|
||
منذ بضعة أشهر، يُغضب أبو مازن نتنياهو. إنه يرفض الشروع "بمفاوضات للسلام"، في الوقت الذي يتقدم فيه الاستيطان في الضفة الغربية وفي القدس بوتيرة تم تسريعها. جميع الأطراف يعلمون بأنه يتم التحدث عن مفاوضات عديمة المضمون، لا توصل إلى أي هدف. بنيامين نتنياهو بحاجة إليها لكي يحبط الضغط الأمريكي الممارس عليه. باراك أوباما يحتاج إليها لكي يُبدي إنجازا ما، حتى وإن كان ضئيلا. لكن أبو مازن يعلم بأن استجابته ستساعد حماس في إظهاره كمتعاون. قرر الآن نتنياهو تلقين أبو مازن درسًا. على مدار ثلاثة أيام، يومًا بعد يوم، وبرنامج تلو الآخر، نشرت القناة 10 "فضائح" مروعة حول الفساد الاقتصادي والجنسي الرائج في زعامة السلطة الفلسطينية. قام شخص تم التعريف عنه بأنه موظف كبير في الأجهزة الأمنية الفلسطينية، برتبة جنرال، بالظهور على التلفاز الإسرائيلي واتهم رؤساء السلطة وفتح بسرقة مئات ملايين الدولارات وبارتكاب مخالفات جنسية مشينة. من شأن "الفضائح" أن تشكل خطرا على وجود السلطة الفلسطينية وقيادة فتح. لم يكن لهذا النبأ أن يُنشر في وسائل الإعلام لدينا، خلافا لرغبة الشاباك. من المرجح أن له يد في ذلك. الأب السعيد للسبق الصحفي هو تسفي يحزقيلي، مراسل القناة للشؤون العربية. إنني أشاهد نشرات يحزقيلي منذ سنوات، ويصعب علي أن أذكر أية كلمة لا تسخر بالإسلام عامة وبالعرب خاصة. يتراوح، بشكل عام، حديثه والمادة التي يختارها لعرضها ما بين تعالٍ يكاد يصل إلى السماء واحتقار سحيق. إنه ليس شاذا في ذلك بين أوساط وسائل الإعلام الإسرائيلية. معظم "المراسلين للشؤون العربية" هم من خريجي شعبة الاستخبارات، وهم يعتبرون أنفسهم عجلات صغيرة في آلية الدعائية الكبيرة للحرب ضد العرب. يتمتع الكثير منهم بالمساعدة السخية التي تقدمها مؤسسات معينة، ممولة من قبل مليارديرات أمريكيين، والتي تقتصر وظيفتها على دسّ السم. لا يعي مواطنو إسرائيل اليهود، ومعظمهم غير ملمين باللغة العربية، أنه عند التحدث عن معلومات موضوعية يكونون معرضين إلى حرب نفسية مناهضة للعرب ومناهضة للمسلمين، وهي حرب متطرفة ومخطَّط لها. توظِّف هذه المؤسسات عشرات العاملين، الذين يراجعون كل كلمة وكل صورة يتم بثها في وسائل الإعلام في أرجاء العالم الإسلامي. عندما تتم مراجعة ملايين الكلمات وآلاف ساعات البث الصادرة عن 22 دولة عربية (بما فيها السلطة الفلسطينية) وسائر الدول الإسلامية، فإنه يمكن في كل يوم إيجاد تصريح مجنون وحدث مثير للسخرية. هذه هي الصورة التي يتم عرضها على الجمهور الإسرائيلي. (من الجدير بالاهتمام أنه كيف كنا سنبدو لو بذلت مثل هذه المؤسسة على متابعة الجهل والتكبر في وسائل الإعلام لدينا). ومن أبي السبق الصحفي إلى موضوع السبق الصحفي: فهمي شبانة، قائد "الأمن العام" الفلسطيني في الخليل سابقا، الذي يصفه يحزقيلي كبطل مستعد للموت في أي لحظة من أجل النزاهة، وقد جهّز لنفسه قبرا على جبل الزيتون. لم أكن لأشتري منه سيارة مستخدمة. ظهوره على التلفاز الإسرائيلي مُستهجن، من دون مبالغة. لماذا يظهر هذا الوطني الفلسطيني في وسيلة إعلام إسرائيلية بالذات؟ لماذا لم يبع بضاعته في وسيلة إعلام عربية، أو على الأقل محايدة؟ الادعاء بأنه ما من أحد على استعداد بأن يُشهره ليس معقولا. هل كانت حماس لترفض؟ هل تنقص في أوروبا وأمريكا وسائل إعلام على استعداد لتلطيخ سمعة العرب؟ هذه المادة تخدم بطبيعة الحال الاحتلال الإسرائيلي. إنه يزوّد الذخيرة لكل من أراد الإثبات بأنه "ليس لدينا شريك للسلام". إنه يساعد المستوطنين وسائر الداعين إلى الحرب. لهذا السبب، نحن لسنا معفيين من التعامل مع هذه المادة المقرفة. قنبلة الرائحة الكريهة هي عبوة سياسية ناسفة. لا تتعلق نوعية الفضائح، بالضرورة، بشخصية تسفي يحزقيلي وفهمي شبانة. كانت تأتي المعلومات المُدينة، في أكثر من مرة، من مصادر مشكوك بمصداقيتها. تجدر مناقشتها بحد ذاتها. كانت النشرات الخمس التي شاهدتها حتى الآن مليئة بالاتهامات، لكنها تفتقر كثيرا إلى الأدلة. تحدث شبانة عن صناديق مليئة بالأدلة. لقد لوّح بالملفات والأوراق. لكنه لم يعرض أي ورقة بشكل يمكّن من فحص مضمونها. معنى الدليل، على سبيل المثال، مستند مصرفي يمكن قراءته بعناية، تحليله واستخلاص العبر منه. لم تتح الأوراق التي شوهدت في نشرات الأخبار، لأجزاء من الثانية، إجراء مثل هذا التحليل. مشكوك أكثر في أمر الفيديو الإباحي الذي تم تصويره، كما يدّعون، في شقة امرأة فلسطينية، استُخدمت كطّعم للإيقاع برفيق الحسيني، رئيس مكتب أبو مازن، في الفخ. التقيت بذلك الشخص وتحدثت معه بشكل سطحي (في مظاهرات بلعين). إنه ينتمي إلى إحدى أكبر العائلات وأعلاها شأنا في القدس، وكان من أبنائها المفتي الحاج أمين، قائد الفلسطينيين في أحداث عام 1936، عبد القادر، قائد المقاتلين الفلسطينيين في منطقة القدس عام 1948، وفيصل، القائد الذي نال إعجاب ومحبة الجمهور العربي في القدس تحت الاحتلال. بناء على أقوال شبانة، فقد جاء الحسيني برفقة سكرتيرته-عشيقته إلى بيت المرأة، التي حاولت أن تُقبل في العمل في مكتب أبو مازن. طلب منها الحسيني رشوة جنسية، وهي ساعدت شبانة في تحضير مصيدة له. تظهره الكاميرا وهو يخلع ملابسه ويصعد عاريا إلى السرير، عندها يفاجئنا البطل ذاته المناضل ضد الفساد. إلى هنا يبدو ذلك محتملا، مع أن العقل لا يقبله. ولكن خلال مجريات الأمور يحدث أمر غير معقول بالتأكيد. في الوقت الذي تصوّر فيه الكاميرا المخبأة الحسيني برفقة سكرتيرته وصاحبة البيت، يقول بأن ياسر عرفات كان لصًا، أبو مازن هو لص وكلهم لصوص. هل يُعقل بأن يتحدث الرجل الثاني في مكتب الرئاسة بهذه الطريقة مع امرأة غريبة، تطلب قبولها في العمل؟ وفي بيتها؟ وبحضور شاهدة؟ ماذا، أهو طفل صغير؟ الكاميرا صوّرت عن بُعد، ولا يمكن تعقب حركة شفاه المُزمع بأنه المتكلم. في نهاية الأمر: اتهامات دسمة تقشعر لها الأبدان، القليل جدا من الأدلة القاطعة. بعد 40 سنة عملٍ في منصب "أب الصحافة المحقّقة في إسرائيل" (كما قيل عني في حفل منح "جائزة سوكولوف"، الجائزة الأعلى شأنا بين أوساط الصحافيين)، فإني أجرؤ على القول بأني طوّرت أنفا حساسا لفضائح الفساد، سواء أكانت صحيحة أو كاذبة. في هذه المرحلة، بعد أن شاهدت النشرات، تبين لي أن هذه المادة تتراوح ما بين مشكوك بأمرها وبين مشكوك بأمرها للغاية. لا اعتراض على أنه ثمة الكثير من الفساد في قيادة السلطة الفلسطينية. قد بدأ ذلك في أيام ياسر عرفات. على الرغم من أنه كان منزّها عن أي فساد، إلا أنه لم يتردد في استخدامه لكي يتحكم بالآخرين ويناورهم. لا يمكن لأي شخص كان يعرف عرفات شخصيا أن يشك بأنه كان فاسدا، وكذلك لم أسمع أية اتهامات أو نمائم كهذه من قبل فلسطينيين آخرين. لقد كان مدمنا تماما على النضال الفلسطيني (وسيطرته عليه). لم يكن يأبه، ببساطة، للممتلكات