اوري افنيري 

لحظة لا تُنسى / أوري أفنيري


حين رويت حكايتي لأنور السادات، انفجر ضاحكا: "في اللحظة التي فتح فيها باب طائرتك، حبس كل الإسرائيليين أنفاسهم. أنا أسكن في شارع رئيسي في تل أبيب، وفي تلك اللحظة نظرت من النافذة إلى الخارج. كان الشارع خاليا خاويا. لم يتحرك فيه شيء، سوى قط واحد، ربما كان يبحث هو أيضا عن جهاز تلفزيون."

بعد غد ستكون الذكرى الواحدة والثلاثون لتلك اللحظة، إحدى أهم اللحظات في حياتنا.

يبدو الأمر بأعين إسرائيلية كما يلي: سادت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل. في السنوات الثلاثين السابقة نشبت بينهما أربع معارك كبيرة، قتل فيها آلاف الإسرائيليين وعشرات آلاف المصريين. الكراهية بين الشعبين كانت كراهية عميقة. كان جمال عبد الناصر، سلف أنور السادات، يُدعى في إسرائيل بشكل رسمي "الطاغية المصري"، وقد حرق الأولاد دمى تحمل شكله في المواقد. كان تحريض راديو القاهرة ضد إسرائيل مشهورا جدا. قبل أربع سنوات من تلك اللحظة فقط، في يوم الغفران، شن المصريون هجوما مفاجئا على إسرائيل وألحقوا بها هزيمة كبيرة في مرحلة البداية.

وها هو، دون سابق إنذار، يقوم رئيس مصري في برلمانه ويعلن عن أنه مستعد للمجيء إلى القدس وصنع السلام. كثيرون لم يصدقوا ما تسمعه آذانهم. اعتقد رئيس الأركان أن ذلك فخّ. كثيرون آمنوا أن تلك كانت حيلة.

وعندها جاء. حدث ما لا يمكن تصديقه وها هي عيوننا ترى. في ذلك اليوم التاريخي: 17 كانون الأول من عام 1977، وقفت كل الزعامة الإسرائيلية في المطار. هبطت الطائرة المصرية واقتربت ببطء من البساط الأحمر. تم تقريب المدرّج منها. كانت هذه اللحظة أشبه بمسرحية سريالية. وعندها فتح الباب، ووقف الزعيم المصري، طويل القامة، منتصبا وجديا، وأطلقت أبواق الجيش الإسرائيلي تحية ترحب به. لحظة لا تتكرر.

بحثت عن مثال لمثل هذا الحدث في التاريخ. لم أجد. حتى هبوط أول إنسان على القمر لا يمكن مقارنته بهذه اللحظة.

السادات قام بعمل لم يسبق له مثيل.

تذكرت هذا الأسبوع هذا العمل في سياق آني، من دون علاقة بمعناه السياسي.

حين جلسنا نتحدث، وكنا مجموعة من الأصدقاء، عن احتمالات السلام. قال أحدهم أن أي محادثات لن تكون مثمرة إذا لم نعمل على تغيير الرأي السائد لدى أغلبية الإسرائيليين فيما يتعلق بالفلسطينيين. أحدهم شكك في مثل هذا الاحتمال وقال أنه حتى حدوث أزمة كبيرة لن يساعد - فبعد الأزمة يعود كل واحد إلى رأيه السابق، وكأن شيئا لم يحدث.

قلت: معظم مواقف الناس لا تنبع من تفكير إرادي، بل من ينابيع المشاعر. في حال وجود تعارض بين الأمرين، فإن التفكير المنطقي يلائم نفسه للقالب الشعوري القائم. بهدف تغيير رأي شخص، يجب، إذن، التوجه إلى عالم مشاعره أيضا.

كنت بحاجة إلى مثال محسوس، وعندها تذكرت لحظة السادات.

لقد فعل السادات ذلك. لقد توجه إلى مشاعر كل شخص تقريبا في إسرائيل.

