اوري افنيري 

"نال المنهك الراحة..." / أوري أفنيري


أسبوع الفصح هو موسم الرحلات. يتم افتتاح النشرات الإخبارية في الراديو والتلفزيون بكلمات مثل: "جماهير من إسرائيل تقضي وقتها في المتنزهات الوطنية..."

هذا العيد هو أيضا عيد الأغاني الوطنية. تظهر في التلفزيون مجموعات من شائبي الشعر مع أولادهم وأحفادهم وهم يجلسون ويغنون بحماس أغاني فترة شبابهم، فهم يتذكرون كلمات هذه الأغاني عن ظهر قلب.

"نال المنهك الراحة / والعامل على الهدوء/ ليل شاحب يغطي / حقوق سهل يزراعيل/ ندى من الأسفل وقمر من الأعلى/ من بيت ألفا وحتى نهلال..." تركز الكاميرا على وجه جدة علت التجاعيد وجهها وعيناها مغرورقتان بالدموع، ولا يصعب أن نتخيل أنها كانت ذات مرة شابة جميلة. يسهل أن نتخيلها في كبيوتس في السهل، ببنطال قصير وضفيرتها على كتفها، منحنية، تبتسم، فوق نباتات البندورة في الحقل الأخضر.

يتأجج الحنين إلى الماضي.

أعترف أنني لست متحررا من هذا الحنين إلى الماضي. يحدث لدي أيضا شيء ما عند سماع هذه الأغاني، وأنا أنضم إلى الأغاني رغما عني تقريبا.

ككثيرين آخرين، فأنا أعاني من ظاهرة "عدم التوازن الفكري". قلبي ومخي غير متوازنين. إنهما يبثان بموجات مختلفة. بكلمات بسيطة: دماغي يعرف أن المشروع الصهيوني قد ألحق ظلما تاريخيا بالشعب الذي سكن البلاد. ولكن قلبي يتذكر ما كان نشعر به في تلك الأيام.

في سن العاشرة، بعد بضعة أسابيع من هروبنا من ألمانيا النازية ووصولنا إلى البلاد، أرسلني والديّ إلى نهلال، أولى المستوطنات. سكنت لدى عائلة "فلاحين" - لم يكونوا قد أصبحوا بعد "مزارعين" - لكي "أتأقلم" وأتعلم العبرية.

ماذا كانت نهلال آنذاك؟ 75 عائلة، بيوتهم الصغيرة مبنية على شكل دائرة، وكانوا يعملون منذ بزوغ الشمس وحتى هبوط الليل. تحولت أرض البلدة في الشتاء إلى وحل، كان يلتصق بالنعال بارتفاع عشرة سنتمترات وكان وزنه كوزن الرصاص. كانت درجة الحرارة في الصيف تصل هناك إلى 30 درجة في الظل. نحن، الأولاد، عملنا مع البالغين، وفي بعض الأحيان كان هذا الأمر صعبا لا يمكن احتماله.

الجميع كان يعيش في فقر لا يمكن وصفه. أتذكر أن كأسا صغيرة من النبيذ من صنع ذاتي في ليلة السبت كانت بمثابة دلال. كانت النقود تُقاس بالقروش. حين كانت أم العائلة تحصل أخيرا على ماكينة خياطة من نوع "زينغر" وكان باستطاعتها أن تخيط ثياب العائلة، كان ذلك بمثابة عيد.

حين كتب ألترمان "نال المنهك الراحة"، لم يكن ذلك بمثابة استعارة شعرية. لقد قصد أشخاصا حقيقيين.

كان هؤلاء الأشخاص أولاد برجوازيين من سانت بتربورغ وكييف، أولاد مدللون لأهل ميسوري الحال، جاؤوا "لبناء البلاد"، واختاروا بأعين يقظة حياة الفقر والعمل المضني، تعلموا لغة غريبة وتوقفوا تماما عن التحدث بلغة الأم. لقد عملوا في سنواتهم الأولى عملا شاقا لتجفيف المستنقع الذي امتد على أرض البلدة. لا أعتقد أنهم بعد يوم العمل كان لديهم ما يكفي من القوة لقراءة تولستوي ودوستويفسكي.

لقد كانوا يعرفون بطبيعة الحال أن هناك عرب في الجوار. لقد كانوا يمرون بجانب قراهم في طريقهم من نهلال إلى حيفا. رأوا فلاحين يعملون في الحقول. ولكنهم كانوا عالما آخر. في تلك السنة – 1934 – كان الهدوء لا يزال قائما، الهدوء ما قبل عاصفة "أحداث" 1936. لم يتعاملوا مع العرب، لم يفهموا لغتهم، لم تكن لديهم أية فكرة ما الذي يدور في رؤوسهم حين يرون اليهود يحرثون أراضيهم.

