اوري افنيري 

كونغرس دعاة السلام / أوري أفنيري


لقد لبت "كتلة السلام" طلبي للاحتفال بعيد ميلادي في هذه المرة بشحذ الأفكار الجماهيرية حول مستقبل الدولة، وليس باحتفال كما سبق وكان قبل خمس سنوات حيث شارك حفل كبير.
تم الاحتفال يوم الأحد (21.12.08) في ساعات الصباح، في قاعة الـ "سينماتك" في تل أبيب، تحت شعار "حتى ينطلق الدخان – أفكار ومواجهات". دارت، في الاحتفال، مواجهتان: إحداهما حول "دولتين لشعبين - واقعي أم مستحيل؟ والأخرى حول "وسائل الإعلام: في خدمة السلطة وأصحاب رأس المال أو في خدمة الجمهور."

في المواجهة الأولى، التي يسّرها محرر "هأرتس" الأسبق، ديفيد لنداو، شارك يسرائيل أورون (من مبادرة جنيف) وجلعاد شر (مستشار إيهود باراك الأسبق وكبير ممثلي إسرائيل في مؤتمر كامب دافيد عام 2000) والذين ادعوا بحق حل الدولتين، وقد ادعى المؤرخ ميرون بنبنيشتي أن ذلك مستحيل، والدكتور مناحيم كلاين (من جامعة بار إيلان) احتل موقفا وسطا. في المواجهة الثانية، التي يسّرها حايم يافين، ادعى الصحافيان رون بن يشاي ورينة متصلياح أن الصحافة هي صحافة حرة، في حين ادعى كل من البروفيسور يارون إزراحي والصحافي عوفر شيلح أن الصحافة مستعبدة. عبرت عن أفكاري في نهاية الاحتفال، وقلت:

كونغرس دعاة السلام

زملائي الأعزاء، أصدقائي، حضرات الشركاء،

أشعر بالحاجة إلى الاعتراف بأنني منفعل. طوال حياتي لم أتدلل بإبداء التعاطف والمودة. أنا معتاد على إبداء الكراهية أكثر بكثير. لذلك اعذروني إن كنت مرتبك بعض الشيء.

كثيرا ما يطرحون عليّ السؤال: كيف تشعر في جيل 85؟

أولا، هذا أمر غريب. فقد كنت في الأمس القريب فقط ابن 42 سنة، أصغر أعضاء الكنيست سنًا. أنا لا أشعر بأنني كهل أكثر، أو أكثر ذكاء مما كنت عليه في ذلك الوقت.

85 معناه ف.هـ (بطريقة دراسة دلالات الأعداد بالعبرية – المترجم) و، ف.هـ . معناها هنا (معنى الكلمة العادية بالعبرية – المترجم): وبالفعل، أنا موجود هنا، وأنوي البقاء هنا للمزيد من الوقت - لأنني أستمتع وكذلك لأنني ملتزم بإنهاء بعض الأمور.

ف. هـ معناها هنا، الـ "هنا" الذي يتيح لي أن أسمع أفكاري. أود أن استغل هذه الفرصة لأشارككم ببعض الأفكار التي تراودني اليوم.

ما الذي يميز أبناء الـ 85 سنة في هذه الدولة؟ أولا، نحن الجيل الذي أقام الدولة. وبصفتنا كهؤلاء – وهذا ما أشعر به أنا أيضا – فإننا نتحمل مسئولية خاصة لما يحدث فيها. وحتى إذا لم تكن الدولة ما كنا نتخيله أن تكون، ونحن لا نفتخر بالنتيجة – إلا أنه يجب علينا أن نعمل على تغييرها.

وها نحن نواجه هنا تناقضا غريبا. نحن شركاء في نجاح تاريخي، ونحن شركاء في فشل ذريع.

ربما أبناء جيلي فقط هم القادرون على أن يفهموا بشكل عميق حجم نجاحنا في تغيير الوعي الوطني.