هذا العمل الجريء خلق صدمة شعورية ووعي، لم يكن السلام مع مصر ممكنا من دونه. لقد احتل السادات قلوب شعب كامل. المشاعر التي تشبثنا بها لعشرات السنين ذابت كزبدة في الشمس، وأخلت مكانها نظرة جديدة تماما. الناس الذين كنّوا الكراهية للمصريين - وكل العرب عامة - استلطفوه من النظرة الأولى. منذ تلك اللحظة كان بإمكانه أن يتحدث وأن يقنع – كان يتمتع بإصغاء كامل من قبل الجمهور الإسرائيلي، ومن قبل كل إسرائيلي على حدة.

كان يسود إسرائيل، حتى تلك اللحظة، إجماع تام بأنه يُمنع بأي شكل من الأشكال "التخلي" عن شبه جزيرة سيناء. أن ذلك سيكون بمثابة انتحار أمني. أننا سنفقد "العمق الاستراتيجي" الحيوي. قال موشيه ديان، الذي شغل منصب وزير الأمن ومنصب الإله التوراتي، أنه يفضل شرم الشيخ من دون سلام على سلام من دون شرم الشيخ. لم يكن أحد مستعدا للتخلي عن نفط ساحل سيناء. وزراء حزب العمل أقاموا الكتلة الاستيطانية في "بتحات رفياح"، ومن ضمنها مدينة يميت، الأكثر جمالا والأكثر تخطيطا من سائر مدن إسرائيل الجديدة. وأما السادات ذاته فقد كان معروفا كمن تعاون مع النازيين في الحرب العالمية الثانية وقد سجن لهذا السبب أيضا.

كل ذلك مُحي بين ليلة وضحاها. من ذا الذي بحاجة إلى سيناء، من ذا الذي بحاجة إلى شرم الشيخ (من ذا الذي يتذكر أنهم كانوا يدعونها "أوفيرا")؟ من ذا الذي بحاجة إلى النفط، من ذا الذي بحاجة إلى "بتحات رفياح" - عندما يكون من الممكن الحصول على السلام مقابلها؟ كل شيء ذهب، تم إخلاء كل شيء، وبقيت الصور فقط من مسرحية تساحي هنغبي الصبيانية على رأس برج ومن مسرحية مئير كهانا الحمقاء الذي أقسم أن يموت في الخندق.

لا شك في أن السادات كان نابغة. كان لديه حكمة خاصة بالمصريين، حكمة عمرها 6000 سنة من التاريخ، حيث رأوا فيها كل شيء وجربوا كل شيء. هذا لا يعني أنه ارتكبا أخطاء كبيرة، أنه لم يذعن للأوهام، أنه لم يتفوه أيضا بأقوال حمقاء تماما إلى جانب الأقوال الحكيمة، وفي بعض الأحيان في الجملة ذاتها.

ولكن من تعرف عليه شخصيا كان يشعر أن أمامه شخصية تاريخية.

كيف وصل إلى ما وصل إليه؟ كما روى لي (ولكثيرين آخرين)، كان لديه وحي يكاد يكون غيبيا. كان في طريق عودته من زيارة إلى حاكم رومانيا، حيث طرح على مضيفه سؤالين: هل من الممكن تصديق مناحيم بيغين؟ وهل بيغين قادر على تنفيذ قراراته؟ نكولاي تشاوشسكو أجاب بالإيجاب على السؤالين.

وعندها، حين كان يطير فوق جبل أرارات في تركيا، خطرت له الفكرة: لماذا لا يأتي إلى القدس ويتحدث بشكل مباشر مع مواطني إسرائيل في بيوتهم، من على منصة الكنيست؟

هذه حكاية جميلة. ولكنها لا تناسب الحقائق إلى حد ما. السادات لم يكن إنسانا ساذجا، ولم يكن مقامرا. قبل أن خطا خطوته المصيرية، شرع بمفاوضات سرية مع بيغين. تم إرسال نائب رئيس الحكومة المصري، حسن تهامي، بسرية تامة إلى المغرب للقاء موشيه ديان، وزير خارجية بيغين. أبلغه ديان بشكل قاطع أن بيغين مستعد لإرجاع شبه جزيرة سيناء كلها، حتى أخر ذرة رمل منها.

