|
||
"ولذلك فأنا... من قدامى البلاد يبلغ من العمر 95 سنة، حرث ثلما في أرض هذه البلاد، وغرس فيها شجرة، وبنى فيها بيتا، وأنجب فيها أبناء وأحفادا وأبناء أحفاد، وحتى أنه سكب دماؤه على أرضها في النضال من أجل إقامة الدولة، "أقر بهذا أنني أنكر إيماني بالصهيونية التي خيبت الآمال، ولن أكون بعد ذلك وفيا للدولة الفاشية اليهودية ولرؤاها المحرّفة، وأنني سأكف عن إنشاد النشيد الوطني الخاص بها، وأنني سأقف حدادا في ذكرى شهداء المعارك من كلا الشعبين، وسأتطلع بقلب كسير على إسرائيل التي قضت على نفسها، وعلى مصير ثلاثة أجيال أنجبتها وربيتها فيها". منذ أن عرفتك، دوف، قبل نحو خمسين عاما، اعتبرتك ملح الأرض. إنك ابن الاستيطان العامل، يا من قاتلت في حرب عام 1948، كولونيل في الجيش الإسرائيلي، إنسان متواضع، رجل خلوق بكل جوارحك. كشفت النقاب، في حرب لبنان الأولى، عن البشاعات التي ارتكبها بعض من رجالنا ضد اللاجئين الفلسطينيين في منطقة صور وصيدا، وقد هزّ كياني التقرير الذي وضعته أنت ليس بأقل من مجزرة صبرا وشتيلا. وكما يفعلون الأشخاص الذين "يكسرون حاجز الصمت"، لم تتخوف من كسر حاجز الصمت، على الرغم من أنك كنت تعلم أن زملاءك، ضباط الجيش الإسرائيلي، سوف ينأون عنك. أنت رجل محبب إلى قلبي، يا دوف. ولذلك فقد هزتني تصريحاتك بشكل خاص. يبدوا لي أنه من الجدير أن نشرك بعض الأشخاص المتواجدين بيني وبينك في النقاط الأساسية في أقوالك، والذين تقض صورة الدولة مضجعهم. لقد استهللت رسالتك بأقوال عن مؤسسي الحركة الصهيونية. "لو كان بإمكان هرتسل أن يقوم من قبره وأن يرى كيف تحول من يزعمون في أيامنا هذه برفع راية الصهيونية المحقِقة التي كان أول واضعيها ومحدثيها، لكان سيفرّ في الحال، منذهلا ومسكينا، ليعود إلى مرقده. كذلك الأمر بالنسبة لحاييم وايزمان ومعظم محققي الصهيونية من الناحية العملية، الطلائعيين، أباء وأمهات جيلي أنا. لقد كانوا يحملون ضمائر ووجدان، وكون الإنسان، أي إنسان كان، منصفا ومستقيما كان من أهم اعتباراتهم. أنت توجه أهم سهام اتهاماتك الساخنة إلى تعامل الدولة مع الشعب الفلسطيني. "كما أن إسرائيل تقيم، منذ 42 عاما، معسكر اعتقال ضخم في فلسطين الموعودة، وتحتجز فيه تحت وطأة نظام حكم عسكري قامع وقاس شعبا كاملا، لهدف واحد ووحيد وهو استلاب أرضه منه وجعلها إرث لها وليكن ما يكون. "أما محاولات انتفاضاته فيقمعها الجيش الإسرائيلي بنفس متشوقة، بمساعدة فعالة من بلطجيي سلاح المستوطنات، بقسوة على شكل أبارتهايد متحذلق وطوق خانق، تنكيل غير إنساني بالمرضى وبالوالدات، بتدمير اقتصاده وباستلاب أخصب أراضيه وأوفر مياهه. "ولكن فوق ذلك كله، ترفرف راية سوداء فظيعة من الاستهتار الرهيب بحياة الإنسان والدم الفلسطيني، وأما سجلات أرقام حساب الدماء التي يديرها الجيش الإسرائيلي مع الفلسطينيين، وخاصة دماء الأطفال، بأعداد تقشعرّ لها الأبدان، لن يُصفح لإسرائيل عنها إلى الأبد. ولكن يبدو لي أن لليأس السحيق، الذي يتجسد في أقوالك، جذور أخرى. هو شعور يعشّش في قلوب كثيرين من أبناء جيلك - جيلي، ممن "سرقوا الدولة منّا"، أنه لم يعد هناك أي وجه شبه بين الدولة التي حلمنا بها وقاتلنا من أجلها وبين هذا الشيء الذي قام مكانها. حين أفكر بأيام صبانا، أيامك وأيامي، تعود وتبدو أمامي، مرارا