اوري افنيري 

أن أكون هناك؟ لا، شكرا! / أوري أفنيري


قبل سنة من توقيع اتفاقية أوسلو، قمت بزيارة إلى ياسر عرفات في تونس. لقد كان مفعما بالفضول تجاه شخصية اسحق رابين، رئيس الحكومة المُنتخب لتوّه.

وصفته له قدر مستطاعي، وقلت في نهاية الأمر: "إنه شخص مستقيم، بقدر ما يمكن للسياسي أن يكون."

انفجر عرفات بالضحك، وكذلك جميع الحضور في الغرفة، ومن بينهم أبو مازن وياسر عبد ربه.

أقول بصراحة: كان رابين محببا إلى قلبي دائما كإنسان. وقد أعجبتني بعض مزاياه بشكل خاص.

بادئ ذي بدء: استقامته. هذه ميزة يندر وجودها بين أوساط السياسيين، حتى أنه برزت لديه كمصباح في صحراء في قلب القفر الشحيح. كان فمه وقلبه متساويين، بقدر ما كانت الحياة السياسية تسمح بذلك. إنه لم يكذب عن سابق قصد.

لقد كان شخصا نزيها. وقد شهدت على ذلك بالذات "فضيحة الدولارات": بعد أن أنها مزاولة مهامه كسفير لإسرائيل في واشنطن، أبقت ليئا زوجته هناك حسابا لا أهمية له في مصرف محلي، خلافا للقانون ساري المفعول آنذاك. حين اكتشف الأمر، أزال عبء المسؤولية كلها عن زوجته وتحملها هو. "تحمل المسؤولية" لم تكن من وجهة نظره كلمات فارغة من المضمون، كما هو متعارف عليه اليوم. لقد انسحب من ديوان رئيس الحكومة.

حتى ميزته الأكثر بروزا وهي الانطواء، قد أعجبتني. لقد كان شخصا منطويا على نفسه، ضعيفا في التواصل الإنساني. لا يربّت على الكتف، لا يكيل الإطراءات، إنه بعكس الرجل السياسي تماما. كان يعجبني حين كان يقول للأشخاص ما هو رأيه بهم من دون مداهنة. لقد تحولت بعض مقولاته إلى أقوال مأثورة في الفولكلور الإسرائيلي. ومنها "عابث لا يكلّ" (عن شمعون بيرس)، "مراوِح" (عن المستوطنين. وكان القصد هي المراوح التي تدور محدثة ضجيج من دون أن تتقدم إلى أي مكان) و "حُثالة ضعيفو الشخصية" عمّن كان يترك البلاد.

لم يكن يؤمن بالحديث الأجوف. ففي بداية أي حديث، كان يطرق الموضوع مباشرة، من دون تملّق.

كان من الممكن الاعتقاد أنه كان لهذه المزايا أن تبعد الناس عنه. ويا للعجب فقد حدث العكس: كان محببا إلى قلب الكثيرين بسبب هذه المزايا بالذات. لقد كان في عالم السياسيين المتعجرفين، الثرثارين، الكذبة، المداهنين في الصداقة تجديدا منعشا.

لقد احترمت رابين أكثر ما احترمته بسبب الانقلاب الذي أحدثه في مواقفه حين بلغ سن سبعين عاما. فذلك الرجل الذي كان جنديا منذ سن الثامنة عشرة، والذي حارب العرب طيلة حياته، تحول على حين غرّة إلى زعيم داعية للسلام. وهو ليس مجرد داعية سلام، بل سلام مع الشعب الفلسطيني، الذي أنكر زعماء إسرائيل مجرد وجوده.

الذاكرة الرسمية، وهي إحدى أنجع أذرع المؤسسات، تحاول اليوم أن تُقزّم من هذا الفصل. تُباع في البلاد بطاقات تحمل صور رابين والملك حسين في حفل التوقيع على اتفاقية السلام مع الأردن. ولا يمكن أن تجد بطاقة تحمل صورة رابين وياسر عرفات حفل التوقيع على اتفاقية أوسلو. لا شيء.

وكما رويت في أكثر من مرة، كنت شاهد عيان على هذا الانقلاب الذي حدث لديه. منذ العام 1969 وحتى ما بعد توقيع اتفاقية أوسلو، دار بيننا حوار متواصل حول القضية الفلسطينية. لقد تجادلنا حول ذلك في السفارة في واشنطن، في الاحتفالات التي دعينا إليها معا (عادة إلى جانب كشك المشروبات)، في ديوان رئيس الحكومة وفي منزله الخاص.

في حديثنا الذي جرى عام 1969، عارض رابين بشكل متطرف أي اتصال بالفلسطينيين. وكانت هنالك جملة بقيت في ذاكرتي: "أنا أريد حدودًا مفتوحة، وليس حدودًا آمنة!" بما معناه: نشر يغئال ألون آنذاك الشعار "حدود آمنة"، الذي كان شيفرة لضم واسع للأراضي. أما رابين فكان يرغب بحدود مفتوحة بين إسرائيل والضفة الغربية، التي أراد إرجاعها إلى ملك الأردن. بعد هذا الحديث، كتبت إليه أن الحدود ستكون مفتوحة بالذات إذا أقيمت على جانبها الآخر دولة فلسطينية، لأن الواقع الاقتصادي يستوجب وجود دولتين – إسرائيل وفلسطين – وأن تُقام بينهما علاقات وثيقة.