أناس كثيرون يسألونني: من أين استقي التفاؤل الذي أتمتع به، حتى عند تدهور الأوضاع وحين تبدو سيئة للغاية، في حين أن هناك أشخاص جيدون تسيطر عليهم الكآبة واليأس. في هذه اللحظات أذكّر نفسي – وأذكر الجمهور الذي يسمعني أيضا – من أين بدأنا. أنا أذكر ذلك مرارا وتكرارا، من أجل الناس الذين لم يعيشوا ذلك، ومن أجل من نسوا:

غداة تلك الحرب، حرب عام 48، عندما قلنا أن هناك شعب فلسطيني ويجب صنع السلام معه، كنا قلة في البلاد وفي العالم أجمع. لقد ضحكوا منا. لا يوجد فلسطينيون، قالوا لنا. لا يوجد شيء كهذا اسمه فلسطينيون، قالت جولدا مئير بعد مضي سنوات.

هل يوجد اليوم شخص يستطيع إنكار وجود الشعب الفلسطيني؟

لقد ادعينا أنه من أجل تحقيق السلام، يجب قيام دولة فلسطينية. لقد ضحكوا منا. مستحيل! فالأردن موجودة. مصر موجودة. توجد 22 دولة عربية. وهذا يكفي!

واليوم أصبح الأمر إجماعا عالميا - دولتان لشعبين.

قلنا أنه يجب التحدث مع العدو، وكان العدو منظمة التحرير الفلسطينية. طالب أربعة وزراء بمحاكمتي بتهمة الخيانة عندما التقيت ياسر عرفات في بيروت المحاصرة عام 1982. التقوا الأربعة كلهم عرفات بعد ذلك، ووقعت دولة إسرائيل على اتفاقيات رسمية مع منظمة التحرير الفلسطينية.

صحيح، لم يتم تنفيذ الاتفاقيات ولم تؤدي إلى السلام، غير أنها خلقت اعترافا متبادلا بين دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، بين إسرائيل والشعب الفلسطيني. كان ذلك تحوّل لا يمكن تجاهله.

نحن نقول اليوم: يجب التحدث مع حماس. حماس جزء لا يتجزأ من الواقع الفلسطيني. وهذا الرأي بدأ يحظى بالقبول.

كم من الصخب أثرنا عندما ذكرنا أن القدس يجب أن تكون عاصمة للدولتين. واليوم يدركون تماما أن هذا ما يجب أن يحدث، وهذا ما سيكون.

لقد كرّست 60 عاما من حياتي لهذا الصراع المرير، وهو وما زال في ذروته. ولكننا قضينا على فكرة أرض إسرائيل الكبرى، قدمنا بديل الدولتين لشعبين وقد كانت هذه الفكرة مقنعة في البلاد وفي العالم. إلى حد اضطر فيه معارضوها المتشددون في حكومات إسرائيل إلى التظاهر وكأنهم يتقبلونها، بهدف كسب الأصوات.

فكروا في ذلك عندما تشعرون باليأس. شاهدوا الصورة كاملة، وليس المقطع القريب فقط!

ولكن مقابل هذا الانتصار، تقف الهزيمة الكبيرة.

يكفي النظر إلى ما يحدث في هذه الانتخابات: تتحدث الأحزاب الثلاثة بلغة واحدة تقريبا، ولا تعرض أي منها خطة للسلام.

وهناك الأحزاب الصغيرة التي تقول أشياء جيدة ومقنعة، ولكن هناك حاجة إلى أكثر من ذلك في هذه المرحلة. تنقص القوة السياسية الكبيرة، المستعدة لتولي الحكم بغية صنع السلام.

من الواضح تماما أن نتائج الانتخابات القريبة ستكون سيئة – والسؤال هو فيما إذا كانت سيئة فقط ، أم سيئة جدا، أم سيئة إلى حد كبير.