ما كانوا يعرفونه هو أن حقول السهل، "بحر الحبوب المتحرك" الذي أسدل عليه ليل الشاعر الشاحب سدوله عليه، كان ذات مرة مستنقعات تم شراؤها بحر المال من صاحب أرض عربي. لم يفكر أحد منهم في حينه بالعاملين العرب في الأرض الذين كانوا يعيشون على هذه الأرض منذ أجيال، والتي كانت كل قوتهم، والتي طردوا منها حين باعها صاحب الأرض الثري لليهود.

الحنين إلى الماضي هو شعور إنساني. يتذكر المسنون، في كل جيل، أيام شبابهم، التي تبدو معظمها لهم أيام طهارة وسعادة.

ينضم إلى الحنين الشخصي الطبيعي هذا رونق خاص، يؤدي بالأغاني القديمة إلى إغراقنا بالحنين إلى سذاجة ذلك الوقت، إلى الإيمان "بمصداقية الطريق"، حين كان يبدو كل شيء بسيطا.

كنا نعرف أننا نشارك في جهد بطولي، لم يسبق له مثيل، خلق عالم جديد، مجتمع جديد، إنسان جديد، ثقافة جديدة، لغة جديدة. تذكرنا من أين أتينا – من أوروبا التي تحولت إلى جحيم لليهود. علمنا أنه من المفروض علينا واجب بناء ملجأ لملايين اليهود، الذين تعرضت حياتهم إلى الخطر المتزايد (حتى ولو لم يكن يحلم أي شخص بالكارثة)، والذين ليس لديهم مكان ليهربوا إليه.

ساد إحساس بالشراكة، بالانتماء، بالأيديولوجية. عبرت الأغاني الجديدة عن ذلك، وجميعنا كنا نغنيها في الأمسيات في حركات الشبيبة، في أمسيات الكيبوتس، في النزهات في مختلف أنحاء البلاد، حتى في الحركات السرية المختلفة مع التغييرات التي لا بد منها، وبطبيعة الحال في المدارس أيضا.

حين نشبت "الأحداث" في نيسان من العام 1936، لمن نعتبرها "تمردا عربيا". كما حدث في "أحداث" 1921 وفي "مجزرة" 1929، كانت تبدو هذه أيضا كمؤامرة من قبل البريطانيين الذين حرضوا العرب الجهلة بهدف الاستمرار في حكم البلاد. لقد انقضت الجماهير العربية "المحرضة" علينا لأنها لم تفهم إلى أي حد كنا جيدين بالنسبة لهم. إنهم لم يدركوا أننا نحضر التقدم إلى البلاد، زراعة متطورة، صندوق للمرضى، الاشتراكية، تضامن العمال. كان زعماؤهم "الأفنديون" الأثرياء يحرضونهم لأنهم يخافون من أن يتعلموا منا وأن يطالبوا بأجور مرتفعة. وكان هناك، بطبيعة الحال، من اعتبر العرب قتلة لمجرد القتل، والقتل هو طبيعتهم ووصية في دينهم.

لم تكن هذه ذرائع ساخرة. لم تكن الصهيونية ساخرة. كان المجتمع العبري بأسره يؤمن بهذه العقيدة. بعد مرور الزمن يمكن القول: كانت هذه المعتقدات ضرورية لها لكي تحافظ على روح أيديولوجيتها من خلال تجاهل الوجه الآخر للعملة.

لقد راقب زئيف جبوطنسكي، الذي كان يعيش خارج البلاد، والذي لم يكن شريكا في المجهود الطلائعي "لأرض إسرائيل العاملة"، عن بعد وشاهدها بالذات كما تحدث: منذ العشرينيات قال أن العرب الفلسطينيين يتصرفون كأي شعب، حين يعرف هذا الشعب أن شعبا أجنبيا ينوي تحول وطنهم إلى ملك له. ولكن قلائل هم من أصغوا إليه.

كان في اليسار الصهيوني، كل الوقت، مجموعات وأفراد ممن عملوا على إيجاد تسوية بين الصهيونيين وبين أبناء البلاد، يمكنها أن تتيح استمرار المشروع الصهيوني، الذي استوطن كافة أنحاء البلاد. في عام 1946 فقط تمت إقامة المجموعة الأولى (التي كنت أنا من بين مؤسسيها) والتي اعترفت بالحركة الوطنية الفلسطينية - والعربية عامة - والتي اقترحت عقد تحالف معها.

في عام 1948، انضمت أغاني حرب الاستقلال إلى أغاني محبة الوطن. بالنسبة لها أيضا، فإن لدى كثيرين منا هناك عدم توازن إدراكي. فمن جهة – ما أحسسنا به نحن في ذلك الحين. ومن جهة أخرى – الحقيقة كما هي معروفة لدينا اليوم.