في عام 1975، وبعد بضعة أشهر من بدء الاتصالات السرية مع زعامة منظمة التحرير الفلسطينية، طلبت تبليغه بها (بطلب من منظمة التحرير الفلسطينية بالذات). في الحديث الذي دار في ديوان رئيس الحكومة، حاولت إقناعه بالتخلي عن "الخيار الأردني" الذي كان يبدو لي طيلة الوقت أمرًا أحمق. لقد رفض رفضا قاطعا. وقال "نحن بحاجة إلى صنع السلام مع الحسين". "لا يهمني بعد التوقيع إذا تم إسقاط الملك." كان رابين يؤمن، مثله مثل شمعون بيرس ومثل كثيرين آخرين، بأن الملك سيتخلى عن القدس الشرقية – وهو افتراض مخطئ تماما.

قلت له أنا لا أفهم المنطق الكامن خلف وجهة النظر هذه. لنفترض أن الملك سيوقع، وسيسقط بعد فترة ما. ماذا سيحدث عندها؟ ستسيطر منظمة التحرير الفلسطينية على دولة ستمتد من طول كرم وحتى مشارف بغداد، حيث يمكن أن تجتمع فيها أربعة جيوش عربية. هل هذا ما يريده، سألت؟

لقد انخرطت في ذاكرتي، من هذا الحديث أيضا، جملة واحدة: "لن أخطو حتى خطوة صغيرة باتجاه الفلسطينيين، لأن الخطوة الأولى ستؤدي بالضرورة إلى إقامة دولة فلسطينية، وهذا ما لا أرغب به". في نهاية الحديث قال: "أنا أعارض ما تفعله أنت، ولكنني ألا أمنعك من اللقاءات. إذا سمعت شيئا ما في هذه اللقاءات، وأنت تعتقد أنه من الحري أن يعرف بها رئيس الحكومة، فإن بابي مفتوح أمامك." هذا ما يميز هذا الرجل. كانت لقاءاتي، بطبيعة الحال، مخالفة للقانون.

بعد ذلك، أطلعته على بعض الرسائل من ياسر عرفات، التي تم تمريرها إليّ عن طريق سعيد حمامي، مندوب منظمة التحرير الفلسطينية في لندن. لقد اقترح عرفات تنازلات صغيرة متبادلة. أما رابين فقد رفضها كلها.

لذلك أعجبني كثيرا حين وقّع على اتفاقية أوسلو. بعد فترة ما، شرح لي في لقاء أجريناه في منزله في أحد أيام السبت، كيف توصّل إلى ذلك: لقد أخلى الملك حسين طرفه من المسؤولية عن الضفة الغربية. وقد فشلت "اتحادات القرى" التي أقامتها إسرائيل. قام وزير الدفاع بدعوة الزعماء الفلسطينيين المحليين لأحاديث انفاردية، جميعهم قالوا له أن العنوان هو تونس. بعد ذلك، وفي مؤتمر مدريد، وافقت إسرائيل على التفاوض مع بعثة أردنية-فلسطينية، وعندها أعلن الأردنيون أن على إسرائيل أن تتفاوض مع الزملاء الفلسطينيين في البعثة حول القضية الفلسطينية. ولكن في نهاية كل لقاء كهذا، كان الفلسطينيون يطلبون مهلة ليتصلوا بتونس وليتلقوا الأوامر من عرفات. كان استنتاج رابين ما يلي: إذا كانت جميع القرارات تصدر عن عرفات أصلا، فمن الأفضل التحدث معه مباشرة.

كانوا يقولون دائما أن رابين هو شخص ذو "عقل تحليلي". لم يكن لديه خيال واسع، ولكنه كان يرى الحقائق بمنظور حكيم، يحللها بمنطق ويستخلص العبر.

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا فشلت اتفاقية أوسلو؟

الأسباب العملية واضحة للعيان. لقد قلنا منذ اللحظة الأولى أن الاتفاقية كانت ترتكز إلى أسس هشّة، لأن الجوهر ينقصها: تحديد الهدف النهائي من العملية.

أما بالنسبة لعرفات، فكان الأمر مفروغ منه أنه بعد "المراحل المؤقتة" التي تم تحديدها في الاتفاقية، يجب أن تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة على جميع أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، ربما مع تبادل مناطق صغيرة ومحدودة. كان على القدس الشرقية أن تتحول إلى عاصمة دولة فلسطين وهي تشمل، بطبيعة الحال، منطقة المساجد. كان يجب تفكيك المستوطنات. أنا على قناعة أنه كان سيكتفي بعودة رمزية لعدد محدود من اللاجئين.

كان هذا هو الثمن الذي سيدفعه عرفات مقابل التخلي عن 78% من مساحة البلاد، ولن يكتفي أي زعيم فلسطيني في الحاضر وفي المستقبل بأقل من ذلك.