لماذا يحدث هذا؟ هناك أسباب عديدة. هناك ذرائع كثيرة. لدينا انتقاد لاذع وصادق أيضا موجه نحو أمور كثيرة – نحو وسائل الإعلام، نحو التعليم، نحو جميع الحكومات، نحو رئيس الولايات المتحدة ونحو العالم بأسره.

ولكن ينقصني انتقاد واحد: انتقادنا الذاتي.

قال لي والدي ذات مرة: إذا كان الوضع سيئا، فاسأل نفسك أولا إذا كنت قد تصرفت بشكل جيد. وبعد ذلك أسأل: هل أنا على ما يرام؟ هل نحن على ما يرام؟

نعم، لقد أسمعنا أفكارا صحيحة. لقد انتصرت أفكارنا. ولكن ما الذي فعلناه من أجل التحقيق الفعلي لهذه الأفكار، في ميدان المعركة السياسي؟

السياسة هي قضية قوى. ما الذي فعلنا من أجل إنشاء قوة سياسية حقيقية؟ كيف حدث أن اليسار، معسكر السلام والتقدم، قد محي عن الخارطة السياسية تقريبا؟ لماذا لا نملك القوة السياسية، فليس لدينا، على سبيل المثال، أي وسيلة إعلام؟ كيف تخلى اليسار، في الجيل الأخير، عن جميع أدوات القوة؟

يوجد في اليسار رجال رائعون ونساء رائعات، الذين يواجهون جنود الجيش، أسبوعيا، في الصراع ضد الجدار، مراقبو الحواجز، رافضو الخدمة في جيش الاحتلال، محاربو الاحتلال بعشرات الطرق المختلفة. كما أن العديد منا، من أبناء جميع الأجيال، يشاركون في هذه النشاطات.

ولكن بينما نقف محتجين، يواصل المستوطنون تقدمهم. عنزة أخرى ودونم آخر، تلة أخرى ونقطة استيطانية أخرى. أشعر أحيانا أن الكلاب تنبح والقافلة تتابع سيرها – وأنا لا أحب أن أكون كلبا. نحن نركض خلف بعوض الاحتلال، نحن نقتل البعوض، ولكن المستنقع، الذي يخلّف البعوض، آخذ بالتوسع.

المستنقع هو مستنقع سياسي. ويمكن لقوة سياسية فقط أن تجففه. بكلمات أخرى: القوة القادرة على مواجهة السلطة في الدولة فقط ، وعلى التأثير على قرارات الحكومة وعلى قرارات الكنيست.

هذا فشل تاريخي، ونحن مسئولون عنه.

اسمحوا لي أن أعبر عن أمنية بمناسبة عيد ميلادي: كنت أود أن نبدأ، بعد يوم من الانتخابات، بالتفكير فورا بالانتخابات القادمة.

علينا أن نعيد التفكير. التفكير الجديد تماما. أن نفحص كل ما فعلناه حتى الآن، وأن نكتشف مواضع خطأنا.

لماذا لم ننجح في إقناع الشبيبة، ويوجد الكثير منهم في الجمهور الشرقي، والقادمين الجدد من روسيا، والجمهور العربي، والجمهور المتدين المعتدل - بأن لدينا من نتحدث معه، أن بإمكاننا أن نغيّر، أننا قادرون بالفعل! لماذا لم نصل إلى قلب الجيل الصاعد، الذي يحتقر السياسية، وبالأساس يحتقر السياسة التي يعرفها؟

هناك حاجة إلى شيء جديد تماما، إعادة خلق جديدة. كنت لأقول: علينا أن نحضر الأرض لأوباما الإسرائيلي.

معنا أوباما هو: أن نشعل الأمل في المكان الذي لم يكن فيه أي أمل. أن نطالب بالتغيير من الأساس وأن نؤمن بأنه يمكن إحلال هذا التغيير. أن نثير حماس جمهور الشبيبة تجاه هدف موجّه إليهم، بشارة نهاية الاحتلال، بشارة العدل الاجتماعي، بشارة الاهتمام بالكرة الأرضية. التطلع إلى نظام حكم مختلف، علماني، عادل، مستقيم، يدعو إلى السلام.

