اوري افنيري 

كوكبان مختلفان / أوري أفنيري


بقيت طوال اليوم أتنقل بين المحطات التلفزيونية، المحطات الإسرائيلية ومحطة الجزيرة، ذهابا وايابا.

ذلك الأمر كان غير طبيعي: في جزء من الثانية، استطعت أن أروح وأجيء بين عالمين، انما كل المحطات كانت تتحدث عن ذات الحدث. في واحدة من مفاصل ذلك الحدث وقعت أشياء على بعد عشرات الأمتار من بعضها البعض، ولكن، وكأن تلك الأمور حدثت في كوكبين مختلفين.

لم يسبق أن عايشت هذا الخلاف المأساوي بعمق كما حدث يوم الأربعاء المنصرم، والذي تمت خلاله عملية تبادل الأسرى بين دولة إسرائيل ومنظمة حزب الله.

الشخص الذي وقف في قلب ذلك الحدث والذي هو بمثابة الهاوية الممتدة بين العالميين الروحانيين، الإسرائيلي والعربي: سمير القنطار.

كل وسائل الاعلام الإسرائيلية نعتته بـ "القاتل قنطار"، وكأنه كان اسمه الحقيقي، وسائل الاعلام العربية نعتته بـ "سمير القنطار البطل".

قبل 29 عاما، قبل ولادة حزب الله بفترة طويلة، هبط ذلك الرجل مع صديق له عند شواطىء نهاريا ونفذ عملية بقيت محفورة في ذاكرة الإسرائيليين بسبب وحشيتها، والتي انطوت فيما انطوت على قتل طفلة بالرابعة من العمر. عمر سمير القنطار حينها كان 16 عاما، لم يكن فلسطينيا، ولم يكن شيعيا، بل كان لبنانيا درزيا وشيوعيا، تبنت تلك العملية مجموعة فلسطينية صغيرة.

قبل سنوات تجادلت وصديقي، عصام سرطاوي، حول حادثة مشابهة. سرطاوي كان بطلا فلسطينيا، رائد السلام مع إسرائيل والذي قتل لاحقا بسبب علاقاته مع الإسرائيليين. عام 1978 هبطت مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين (الإرهابيين بلغتنا) عند شاطىء ما جنوب مدينة حيفا من أجل القيام بعملية اختطاف هدفها الضغط لاجراء عملية تبادل للأسرى. على ذلك الشاطىء صادف نزول المجموعة وجود مصورة، كانت تتنزه هناك، وقتلوها. ولاحقا اختطفوا حافلة مليئة بالناس، وبالنهاية قُتلت كل المجموعة.

كنت أعرف المصورة. كانت شابة صغيرة، روح طيبة، مصورة مناظر طبيعية وورود. ساجلت سرطاوي حينها قائلا له أن ذلك العمل هو فعل بربري ودنيء. فقال لي: "أنت لا تفهم ما الذي يحدث، انهم شبان، صغار، غير مدربين ويفتقدون للتجربة، أولئك الذين يهبطون في قلب بلاد ألد الأعداء. انهم خائفون ولربما يعيشون حالة رهاب، لا يمكنهم أبدا التصرف ببرود حيال الأمور".

تلك كانت من المرات القليلة التي لم نتفق كلينا حيالها، رغم أن كل منا كان بالنسبة لأبناء شعبه أقصى ما يمثل الخروج عن القاعدة والمألوف.

في أربعاء هذا الأسبوع بان الاختلاف بين العالمين بشكل واضح. في الصباح استيقظ "القاتل قنطار" في سجن إسرائيلي، وفي المساء وقف "البطل القنطار" أمام مائة ألف لبناني يصفقون له ويحيونه، لبنانيون من كل الطوائف وكل الأحزاب. استغرقه العبور من إسرائيل الى النقطة الصغيرة التابعة للأمم المتحدة، في رأس الناقورة ومن هناك الى الأراضي اللبنانية ، بضع دقائق، من محيط الاعلام الإسرائيلي الى محيط الاعلام اللبناني وكانت المسافة أبعد بكثير من المسافة التي قطعها نيل أرمسترونغ من القمر الى الأرض. بحديثها غير المنقطع عن "القاتل السفاح" والذي لن يطلق سراحه أبدا، مهما كان الثمن، حولته إسرائيل من مجرد سجين عادي الى بطل بالنسبة لكل عربي.