ولكن هدف رابين كان مشوّشا، ربما من وجهة نظره هو أيضا. لم يكن مستعدا في ذلك الحين بعد للاعتراف بدولة فلسطينية. وبانعدام وجود هدف متفق عليه، تشوّشت أيضا "المراحل المؤقتة". كانت كل خطوة تؤدي إلى نزاع جديد. (وكما كتبت في حينه: حين نسافر من باريس إلى برلين يمكننا أن نتوقف في محطات مرحلية. حتى لدى السفر من باريس إلى مدريد توجد محطات مرحلية، ولكنها مختلفة تماما).

كان عرفات يعي عيوب الاتفاقية. لقد قال لأتباعه أن هذه "أفضل اتفاقية في أسوأ وضع". ولكنه كان يؤمن أن عملية السلام ستتسارع وستتغلب على العوائق التي تعترض طريقها. أنا أيضا كنت أؤمن بذلك. كان ذلك بمثابة خطأ.

بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو، تصرف رابين بتردد غريب بدل الانطلاق إلى الأمام وتقرير الوقائع، تمرّغ في مكانه. بهذا الشكل تم توفير الوقت لقوى المعارضة في الدولة لتتعافى من الصدمة، لتنتظم من جديد ولتشن هجوما مضادا، انتهى بعملية الاغتيال.

يبدو للوهلة الأولى أنه كان إخفاقا من الممكن توقعه مسبقا. كان رابين شخصا مترددا بطبيعته. كان يدرك المسؤولية التاريخية الملقاة على كاهله. لم تكن لديه ميول للدراما، كما هي الحال لدى بيغين، وهو لم يتبارك بخيال واسع، كما هي الحال لدى هرتسل. إنه يعيش الواقع، بما في ذلك من جيد وسيئ. لم ينجح في تغييره، على الرغم من أنه كان يعرف أن هذا ما يجدر به أن يفعله.

ولكن هذه التفسيرات هي الزبد الذي يعلو الماء فقط. أما في الأعماق فكانت تعمل تيارات أكثر قوة، أكثر أهمية. لقد جعلت هذه التيارات رابين ينحرف عن طريقه وقد جرفته معها في نهاية الأمر.

كان رابين من أتباع الأيديولوجية الصهيونية الكلاسيكية. إنه لم يتمرد ضدها ذات مرة. كان جسده يحمل الشيفرة الوراثية للحركة الصهيونية: حركة تم تأسيسها لتحول أرض إسرائيل إلى دولة يهودية حصرية، تنكر على امتداد دربها وجود الشعب العربي الفلسطيني وهدفها البنيوي كان أن "ترث" الشعب الفلسطيني، كما تقول التوراة.

مثله مثل معظم أبناء جيله في البلاد، نهل رابين من هذه الأيديولوجية كما نهل حليب أمه وترعرع عليها في كل يوم من أيام حياته. لقد بلور رؤياه إلى حد لم يكن يدركه. لقد وقع، في التحول الحاسم في حياته، ضحية لتعارض داخلي لا مخرج منه: كان عقله التحليلي يملي عليه أن يصنع السلام مع الفلسطينيين، أن "يتنازل" عن جزء من البلاد وأن يفكك المستوطنات، وأما جيناته الصهيونية فقد عارضت ذلك بكل ما أوتيت من قوة. لقد برز ذلك في احتفال التوقيع على اتفاقية أوسلو. لقد مد يده ليصافح عرفات، هذا ما أمره به عقله، ولكن لغة جسده كانت تعبر عن معارضة شديدة.

لا يمكن صنع السلام من دون وجهة نظر تدعو إلى السلام. لا يمكن تغيير اتجاه حركة تاريخية من دون انتقاد طريقها. لا يمكن للزعيم أن يؤدي بنفسه إلى تغيير تام (كما فعل أتاتورك في تركيا مثلا)، إذا لم يكن الأمر مشتعلا بين عظامه. ولا يمكن صنع السلام مع عدو من دون فهم الحقيقة التي يؤمن بها.

لقد استمر رابين في التطور بعد أوسلو. لقد نشأت بينه وبين عرفات علاقات احترام متبادلة. كان من الممكن أن يصل، بأسلوبيه البطيء والحذر، إلى التحول الفكري المطلوب. غير أن القاتل ومرسليه قد منعوا ذلك، وهذا كان هدفهم.

سوف يتجسد فشل رابين في الاحتشاد الجماهيري لذكراه، الذي سيُعقد بعد أسبوع في المكان الذي اغتيل فيه، بمناسبة مرور 14 سنة على اغتياله. سيخطب في هذه الذكرى شمعون بيرس وإيهود باراك، وهما من دفنا اتفاقية أوسلو، وإلى جانبهما تسيبي ليفنيه وغدعون ساعار، اللذان كانا ينتميا آنذاك إلى المعسكر الذي خلق الجو لعملية الاغتيال. أعتقد أن مضجع رابين يُقض في قبره.

أن أكون هناك؟ لا، شكرا!