وتكرارا، صورة ما: مؤتمر داليا، 1947. على سفح الجبل في المدرّج الطبيعي على قمم جبل الكرمل، جلس في تلك الليلة عشرات آلاف الشباب والشابات. كان يبدو ذلك، للوهلة الأولى، حفل رقصات شعبية، ولكنه كان عمليا أكثر من ذلك بكثير – كان احتفال كبير تحتفل به الثقافة العبرية الجديدة، التي أنشأنها في حينه في هذه البلاد، والتي لعبت فيها الرقصات الشعبية دورا هاما. كان معظم الراقصين والراقصات من أعضاء فرق الكيبوتسات وحركات الشبيبة، وكانت الرقصات رقصات عبرية أصيلة، اندمجت فيها رقصات شعبية روسية، بولونية، يمنية وحاسيدية. كانت هناك أيضا مجموعة من الشباب العرب، الذين دبكوا الدبكة بنشوة، دبكوا ودبكوا ودبكوا. في منتصف الاحتفال، أعلنوا في مكبرات الصوت أن عددا من أعضاء لجنة الأمم المتحدة قد حضروا إلينا، وقد تم إرسال هذه البعثة من قبل المنظمة العالمية لتقرير مصير البلاد. حين رأيناهم يدخلون إلى المدرّج، انتصب عشرات الآلاف على أرجلهم وانطلقوا ينشدون "هتيكفا" بنشيد هائل، سمعت أصداؤه من على قمم الجبال. لم نكن نعلم أن الحرب العبرية-العربية الكبيرة ستنشب خلال نصف سنة، حرب استقلالنا وحرب نكبتهم. أعتقد أن معظم القتلى الستة آلاف (6000) من طرفنا، والذين سقطوا في هذه الحرب، كان قد حضروا الاحتفال الذي عُقد في ذلك الحين في داليا، ورأى أحدهم الأخر، وأنشد أحدهم مع الآخر، وكذلك الآلاف الذين أصيبوا بجراح في تلك الحرب، مثلك ومثلي. بأي دولة فكرنا في حينه؟ وما هي الدولة التي انطلقنا لإقامتها؟ ما الذي حدث للمجتمع العبري، للثقافة العبرية، للأخلاقيات العبرية التي طالما اعتززنا بها؟ نعم، لقد أقمنا دولة. "مدينة تقوم على الثكنة العسكرية". لقد أحضرنا الملايين إلى البلاد. وتحولنا من جمهور عبري يبلغ تعداده 460 ألف نسمة إلى جمهور يبلغ تعداده 7.5 مليون نسمة. جيل رابع وخامس يتحدث بالعبرية كلغته الأم. تعاظم شأن اقتصادنا ومتانته، حتى في أيام الأزمات. نحن موجودون في طليعة الإنجازات البشرية في عدة مجالات. ولكن هل هذا هو المجتمع وهذه هي الدولة اللذان تخيلناهما في يوم إقامتها؟ هل هذا هو الجيش الذي أقسمنا، أنت وأنا، الولاء له في يوم تأسيسه؟ هل حلمنا بمثل هذا المجتمع الفاسد، الذي لا يعرف الشفقة، الذي تتمتع فيه قلة قليلة من الأثرياء جدا، البقرات السمان في أيامنا، بخصوبة الأرض، بينما تتمرغ مجموعة كبيرة من السياسيين، الإعلاميين وسائر المتطفلين في تراب أقدامهم؟ هل حلمنا بدولة هي بمثابة جيتو معزول ومُبعد عن المنطقة التي تحيط به، ويحتجز بداخله جيتو فلسطيني مسلوب ومقموع، جيتو داخل جيتو؟ سقا الله تلك الأيام، حين كان يمكننا أن نقوم في أي مكان في العالم ونعلن باعتزاز "أنا إسرائيلي!"، إن أحدا منا لا يفعل ذلك اليوم، في أي مكان في العالم. أصبح اسم إسرائيل يبعث على الاشمئزاز وهو ممقوت في العالم. منذ الحرب على غزة، التي سكب فيها جيشنا الرصاص المغلي على الرجال والنساء والأطفال، يتخوف إسرائيليون كثيرون من التحدث بالعبرية في ساحات المدن في العالم، ويصدر الجيش الإسرائيلي أمرا بتمويه وجوه ضباطه - الذين يحملون رتبة موازية لرتبتك - في الصور التي يتم بثها في وسائل الإعلام. لماذا يحدث هذا؟ متى حدث هذا؟ لن أدخل معك في نقاش حول أسس الصهيونية، الإيجابية منها والسلبية. قد لا نتوافق الرأي. لن أتطرق أيضا إلى السؤال هل بدأ كل شيء بالفعل عام 1947، في ذلك النصر الذي يبعث النشوة والإدمان، أم أن بذرة المصائب كانت قد نمت قبل ذلك. هناك شيء أوافقك الرأي فيه تماما: أن الكارثة الكبيرة قد بدأت آنذاك، غداة الحرب، حين كان بإمكاننا أن نختار بين ذهب السلام وبين جمر ضم الأراضي الحارق. وقد دسسنا أيدينا في الجمر. أما أنا شخصيا فضميري مرتاح. أنا أفتخر في أنني كنت بين قلة في الدولة، والوحيد في الكنيست، ممن اقترح في سياق الحرب تسليم الأراضي المحتلة إلى الشعب الفلسطيني فورا، لكي يقيم عليها دولته. لقد تم تفويت هذه الفرصة التي لا تعوّض، على حد أقوالك، بسبب جشع أباء المستوطنين، من ينادون بأرض إسرائيل الكبرى. لقد تطورت الأمور من تلك النقطة، كما في تراجيديا يونانية، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، حيث سيطرت زُمرة من المستوطنين، العنصريين، الوطنيين، المتدينين الداعين للمسيح المنتظر ومجرد فاشيين، على الدولة، جاعلين الكنيست أشبه بالسيرك، ملطخين الجهاز القضائي، مفسدين الجيش، فارضين على الدولة قوانين دينية حالكة، مقدّمين الخزينة العامة إلى أرباب المال غير مكبوحي الجماح، ملوثين الجهاز التربوي بمضامين عنصرية رجعية، ملاحقين اللاجئين المساكين الذين يبحثون عن ملاذ لهم لدينا، قامعين الأقلية القومية، ومخططين لحملات لزرع القتل والدمار بين أوساط السكان المدنيين. هذه هي الدولة التي تمقتها أنت. لذلك لا خلاف لي معك حول هذا الموضوع. هذه هي الدولة التي يئست منها أنت. أما هذا الموضوع فلي معك خلاف عليه. أنت تحمل اسم النبي الأقرب إلى قلبي، النبي المتشائم الذي قال: "وَيْلٌ لِي يَا أُمِّي لأَنَّكِ وَلَدْتِنِي إِنْسَانَ خِصَامٍ وَإِنْسَانَ نِزَاعٍ لِكُلِّ الأَرْضِ... وَكُلُّ وَاحِدٍ يَلْعَنُنِي" ولكن ارميا لم يأت ليتذمر فقط، بل أتى ليُعطي الدواء الشافي: "لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ". أنت يا دوف قدّمت لهذه الدولة أكثر بكثير من أن تدير لها ظهرك تعبيرا منك عن الغضب واليأس. لأن المقولة التي أكثر ما أكل عليها الدهر وشرب والتي أكثر ما يصحّ استخدامها هي: "ليست لدينا دولة أخرى!" لقد تدهورت دول أخرى في العالم إلى الحضيض وأنجزت جرائم فظيعة، تفوق أفظع الخطايا، وعلى الرغم من ذلك أرجعت هذه الدول نفسها إلى عائلة الشعوب وأنقذت نفسها. نحن وكل أبناء جيلنا، من مؤسسي هذه الدولة، نتحمل مسؤولية كبيرة تجاهها. مسؤولية تجاه ذريتنا، مسؤولية تجاه من تقمعهم هذه الدولة، مسؤولية تجاه العالم أجمع. لا يمكننا أن نخلي طرفنا من هذه المسؤولية. يجب عليك، وأنت في هذا السن الوقور، ولربما بسب سنك الوقور وما تمثله أنت، أن تشكل بوصلة لتوجّه الشباب ولتوضح لهم: هذه الدولة لكم، يمكنكم أن تغيّروها، ولكن لا تدعوا مدمّريها العنصريين يسلبونها منكم! صحيح، كان قصدنا قبل 61 سنة دولة مختلفة. أما الآن، وبعد أن تدهورت إلى المكان الذي تتواجد فيه الآن، يجب أن نتذكر تلك الدولة الأخرى وأن نذكّر بها، صباح مساء، كما كان يجب أن تكون، كما كان يمكن أن تكون، وليس لنا أن ندعها تتلاشى كالحلم. لتتضافر كل الجهود لتصحيحها وإشفائها! لقد أسمعت أقوال النبي ارميا، النبي المتشائم. أرجو منك أيضا أن تُسمع أقوال ارميا، نبي الأمل! |