على البشارة الجديدة أن تتوجه إلى العقل وإلى القلب على حد سواء، أن تتحدث إلى المشاعر، وليس إلى المنطق البارد فقط. عليها أن تثير المثالية من جديد، التي تستتر في قلوب الكثيرين ولا تجرؤ على إظهار وجهها بشكل علني.

العائق الكبير أمام مثل هذه الانطلاقة هو اليأس. من الأسهل الخضوع لليأس. هذا أمر مريح. هذا لا يستوجب شيئا. من الأسهل أن نقول أن كل شيء قد ضاع. أنهم قد سرقوا دولتنا. ولكن التشاؤم، كما هو معلوم، لا يولّد شيئا، بل يؤدي إلى الهجرة الداخلية أو الهجرة الخارجية.

أنا أرفض أن أكون متشائما. في سنواتي الـ 85 رأيت أشياء كثيرة مفاجئة، رائعة، غير متوقعة – إيجابية وسلبية – الأمر الذي يجعلني أصدق ما هو غير متوقع. لا يمكن توقّع أوباما، وقد حدث ذلك الآن أمام أعيننا. سقوط سور برلين كان غير متوقع، وأحد لم يتوقع ذلك قبل لحظة واحدة من سقوطه. حتى ارتفاع شأن الخضر في الانتخابات لبلدية تل أبيب كان كذلك.

أريد أن أقترح أن نبذل جهدا جديدا، يبدأ بعد يوم واحد من الانتخابات. كنت أرغب في أن يجتمع أفضل المفكرين ونشطاء السلام، النشطاء الاجتماعيين ومحبي الكرة الأرضية وأن يبدءوا التفكير معا، كيف يمكن صنع الأعجوبة الإسرائيلية.

ربما هناك مكان لعقد كونغرس كبير لكل دعاة التغيير، سنهدرين لدعاة السلام وحقوق الإنسان، يكون نوعا من كنيست بديلة.

من ذروة سنوات حياتي الـ 85 أريد أن أدعو كل من يحب مستقبلنا هنا، اليهود والعرب، وخاصة الشباب، أن يتجندوا لبذل جهد مشترك وأن يمهدوا الطريق للتغيير الكبير، لإسرائيل الأخرى، لدولة يكون العيش فيها متعة لكل مواطنيها، لدولة يمكننا أن نفتخر بها.

لا يمكن لذلك أن يكون لعبة أخرى بين أيدي جهات قائمة، بل يجب أن يكون إبداعا سياسيا جديدا، يتحدث بلغة جديدة، تأتي ببشارة جديدة.

أنا أومن أن هذا سيحدث، وإن غدا لناظره قريب. أتمنى لنفسي، ولكل الأصدقاء الحاضرين هنا في القاعة، أن نرى ذلك ونحن على قيد الحياة، أن نكون شركاء، أن نتمكن من القول: لقد نجحنا بالفعل، نحن نودع هذه الدولة في أيد أمينة.

أريد الآن أن أتوجه بشكري العميق لجميعكم، أصدقائي، الذين حضرتم للاحتفال بعيد ميلادي، عن طريق تبادل الآراء وبمواجهات حول الأمور الأكثر أهمية بالنسبة لنا.

أتقدم بالشكر من صميم قلبي إلى الميسّرين والمتحدثين، الذين شرفونا بحضورهم وأناروا أفكارنا، إلى منظمي هذا الحفل الجميل، إلى أعضاء كتلة السلام. شكرا لهذا الجمهور الكبير الذي حضر من قريب ومن بعيد، وشكرا على التهاني والتمنيات التي أمطرتموها عليّ.

لا يمكنني أن أتخيل عيد ميلاد أكثر متعة وإثارة من ذلك.