اوري افنيري 

"وصبي صغير يسوقها" / أوري أفنيري


إن لدى ثوماس فريدمان، محلل "النيويورك تايمز"، فكرة. هذا يحدث لديه في أحيان متقاربة، وربما متقاربة أكثر مما يجب.

فيما يلي الفكرة: على الولايات المتحدة أن تدير ظهرها للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وعلى العالم أن يحذو حذوها. لقد سئم العالم من هذا النزاع. على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يحلّوا مشاكلهم لوحدهم.

يبدو هذا معقولا. لماذا يتوجب على العالم أن ينشغل بهذين الولدين العاقين؟ ليكيل الضربات أحدهما للآخر كما يرغبان. لا يجدر بالبالغين سنًا أن يتدخلوا.

ولكن عمليا، هذه فكرة فظيعة. لأن قوتا هذين الولدين ليستا متساويتين. حين يرى شخص راشد ولدا عمره 14 سنة ينكّل بلا رحمة بولد يبلغ 6 سنوات، فهل يُسمح له بالوقوف مكتوف الأيدي؟

دولة إسرائيل أقوى من الفلسطينيين بمائة ضعف، بل قل بألف ضعف. إن الجيش الرابع في قوته في العالم (حسب التقدير الذاتي في الجيش نفسه) يسيطر على مصير شعب لا حول له ولا قوة. الاقتصاد الإسرائيلي، الذي يتمتع بأعلى التقنيات المتطورة في العالم، يسيطر على موارد شعب تكاد تصل موارده الاقتصادية إلى الصفر. احتلال عمره 42 عاما يسيطر على كل موقع وموقع في فلسطين المحتلة.

هذا لم يأت من عدم. إن الفجوة السحيقة بين قوتي الطرفين تنبع من الدعم الأمريكي لإسرائيل. لم تكن إسرائيل في المكان الذي توجد فيه لولا هذا الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري. مليارات دولارات المنحة السنوية، أحدث الأسلحة في العالم، الحصانة الدبلوماسية المضمونة بواسطة الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن وسائر أشكال الدعم الأمريكي ساعدت حكومات إسرائيل على اختلافها في ترسيخ الاحتلال.

لا يقترح فريدمان وقف هذا الدعم، الذي يشكل هو ذاته تدخلا مكثفا في النزاع لصالح أحد الطرفين - والطرف الأقوى بالذات. حين يقترح على الولايات المتحدة أن تسحب يدها من النزاع فهو يقول: دعوا حكومة إسرائيل تستمر في ما تقوم به – تستمر في الاحتلال، المستوطنات، سحب الأراضي من تحت أرجل الشعب الفلسطيني، بواسطة طوق خانق يمنع أي شكل من أشكال الحياة تقريبا عن مليون ونصف المليون فلسطيني، من الرجال والنساء والأطفال، في قطاع غزة.

هذا اقتراح فظيع!

صحيح أن النبي أشعيا (11، 6) وصف وضعا يسكن فيه الذئب والحمل. (روح الفكاهة الإسرائيلية علّقت على ذلك: لا توجد مشكلة. شريطة أن يُحضروا حملا جديدا في كل يوم!) والآن يقترح النبي ثوماس ترك الذئب والحمل يحلان المشاكل بينهما لوحدهما.

لم يكن بنيامين نتنياهو ليحلم بمثل هذا الاقتراح. إنه يكتفي حتى الآن بأقل من ذلك: أن يوافق الرئيس براك أوباما على حيلته الأخيرة.

وهكذا وقف نتنياهو أمام الأمة بوجه ملؤه الأسى وأعلن عن قراره غير المحتمل: وقف جميع أعمال البناء في المستوطنات.

رد العالم بأسره بالتصفيق والهتاف. ها هو نتنياهو يضحي بمبادئه الأكثر قداسة على مذبح السلام. لقد خطا خطوة هائلة. على الفلسطينيين الآن أن يردوا عليه بإبداء حسن نية من قبلهم.

ولكن شيئا ما ليس على ما يرام هنا، والأمر يتطلب البحث.

لنعد إلى شارلوك هولمز الكبير، الذي تحدث عن سلوك الكلب الغريب في الليل. قالوا له "ولكن الكلب لم يفعل شيئا". "هذا هو السلوك الغريب!" أجابهم الشرطي السري.

يمكن أن نتوقع بعد مثل هذا الإعلان الدراماتيكي من قبل زعيم الليكود أن يصرخ المستوطنون صرختهم الكبيرة. مظاهرات صاخبة في جميع مدن إسرائيل. سد الطرقات في الأراضي المحتلّة. تمرد المستوطنين في الحكومة وفي الكنيست.

ولكن الكلب لم ينبح. بالكاد أصدر بعض النخير والنحيب ليُقال أنه فعل شيئا. لقد فتحت الوزيرة ليمور لفنات فاها وقالت أن إدارة أوباما هي إدارة "فظيعة"، وهذا كل شيء تقريبا. أما الوزير المستوطن، أفيغدور ليبرمان، فما كان منه إلا أن صوّت في الحكومة إلى جانب الاقتراح، وهكذا فعل الوزير اليميني المتطرف بيني بيغين.