واليوم من التافه القول أن "إرهابي تلك الجهة هو المدافع والمقاوم لأجل الحرية لدى الجانب الآخر". هذا الأسبوع كان الأمر يتطلب فقط تنقل بسيط لأصبع على أزرار جهاز التحكم عن بعد ليعيش المرء تلك التجربة مباشرة.

مشاعر متطرفة كانت من الجانبين.

الشارع الإسرائيلي كان غارقا في مشاعر الحزن والاحباط على الجنديين الأسيرين، والذي تم الإبلاغ عن موتهما قبل دقائق فقط من إعادة جثتيهما. طوال ساعات دأبت المحطات الإسرائيلية على تصوير حزن عائلتي الجنديين، والتين حولتهما وسائل الاعلام الإسرائيلية خلال العامين الأخيرين الى رمزين وطنيين (ولوسيلة رخيصة من أجل رفع نسبة المشاهدين).

غني عن الذكر أنه لم تُسمع كلمة واحدة تقال بحق العائلات الـ 190، العائلات التي جثث أبنائها أعيدت الى لبنان في اليوم ذاته.

في دوامة الإشفاق على الذات تلك، طقوس الحداد والحزن، لم يتبق لدى الإسرائيليين الطاقة والنية لمحاولة النظر وفهم ما الذي يحدث في الطرف الآخر. على العكس: استقبال لـ "القاتل" وخطاب النصر لـ "كبير القتلة" لم تفعل شيئا سوى أنها صبت الزيت على نار الكره والاحتقار المستفحل.

ولكن، كان يستحسن على الاسرائيليين تتبع ما حدث هناك، لأن ذلك سيكون له التأثير الكبير على وضعنا.

واضح ومؤكد أن ذلك كان يوم حسن نصر الله العظيم، حيث أنه حقق بذلك نصرا عظيما، برأيي كثيرين من العرب، منظمة بسيطة جعلت إسرائيل ترضخ، القوة الإقليمية الضخمة، والتي يركع أمامها كل رؤساء الدول العربية.

نصر الله وعد بأنه سيعيد سمير القنطار، لذلك اختطف الجنديين. بعد مرور عامين وحرب واحدة وقف ذلك الرجل على منصة في بيروت، يرتدي زي المقاتلين في حزب الله، ونصر الله بنفسه معرضا أمنه الشخصي للخطر، اعتلى المنصة، أمام الكاميرات وببث مباشر، عانقه بينما الحشود حولهما في حماسة لا متناهية.

لقاء تلك الشجاعة والثقة الكبيرة بالنفس، التي لاءمت وبشكل كبير ما يتمتع به الرجل من حس درامي رائع، رد قادة الجيش بملاحظة لاذعة وحمقاء مفادها: "ما كنا ننصح نصر الله بالخروج من وكره أبدا!"

محطة الجزيرة نقلت كل ذلك مباشرة، ساعة تلو الساعة، الى ملايين البيوت من المغرب وحتى العراق، والى كل العالم الإسلامي، ما كان بالإمكان أبدا عدم انجراف المشاهدين في أمواج كل تلك الحماسة والتأثر. بالنسبة لشاب في الرياض، في القاهرة، عمان وبغداد كان رد الفعل واحدا: ها هو الرجل! ها هو من يعيد الشرف العربي، الذي يمحي سنوات من الهزيمة والذل! ها هو الرجل، الذي يبدو كل قادة العرب أمامه مجرد أقزام! وعندما وحين أعلن نصر الله "في هذه اللحظة انتهى عهد الإخفاقات العربية" هو من رسخ شعار اليوم.