(عندما نشرت هذا الأمر في حينه، تم إنكاره من قبل الطرفين. عشية وفاته، قبل عدة أسابيع صادق بنيامين جبلي، مقرّب ديان، على أنه هذا ما حدث بالفعل.)

بكلمات بسيطة: حتى قبل اللفتة الدراماتيكية، قبل بدء المفاوضات، كان السادات يعلم بأنه سوف يسترجع كل المنطقة المصرية التي احتلتها إسرائيل. لقد فعل ما هو مؤكد.

هذا هو الوجه الآخر للعملة: الطرف الإسرائيلي. مبادرة السادات لم تكن لتنجح لولا كان مناحيم بيغين واقف بالمرصاد.

حين رأيت كلاهما معا، خطر ببالي أنه من الصعب وصف شخصين مختلفين أكثر منهما.

السادات هو شخص مندفع، ذو رؤيا واسعة. إنه لم يأبه للتفاصيل. لقد وثق بالناس. لقد كان مصريا بكل جوارحه، ابن الريف.

بيغين كان يهوديا ابن يهودي، لم يتأقلم ذات مرة بشكل تام في إسرائيل الجديدة، محام بطبيعته شخص يدقق في تفاصيل كل نص، شكاك بطبيعته.

ولكن كليهما كان يتمتع بميزة هامة مشتركة: كانا شخصيتان دراماتيكيتان. لقد أحبا اللفتة الكبيرة وآمنا بقوتها. لقد كانا يدركان أنهما ممثلان على مسرح التاريخ. كانت لدى كليهما المهارة على ملامسة الأحاسيس العميقة لبني البشر.

كانت لدى بيغين أيديولوجية ثابتة ومتشددة. لقد تجسدت في خارطة معينة لأرض إسرائيل، كما تم رسمها من قبل البريطانيين حين استلموا الانتداب على البلاد. لم تكن لها أية صلة بخارطة الأرض المقدسة كما تم رسمها في التوراة، ولكنها قد قُبلت من قبل زئيف جبوطنسكي واستخدمت كشعار للمنظمة العسكرية الوطنية، قبل وقت طويل من تولي بيغين لزعامة هذه المنظمة.

بموجب هذه الخارطة، كان عبر الأردن يتبع لإسرائيل، ولكن شبه جزيرة سيناء لم تكن تابعة. هضبة الجولان غير تابعة هي أيضا. لذلك كان من السهل على بيغين أن يتخلى عن سيناء، وحسب رأيي كان سيتخلى عن الجولان أيضا، لو تطورت الأمور بشكل مختلف.

ولكن بيغين لم يكن قادرا على إرجاع الضفة الغربية. حكم ذاتي للسكان - نعم. تعامل عادل مع العرب – بالتأكيد. زئيف جبوطنسكي ذاته قد قال أنه إذا كان رئيس دولة اليهود يهوديا، فرئيس الحكومة يجب أن يكون عربيا - والعكس صحيح. ولكن انسحاب من الضفة الغربية؟ بالتأكيد لا.