حتى أن بيغين شرح في التلفزيون تصرفه الغريب: لم يكن لديه سبب للمعارضة. فما هذا سوا إبداء حسن نية لإرضاء أوباما. ليس في ذلك أي شيء حقيقي. سيواصلون بناء "المباني العامة" (تمت المصادقة على نحو 300 مبنى هذا الأسبوع بالذات). سيواصلون إكمال جميع الشقق التي تم وضع أساساتها. (3000 شقة على الأقل في مختلف أنحاء الضفة الغربية). وبالأساس: لن يكون هنالك أي تقييد على البناء اليهودي في القدس الشرقية، حيث يبنون هناك الآن بوتيرة صاروخية، في نصف دزينة من المواقع في قلب المدينة العربية. إضافة إلى ذلك، فإن الفترة المؤقتة ستستغرق ما مجموعه عشرة أشهر، وعندها - هذا ما يعد به بيغين - سيتم تجديد البناء في جميع المناطق وبقوة كبيرة.

لم يمكن ذلك ليرضي المستوطنين لو أنهم لا يعرفون ما كل إسرائيلي يعرفه: أن كل الأمر هو بمثابة "وكأن". سيستمر البناء في كل مكان، بألف ذريعة وذريعة، وسيتعاون الموظفون بهدوء وسيتغافل الجيش الأمر. سيدعون أنه كانت هنالك تراخيص للبناء، وأن الأسس كانت قد وُضعت. (وبالفعل، فقد تم صب الأسس في العديد من الأماكن، استعدادا لأي طارئ). هكذا كان الأمر في الماضي، تحت إمرة حكومتي العمل وكاديما، وهكذا سيكون الأمر بأضعاف مضاعفة. عُلم هذا الأسبوع أن هنالك 14 (أربعة عشر) مراقبا حكوميا في الضفة الغربية يراقبون البناء.

لقد شغل المنصب في تلك الوزارة يوسي بيلين إلى جانب بيني بيغين، كما يجلس الأخوة معا. كان يحذونا الأمل بأن يكشف يوسي بيلين النقاب عن الخداع وأن يحتج عليه بشكل علني. ولكنه لم يفعل ذلك. لقد كال بيلين المديح لنتنياهو على خطوته الجريئة ورأى فيها بداية جيدة. وقد قدم له بذلك مساعدة هامة بين أوساط الرأي العام العالمي وبلبل رأي السذج في إسرائيل. من الصعب وصف مثال أكثر بؤسا من انهيار "اليسار الصهيوني". لقد تبدلت مبادرة جينيف بخداع القدس.

وقد انضم أكبر حزب معارض إلى الجوقة. لقد تلعثمت تسيبي ليفنيه، التي تحمل اللقب الرسمي الرنان "رئيسة المعارضة"، ببضع كلمات غير مفهومة.

وبراك أوباما؟ لقد هُزم مرة أخرى. بعد أن كان قد تنازل عن مطالبته بالتجميد الكامل للمستوطنات، لم يكن لديه خيار آخر سوى التنازل في هذه المرة أيضا. لقد ابتلع المسرحية البائسة التي مثلها نتنياهو وكأنها كانت دراما بطولية.

إن أوباما يحتاج إلى إحراز إنجاز. هنالك من يدّعي ضده أنه منذ أن تولى السلطة لم يحرز حتى إنجاز واحد على الحلبة الدولية. إذن، ها هو يحرز إنجازا. لقد جمد نتنياهو المستوطنات – عفوا، كبحها - عفوا أوقفها مؤقتا.

لقد علمني والدي في حداثتي أنه لا يجب الانهزام أمام المبتزّين أبدا. من يُهزم مرة، فستكتب عليه الهزيمة مرارا وتكرارا، وستكبر بصمات المبتز أكثر فأكثر. بعد أن هُزم مرة واحدة أمام اللوبي المؤيد لإسرائيل، سيضطر أوباما إلى الانهزام مرارا وتكرارا.

نكاد نشفق عليه وعلى مساعديه. مجموعة مثيرة جدا، عنيدة جدا، خبيرة جدا – وهم يعودون من القدس كجيش نابليون المهزوم العائد من موسكو.

لقد رأينا جورج ميتشل المسكين. إنه محلّ السلام بين الفصائل الفتاكة في ايرلندا يأتي إلى القدس. جاء مرة تلو المرة. جاء كمندوب من قبل المجلس العالمي ليخبر الإسرائيليين والفلسطينيين ما يجب عليهم فعله. لقد كان عنيدا. لقد أملى شروطه.