أعتقد أيضا أن من بين الاسرائيليين من قاموا بمقارنة، لا تنطوي على إشادة، بين نصر الله وبين أعضاء حكومتنا، أبطال تصريحات المفاخرة الفارغة. مقارنة بهم بدى نصر الله قائدا مسؤولا، مخلصا، منطقيا وحازما، بدون مغالاة وكلام أجوف.

في ليلة الاحتفال الشعبي الضخم توجه نصر الله بالكلام الى جمهور المحتشدين مانعا اياهم من اطلاق النار في الهواء، العادة المتبعة في الاحتفالات العربية. "من يطلق النار انما يطلق النار في صدري، في رأسي، في عمامتي" وفعلا لم تطلق رصاصة واحدة.

ذلك اليوم كان يوما تاريخيا في لبنان، لم يسبق أن حدث أمر كهذا: كل الشخصيات اللبنانية الهامة، بدون شاذين عن القاعدة، تجمعوا عند مطار بيروت لاستقبال قنطار، وبضمن ذلك تقديم التحية لنصر الله. بالطبع كانوا يصرون على أسنانهم لكنهم كانوا يعرفون الى أين تهب الريح الآن.

كان من الحاضرين رئيس الدولة، رئيس الحكومة، كل أعضاء حكومة الوحدة التي صارت واقعا في ذات الحين، رؤساء الأحزاب، كل الطوائف وكل الأديان في لبنان، كل رؤساء الدولة السابقين، رؤساء الحكومات السابقة، كان بين الحضور سعد الحريري السني، الذي اتهم حزب الله بقتل والده، وليد جنبلاط الدرزي، الذي طالب بالقضاء على حزب الله، وسمير جعجع المسيحي المسؤول عن مجزرة صبرا وشاتيلا، وكثيرين غيرهم ممن كانوا بالأمس يوجهون لحزب الله أبشع الشتائم والتهكمات الممكنة.

خلال خطابه مجد الرئيس الجديد حزب الله وبارك كل من سعى لاطلاق سراح القنطار، وبذلك ليس أنه منح مصداقية عملية لعملية الاختطاف التي تسببت بالحرب، انما أيضا منح مصداقية للمهمة العسكرية التي يقوم بها حزب الله دفاعا عن لبنان. كون الرئيس كان بالأمس القريب قائد الأركان، هذا معناه أن الجيش يمد يده لحزب الله أيضا.

يوم الأربعاء الفائت تحول نصر الله ليصبح الشخصية الأهم والأقوى في لبنان. ثلاثة أشهر تماما بعد أن كانت حربا أهلية توشك أن تقع بسبب قرار الحكومة تفكيك شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله، عادت لبنان دولة موحدة. بالنسبة لأمور وادعاءات بتسليم سلاح حزب الله لم يعد هناك ما يمكن تمنيه أو الحلم به فلبنان الآن موحد حيال المطالبة بمزارع شبعة والحصول على خرائط الألغام والقنابل الانشطارية القاتلة، التي تركها جيش الدفاع الإسرائيلي خلفه (والتي يرفض تسليمها).

من يذكر لبنان كدولة مغلوبة على أمرها، ومن يذكر الشيعة كطائفة مغلوبة على أمرها داخل لبنان، سيدرك كم هو الاختلاف الهائل الذي حدث.

هناك في إسرائيل من يلقون باللوم على صفقة التبادل بصعود نجم نصر الله وكل المعسكر الديني الوطني في العالم العربي. ولكن، ذنب اسرائيل حيال ذلك بدأ قبل فترة طويلة من بداية قضايا فساد ايهود أولمرت.