وملذات الحياة. من هذه الناحية كان يشبه ديفيد بن غوريون ومناحيم بيغين، مع أنه كان في ظروف أسوأ بكثير. لم يكن لديه بيت خاص به، حتى عندما بنى الأشخاص من حوله لأنفسهم قصورا. ذات مرة، وفي الفترة التي قضاها في تونس، تفاخر على مسامعي بأنه يعيش في الطائرات. ساعده ذلك على إحباط محاولات أعدائه (كانت حياته معرضة للخطر طيلة عشرات السنين في كل لحظة) وكذلك كان يوفّر الوقت. حسابات البنوك "الشخصية" لديه استُعملت لتؤمن له سيطرة شخصية على الأموال، التي أعد قسم كبير منها لاحتياجات خفية، كشراء الأسلحة، تسليح الفلسطينيين في المخيمات اللبنانية وحمايتهم من الكتائب العازمة على إبادتهم، تقوية الممثليات الدبلوماسية في دول العالم لخوض الصراع على الحلبة الدبلوماسية، وغيرها. لكن عرفات لم يحارب فساد معاونيه. من الممكن حتى أنه شجعه في أكثر من مرة. اعتقد بأن تلك كانت، من وجهة نظره، إحدى الوسائل للسيطرة على الأشخاص والفصائل. لقد ساعدته على إحداث الأعجوبة: الحفاظ على وحدة المعسكر الفلسطيني تحت ظروف مستحيلة، في الشتات وتحت وطأة الاحتلال. أعتقد أن ذلك كان خطأً. اعتقد عرفات أن ممارسات رجاله الفاسدة تساعده على السيطرة عليهم، لكنها كانت قد خدمت الشاباك الإسرائيلي أكثر بكثير. لقد ساعدت الشاباك في أن يرشو شخصيات فلسطينية ويبتزهم، أن يفتت القيادة الفلسطينية ويقوّض نضالهم من أجل التحرير. الفساد الفلسطيني بائس إلى حد كبير: أعمال مشبوهة مع رجال أعمال إسرائيليين، الكثير منهم حكام عسكريون سابقون، جباية عمولات، الفوز بمناقصات مزيفة، وغيرها. إنه ضئيل مقارنة بالفساد القانوني المعمول به، على سبيل المثال، عندنا، عندما يقوم رئيس حكومة باعتزال السياسة لفترة قصيرة ويكسب عشرات الملايين، مستخدما النفوذ، العلاقات والمعلومات التي كسبها خلال حكمه. جنرالات (احتياط) يتاجرون بالسلاح ويدفعون الرشاوى في جميع أنحاء العالم. عشرون أوليغاركيا يسيطرون بشكل مطلق على البورصة الإسرائيلية بمساعدة وزراء وموظفين رفيعي المناصب، مباعين لهم تماما. ناهيك عن الحديث عن الولايات المتحدة، التي تقوم فيها منظمات-لوبي بشراء سناتورات وأعضاء كونغرس بالتبرعات المالية. قامة شرطة إسرائيل، قبل عدة أشهر، باعتقال فهمي شبانة، وهو مواطن من القدس الشرقية يحمل بطاقة هوية إسرائيلية، بتهمة العمل لصالح السلطة الفلسطينية. إنها تهمة مثيرة للسخرية للوهلة الأولى، إذ أن المئات من مواطني القدس الشرقية يعملون في السلطة الفلسطينية. الحكومة الإسرائيلية تغض الطرف، كونها تحاول تحويل السلطة الفلسطينية إلى ما يشبه مقاولا ثانويا لديها. إذا لماذا تم اعتقال شبانة؟ هل كان ذلك بهدف تزويده بذريعة أمام الفلسطينيين وإزالة الشبهات استعدادا لظهوره كبطل محارب للفساد؟ هل لكي يتم ابتزازه؟ على أية حال، فقد تم الإفراج عنه بموجب كفالة (أمر غير اعتيادي) والمحاكمة لا زالت قيد النظر. لقد تحول الآن إلى "العربي الجيد"، بطل وسائل الإعلام الإسرائيلية، الذي يشكل جزءا من آلية دعاية مزيّتة بشكل جيد. من كل هذه القضية العكرة يبقى السؤال الوحيد: ما هو الهدف؟ إن من قرر أن يسوّد وجه أبو مازن يعلم بأن هذا الأمر يقوي حماس، التي لا يزال الجمهور الفلسطيني يعتبرها نقية من الفساد. يوجه نتنياهو ضربة قاضية إلى أبو مازن، الذي يرغب بإجراء مفاوضات معه، ويقدّم هدية ثمينة لحماس، أنه لا يريد إجراء مفاوضات. غريب. وربما لا؟ |