من ناحية المقاتلين - والاستيطان كله - كانت هذه حرب على الوجود، بكل ما في هذه الكلمة من معنى. كان الشعار "لا يوجد خيار"، وجميعنا آمنا به إيمانا كاملا. قاتلنا بينما كان ظهرنا إلى الحائط. لقد أحاط بنا العدو من كل حدب وصوب، وكانت حياة عائلاتنا تتعرض لخطر حقيقي. كنا نؤمن أننا قلائل، قلائل جدا، لا سلاح لدينا، أمام بحر من العرب. في النصف الأول من الحرب سيطر المقاتلون الفلسطينيون بالفعل (الذين دعوناهم "العصابات") على كل الطرقات، وفي النصف الثاني وصلت الجيوش العربية إلى مراكز السكن العبرية، طوقت القدس واقتربت من تل أبيب. فقد الاستيطان 6000 شاب من أصل سكان يبلغ عددهم 635 ألفا. مجموعات كاملة كادت تمحى. تم إنجاز أعمال بطولية لا تعد ولا تحصى.

وجد المذهب المثالي لدى المقاتلين تعبيرا له في الأغاني. كان معظمها أغاني مفعمة بالإيمان بالنصر، وبطبيعة الحال الإيمان بصدقنا التام. لم نبق عربا خلف جبهتنا، وكذلك تصرف العرب في الطرف الآخر. كان يبدو ذلك، في الظروف القائمة، حاجة عسكرية مفروغ منها. لم يفكر المقاتلون في ذلك الوقت "بالتطهير العرقي" – هذا المصطلح لم يكن قائما في ذلك الوقت.

لم يكن لدينا أي فهم لموازين القوة الحقيقية بيننا وبين الطرف الآخر. كانوا العرب يبدون لنا قوة هائلة. لم نكن نعلم أن الفلسطينيين متنازعون فيما بينهم، وأنهم غير قادرين على الاتحاد وإقامة قوة قطرية حامية، وأن ليست لديهم زعامة وأنه ليس لديهم سلاح جدي. بعد ذلك، حين دخلت الجيوش العربية إلى الحرب، لم نكن نعرف أنها غير قادرة على التعاون فيما بينها، وأنه كان من المهم لديها أن يسبق أحدها الآخر أكثر من أهمية ضربنا.

يزيد اليوم عدد من يفهمون كامل معنى مصطلح "النكبة"، مأساة الشعب الفلسطيني الكبرى بكل تفاصيلها، حيث فقدوا بيوتهم ومعظم أراضي وطنهم. تأتي الأغاني لتذكرنا بما أحسسنا به وما فكرنا به في الوقت الحقيقي، عندما حدثت الأمور. ثمة هوة ساحقة بين الواقع الشعوري الذي ساد آنذاك وبين الحقيقة الموضوعية المعروفة لدينا اليوم.

هذا أمر غير مهم في أعين من يرى حرب عام 1948 كلها كمؤامرة شيطانية من قبل الزعامة الصهيونية، التي كانت تنوي منذ البداية طرد الفلسطينيين من البلاد لتحويلها إلى الدولة اليهودية. بموجب هذا المفهوم كان جنود 1948 هم مجرمو حرب، نفذوا سياسة غاشمة، كما كان الطلائعيون في الجيل الذي سبقهم من سارقي الأرض، فرسان التطهير العرقي بواسطة الطرد ونزع الملكية.

يجد أصحاب هذا الرأي تعزيزا لهم في أعمال مستوطني اليوم، الذين ينتزعون بقية أراضي الفلسطينيين ويسوّدون بأعمالهم الماضي الطلائعي. يقوم المتطرفون المتدينون والبلطجيون الفاشيون، الذين يزعمون أنهم ورثة الطلائعيين، بتشويه النوايا الحقيقية لأبناء الجيل القادم.

كيف يمكن تسوية التعارض بين نوايا ومشاعر الأشخاص في الوقت الحقيقي، في الوقت الذي أقاموا فيه أيضا مشاريع يفتخر بها، وبين الجهة المظلمة من أعمالهم ونتائجها؟

كيف يمكن التغني بالأمل وأحلام شبابنا وفي الوقت ذاته الاعتراف بالظلم الفظيع الذي اقترفناه؟ أن نغني، بكل قلوبنا، أغاني الوطن وأغاني معارك تلك الحرب (التي كنت قد ألفت إحداها وأنا بعيد كل البعد عن التفاخر بها)، من دون أن ننكر المأساة الفظيعة التي لحقت بالشعب الفلسطيني، والتي كنا نحن السبب فيها؟

قال براك أوباما هذا الأسبوع للأتراك أن عليهم أن يواجهوا مذبحة الأرمن التي نفذها آباؤهم، وخلال ذلك ذكر أيضا أن الأمريكيين يجب عليهم مواجهة إبادة الهنود الحمر التي أنجزها أجدادهم.

أعتقد أن الأمر ممكن. فيما يتعلق بالكارثة التي ألحقناها بالفلسطينيين. أعتقد أن هذا الأمر ضروري من أجل صحتنا النفسية أيضا كشعب، وأن هذه هي الخطوة الأولى على طريق المصالحة المستقبلية. علينا أن نعترف بنتائج أعمالنا، يجب تصحيح ما يمكن تصحيحه – من دون أن ننكر ماضينا والأغاني التي تجسد سذاجة شبابنا.

علينا أن نعيش مع التناقض، لأنه هو حقيقة حياتنا.