

حتى أكثر الدعاية دهاء لن تعود بالنفع هنا. منذ سنوات، يرى العالم دولة إسرائيل يوميا على شاشات التلفزيون وفي صفحات الجرائد، جنودًا مسلحين يطلقون النار على ملقي الحجارة، مدافع تطلق قذائف الفوسفور على السكان، طائرات تنفّذ "تصفيات موجّهة"، والآن قراصنة يهجمون على سفن مدنية في عرض البحر أيضا. نساء مرعوبات يهربن وهن يحملن أطفالا جرحى، رجالا مقطوعي الأطراف ومنازل مهدمة. عندما يشاهدون مئة صورة كهذه مقابل صورة واحدة تحاول إظهار إسرائيل بهيئة مختلفة، فإن إسرائيل تبدو كالوحش. ناهيك عن أن آلة الدعاية الإسرائيلية تمنع بنجاح أي إعلام يتناول فعاليات معسكر السلام الإسرائيلي.

قبل سنوات عديدة، عندما رغبت في أن أسخر من غطرسة قادتنا وجنرالاتنا، كنت أستخدم مقولة تحمل في طياتها كثيرا من الحكمة اليهودية: "ما لا ينجح بالقوة، ينجح بالعقل". لكي أُبرز مدى اختلافنا، نحن الإسرائيليون عن اليهود، قمت بتعديل هذه المقولة" "ما لا ينجح بالقوة، ينجح بالمزيد من القوة".

كنت أعتقد أن هذه نكتة. ولكن حدث ما يحدث للكثير من النكت لدينا: لقد تحولت إلى واقع. لقد أصبحت اليوم "عقيدة" لدى إسرائيليين رجعيين كثيرين، وفي مقدمتهم إيهود باراك.

يرتكز أمن الدولة على الكثير من العناصر، والقوة العسكرية هي أحد هذه العناصر. على المدى البعيد، سيكون الرأي العام العالمي أقوى. إن لدى البابا فرق عسكرية.

من نواح كثيرة، إسرائيل لا تزال دولة قوية. ولكن كما تبيّن فجأة في مسألة الأسطول البحري، فإن الوقت ليس لصالحنا. من المستحسن لنا أن نعزّز مكانتنا في العالم وفي المنطقة – أي أن نصنع السلام - ما دامت قوتنا موجودة.

ما لا ينجح بالقوة، ليس بالضرورة أن ينجح بالمزيد من القوة.

ما لا ينجح بالقوة، لا ينجح بالقوة، نقطة.