كان السادات واثقا من أنه يوجه بيغين إلى إقامة دولة فلسطينية. صحيح أن بيغين قد اعترف رسميا "بالشعب الفلسطيني"، ولكنه أضاف على الفور أن القصد هو "عرب أرض إسرائيل". اعتقد المصريون، لاحقا، أن إسرائيل قد خانتهم. وقد استقال ديان أيضا من الحكومة بخطوة احتجاجية، حين رأى أن بيغين لا ينفذ الجزء الفلسطيني من الاتفاقية. ولكن من كان يعرف بيغين كان يعلم أنه غير قادر على التصرف بشكل آخر. (لقد قضيت ساعات طوال في محاولة أشرح فيها لوزير الخارجية الفعلي، بطرس بطرس غالي، وهو رجل ذكي لا مثيل له، ما هو بيغين، ما هي خارطة أرض إسرائيل الخاصة به وما معنى "الحكم الذاتي" في القاموس المعدّل).

كانت القضية الفلسطينية نقطة الخلاف الجوهرية، التي أدت إلى تضييع السلام الإسرائيلي – المصري.

تضييع، ولكن عدم اختفاء. في نهاية الأمر، كانت هذه قصة نجاح هائلة.

يكفي للإسرائيلي أن يتخيل ما كان سيحدث لولا خروج السادات في رحلته التاريخية. كم من الحروب كانت ستنشب منذ ذلك الحين؟ كم من الجنود والمواطنين كانوا سيقتلون ويجرحون من الطرفين؟ كم من مئات المليارات كنا سنضطر إلى استثمارها في الدفاع عن الحدود الجنوبية؟ إلى أية جهة كانت مصر ستوجه العالم العربي كله؟

يكفي مثال صغير: في الأيام الأخيرة، أجرى المصريون مناورة بحرية، أكبر مناورة في تاريخ مصر. لقد حظيت ببضعة سطور في الصحافة الإسرائيلية. لولا السلام، لكانت كل أجراس الإنذار ستقرع في إسرائيل. فالأسطول المصري أكبر من أسطولنا، وقد ألحق بنا في الماضي ضربات مؤلمة.

كان من قال في حينه: هذا هو سلام السادات. سيختفي مع اختفاء السادات. لقد أرجعنا سيناء كلها، وفي الغد سيقوم فرعون جديد لا يعرف بيغين، وسيهاجمنا. وها هو السادات قد اغتيل (وليس بسبب السلام مع إسرائيل بالذات)، وخلفه يحافظ على السلام بشدة.

ولكن الأهم من تغيير الخارطة السياسية هو تغيير الخارطة النفسية. كما قال السادات ذاته، العامل النفسي في النزاع العربي - الإسرائيلي أهم من كل العوامل الأخرى مجتمعة.

صحيح، لم ينجح السادات في جعل الجمهور الإسرائيلي يغير مواقفه تجاه العالم العربي، وخاصة تجاه الشعب الفلسطيني. المعارضة الشعورية لهذا الأمر كانت قوية جدا، وموقف بيغين قطع الانطلاقة في اللحظة التي وصلت فيها إلى القضية الفلسطينية. النظرة الإسرائيلية إلى الضفة الغربية لا تشبه النظرة إلى صحراء سيناء. هذا الجزء من النزاع أعمق وأطول بكثير من النزاع المرير مع المصريين.

ولكن السادات قد أثبت شيئا واحدا، وهو أهم بنظري من أي شيء آخر: يمكن تغيير أحاسيس شعب كامل. يمكن حل العقدة بحركة جريئة واحدة. لهذا الهدف هناك حاجة إلى زعماء، لدينا ولديهم. ومثل هؤلاء الزعماء يمكن أن يظهروا فجأة، في المكان غير المتوقع وفي الوقت غير المتوقع. وظهور براك أوباما، وهو نوع من السادات الأمريكي، ستثبت.

التجربة الشعورية الشخصية الأقوى لدي بعد التوقيع على اتفاقية السلام، حدثت في القاهرة. لقد دعاني بيغين للمشاركة في مأدبة احتفالية أقامها السادات في قصره. خلال المأدبة، قدمني قائد لواء غفعاتي سابقا، شمعون أفيدان، أمام جنرال مصري، كان قائدا في عام 1948 للموقع الذي أطلقوا منه النار وأصابوني.

تصافحنا.