يقع اللوم على كل من ساندوا حرب لبنان الثانية، تلك الحرب الحمقاء الضارة والتي ساندتها وبحماسة كل وسائل الاعلام، الأحزاب الصهيونية وشخصيات النخبة، منذ يومها الأول. استعادة جثتي الأسيرين كان ممكنا بالتفاوض، كما حدث الآن وهذا ليس فعلا ذكيا بعد وقوع الفأس في الرأس.

لكن، بالامكان معرفة أين يقع اللوم قبل ذلك بكثير، في حرب لبنان الأولى التي خاضها أريئيل شارون. حينها أيضا تلذذت كل الوسائل الإعلامية، الأحزاب ورجالات الفكر والنخبة، منذ أول يوم لاندلاع الحرب. قبل تلك الحرب المأساوية كانت الطائفة الشيعية في لبنان جارتنا الهادئة والوادعة. أريئيل شارون هو المسؤول عن ظهور حزب الله، وجيش الدفاع، الذي قتل من سبق نصر الله، منح نصر الله الفرصة بالصعود والتعاظم.

وأرجو ألا ننسى شمعون بيرس، الذي ابتكر "الشريط الأمني" و "الجدار الطيب"، اللذان تسببا بمأساة، بدل اخلاء المنطقة في موعد آخر. ودافيد بن غوريون وموشيه ديان، اللذان اقترحا عام 1955 إقامة لبنان الديكتاتوري بزعامة "جنرال مسيحي"، يوقع سلاما مع اسرائيل.

المزيج القاتل المتمثل بالعجرفة والجهل، الذي يمثل علاقة اسرائيل وتعاملها مع العالم العربي، هو المسؤول أيضا عما حدث يوم الأربعاء الأخير. ليت ذلك يعلم المسؤولين،عن وضع سياسات الدولة، القليل من التواضع، فهم الآخر والاكتراث لمشاعره، مع القدرة على قراءة خارطة الواقع، بدل العيش في فقاعة التوحد القومي. ولكن، أخشى أن يحدث العكس: تعاظم مشاعر الغضب، الاهانة، التزمّت والكره.

كل حكومات اسرائيل مسؤولة عن تصاعد المد القومي الديني في العالم العربي، والذي يشكل خطرا علينا أكثر من الوطنية العلمانية لياسر عرفات، بشار الأسد وأمثالهما.

حدث هذا الأسبوع شيء هام آخر: بقفزة كبيرة خرج بشار الأسد من عزلته التي فرضها عليه الأمريكيون وتحول الى نجم لقاء دولي عظيم في باريس. المحاولات المثيرة للشفقة لأيهود أولمرت، تسيبي ليفني ومجموعة من الصحفيين الإسرائيليين لمصافحة الأسد، أو مصافحة وزيره على الأقل، أو حارس شخصي سوري استحالت لكوميديا تهريجية.

وذلك أيضا حدث هذا الأسبوع: موظف أمريكي كبير، رقم 3 في وزارة الخارجية، التقى، رسميا، ممثل إيران. وأبلغ أن عملية تبادل الأسرى مع حماس موجود في حالة جمود عميقة.

الوضع الراهن ينطوي على مخاطر جمة، ولكنه ينطوي أيضا على فرص كثيرة، لمن يريد أن يحظى بها. مكانة نصر الله الجديدة، كلاعب مركزي في اللعبة السياسية في لبنان، يلزمه بتحمل المسؤولية والتروي. الأسد المدعم سيكون شريكا أفضل للسلام، إن أردنا ذلك. المفاوضات الأمريكية مع ايران قد تمنع حربا مدمرة قد تكون حربا مدمرة لنا أيضا. تسويغ حماس كجهة مشروعة قد يؤدي الى توحيد الفلسطينيين، بما يشبه الوحدة اللبنانية التي تكونت الآن. هذا أمر جيد.

بعد شهرين من الآن سيتم تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة. إن أرادت، يمكنها أن تقدم مبادرة جديدة للتأسيس لسلام مع فلسطين، لبنان وسوريا.