كان رجالات النخبة لدينا يضحكون من خلف ظهره. لقد اعتادوا على أمثاله. وقد تناولوا سابقيه كوجبة فطور. هل تذكرون ويل روجرز، وزير خارجية الرئيس نكسون الذي أحضر معه برنامج سلام خاص به؟ وهنري كيسنجر الكبير؟ وحتى جيمس بيكر، الذي حاول أن يفرض علينا عقوبات اقتصادية؟ و"خطة" بيل كلينتون؟ و"رؤيا" جورج بوش؟ إن المقبرة السياسية مليئة بالسياسيين الأمريكيين الذين حاولوا فرض الحدود على إسرائيل، من دون أن يكونوا مستعدين لممارسة القوة اللازمة. أهلا وسهلا بك يا ميتشل. أهلا وسهلا بك يا هيلري.

إن البلاهة في الأمر هي أن نتنياهو لا يخدع أوباما. الرئيس الأمريكي يعرف حق المعرفة نوع المسرحية. إنه ذكي جدا. ولكنه ليس شجاعا جدا. فمقابل يخنة العدس المتجسدة في إنجاز وهمي، قد باع الباكورة السياسية. حتى جورج بوش كان قد انتزع من أريئيل شارون التزاما بتفكيك جميع المستوطنات التي تمت إقامتها منذ شهر آذار 2001 (التزام لم يتم الوفاء به، بطبيعة الحال).

إنه انتصار كبير لنتنياهو وهو الانتصار الثاني على أوباما. هذا ما زال ليس انتصارا حاسما، ولكنه انتصار ينبئ بالسوء فيما بتعلق باحتمالات السلام على المدى المنظور.

لم يحاول نتنياهو أيضا أن يخدع الفلسطينيين. إنه يعرف أنه ليس لديه أي احتمال لينجح في ذلك.

كل فلسطيني يفهم إعلان نتنياهو حق الفهم. ما عليه سوى أن ينظر من نافذة بيته ليرى ما يحدث. لم تكن إسرائيل لتستثمر المليارات في بناء جديد، لو كان بنيتها أن تفكك المستوطنات بعد سنة من الآن، في إطار اتفاقية سلام.

لا يوجد أي مكان في الضفة الغربية تقريبا، لا نرى فيه مستوطنة على تله مجاورة أو بعيدة. إننا نرى، في العديد من الأماكن، مستوطنتين، وحتى ثلاث مستوطنات. وإذا اقتربنا، فإننا نرى البناء. العلني والخفي. الـ"قانوني" و"غير القانوني".

وبالأساس: لا يوجد أي زعيم فلسطيني يمكنه أن يوافق على مواصلة الاستيطان في القدس الشرقية. بناء الشقق الإسرائيلية متواصل بموازاة هدم المنازل الفلسطينية، وكذلك الحفريات "الأثرية" وسائر الممارسات التي هدفها المعلن هو "تهويد" القدس، أو بكلمات أكثر وقاحة، تحويل القدس كلها إلى "عربر- راين".

حين يُهزم أوباما أمام نتنياهو، فلا يوجد لدى أبي مازن ما يفعله. حين يطالب الأمريكيون الفلسطينيين بالرد على الخطوة "الهامة" التي خطاها نتنياهو بخطو هامة من طرفهم، فهذا نوع الاستهزاء. إنهم يساعدون نتنياهو في دحرجة الكرة إلى الملعب الفلسطيني، وبغمزة عين ساذجة يسألون لماذا، بعد هذا التنازل الكبير من قبل حكومة إسرائيل، لا يوافق الفلسطينيون على تجديد "عملية السلام"؟

ولكن أبا مازن لا يمكن أن يبدأ مفاوضات من دون تجميد كامل للمستوطنات، وعلى وجه الخصوص في القدس. إن الحوار الوحيد الذي يدور بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يدور في مكان آخر ومع حماس بالذات. إن صفقة تبادل الأسرى أصبحت قيد أنملة من نقطة الحسم. إن الخلاف الوحيد المتبقي هو إطلاق سراح زعيم فتح، مروان البرغوثي، الذي حُكم عليه في محاكمة ترويجية قبيحة بخمسة أحكام بالسجن المؤبد.

إذا خرجت الصفقة إلى حيز التنفيذ، وتم إطلاق سراح البرغوثي بالفعل، فستكون هذه بمثابة إهانة لأبي مازن. سيقولون أن حماس، وليس هو، من أطلق سراح زعيم فتح. سيعمل البرغوثي عندما يكون طليقا على رأب الصدع بين فتح وحماس، وسيكون مرشحا ذا احتمال عال في الانتخابات للرئاسة الفلسطينية. ستُفتح صفحة جديدة في تاريخ النزاع.

يجدر بنا أن نقرأ تلك الآية كاملة من سفر أشعيا: "فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل والمسمن معا، وصبي صغير يسوقها". الصبي الصغير على ما يبدو هو أوباما. إذا قبل، لا سمح الله، نصيحة فريدمان وخرج من الصورة، فإن النبوءة ستتحول إلى كابوس. ستزيد حكومة إسرائيل من القمع، وسيتحول الفلسطينيون إلى الإرهاب غير المحدود، وسينجر العالم بأسره إلى دوامة من الدماء.