اوري افنيري 

يا هل ترى ماذا جرى / أوري أفنيري


ما الذي أثار المواطنين في إسرائيل هذا الأسبوع؟ ما الذي جعل آذانهم وعيونهم مترقبة لما سيبث عبر محطات الاذاعة والتلفزيون؟ ما الذي جعلهم يتهافتون لاختطاف الصحف من الأكشاك؟

الدراما التي دارت رحاها في الكنيست، حيث خيل للجميع أن أعضاء البرلمان سيتصرفون بعكس قوانين الطبيعة وسيقيلون أنفسهم بأنفسهم؟ خرق التهدئة على الحدود مع غزة، بعد اغتيال ناشطين من الجهاد الإسلامي في نابلس؟ مفاوضات السلام مع سوريا؟ المفاوضات حول عمليتي تبادل الأسرى مع حماس في الجنوب ومع حزب الله في الشمال؟

مستحيل!

إن الأمر الذي ألهب الأحاسيس هو المنافسة على كأس بطولة أوروبا في كرة القدم، ألمانيا ضد تركيا، أسبانيا ضد روسيا. يا لها من مباريات! يا لها من أهداف! واو! ما من شيء يضاهي المباريات التي دارت رحاها في الملعب السياسي.

على سبيل المثال، صراع ايهود أولمرت من أجل البقاء.

فمنذ أن تبين، ومن دون أدنى شك، أنه مرتش، فقدت حكومته أهم ما تملكه أي حكومة في مجتمع ديموقراطي: الثقة.

ما عاد أحد يصدق ما تقوله. كل قراراتها مشكوك بأنها لا تنبع من جوهر ما تنادي به، بل انها لا تتعدى كونها وسيلة في سبيل البقاء لشهر بعد، لأسبوع، أو يوم. تلك هي حكومة لا يمكنها أن تحكم.

أنا شخصيا يذكرني ذلك بمشهد من فيلم قديم مأخوذ عن رواية للكاتب "جول فرن"، ألا وهو "حول العالم في ثمانين يوم". فمن أجل كسب رهان ما يتوجب على بطل الفيلم أن يقطع، مستقلا القطار، قارة أمريكا بأقصى سرعة ممكنة. حين نفذ الفحم اللازم لتشغيل محرك القطار قام بفصل العربات، الواحدة تلو الأخرى، وقام بايقاد المقاعد والجدران الخشبية في النار ولاحقا راح يفكك القطار ذاته، لحين لم يعد هنالك غير المحرك والمرجل.

الحكومة الإسرائيلية الحالية أشبه الآن بذلك القطار، فمن أجل استمرارها تقوم بالتخلص من كل أملاكها.

ايهود باراك عرض إنذارا نهائيا: ان لم تتم إقالة أولمرت سيقوم هو، أي باراك، بتفكيك الائتلاف الحكومي، ولكن، كلما اقترب موعد نهاية ذلك الانذار يدرك أن أولمرت سيجره الى ذلك المصير المروع ذاته والذي اسمه الانتخابات. الاحصائيات كلها تظهر أن الانتخابات ستعيد الليكود الى سدة الحكم لذا، بحث "الايهودان" عن مخرج بشكل محموم والآن أصبحا وكأنهما ملاكمان متنافسان منهكان يقفان بينما يحتضن كل منهما الآخر ويسند أحدهما الآخر.

الذي صمد هو أولمرت فقط، في أيلول القادم ستجرى انتخابات تمهيدية داخل حزب كاديما ـ الحزب الزائف والذي تشبه حاله حال مؤسسه، آريئيل شارون، يتنفس تنافسا اصطناعيا وتعوزه القدرة على الحركة.

إلى متى ذلك؟ حتى أيلول؟ حتى أيار 2009? حتى عام 2010؟ لا أحد يعرف؟ لكن، هنالك شيء واحد لا شك فيه: تلك هي حكومة ما عاد بامكانها أن تفعل أي شيء.

المثال الأول: التهدئة

الجيش أراد وقفا لاطلاق النار كونه لا يملك وسيلة فعالة لمنع اطلاق الصواريخ من قطاع غزة، وآخر شيء كان يريد أن يفعله هو اعادة احتلال غزة من جديد، وتلك عملية عالية التكلفة ومحفوفة بالمخاطر ولا طائل منها.

أراد وقفا لاطلاق النار أو لم يرد، أراد ذلك من ناحية منطقية، لم يرد من ناحية حسية، الفائدة العملية هي مقابل الذل والخزي.

في الأسبوع المنصرم كتبت هنا أنه من السهل خرق اتفاق وقف اطلاق النار: "سيقوم جيش الدفاع بقتل دزينة من ناشطي الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية وبالمقابل سيرد التنظيم بوابل من صواريخ القسام على "سديروت"، سيصرح جيش الدفاع أن ذلك خرق للهدنة وسيرد بشن عملية..."

لكن، حتى أنا لم أخل أن مثل تلك النبؤة قد تتحقق خلال يومين. ولكن ذلك حدث فعلا: قتل جيش الدفاع ناشطين من الجهاد الإسلامي في نابلس، ورد تنظيم الجهاد الإسلامي بإطلاق صواريخ القسام ليعود جيش الدفاع ويفرض الحصار من جديد...

هل هناك من قرر بشأن ذلك الاستفزاز؟ أولمرت؟ باراك؟ قائد الأركان؟ قائد المنطقة؟ قائد الكتيبة؟ لا أحد يعرف. شيء واحد مؤكد: لا توجد حكومة.

المثال الثاني: تبادل الأسرى.

أخيرا استطاع الوسيط الألماني تأمين اتفاق بتبديل أسيرينا الذين في قبضة حزب الله بمجموعة من الأسرى اللبنانيين. الفرضية تقول أن الجنديين أصيبا إصابات بالغة، أثناء العملية، وماتا منذ زمن، ولكن ليس هناك أي تأكيد بخصوص ذلك: حزب الله يتكتم على ذلك.

في الدين اليهودي "استعادة الأسرى" بمثابة وصية. في القرون الوسطى، إن حدث ووقع يهودي من لندن أسيرا بأيدي قراصنة أتراك يتوجب على يهود اسطنبول، القريبين من مكان الحدث، دفع الفدية والعمل على تحريرهم من الأسر. في جيش الدفاع تم رفع قيمة فدية الأسرى لأبعد الحدود: بحيث لا يتركون جريحا في الميدان ولا يتركون أسرى بأيدي العدو وقد حدث بين الحين والآخر أن تم تبديل مئات الأسرى الفلسطينيين بأسير إسرائيلي واحد.

حرب لبنان الثانية هدفت، ظاهريا، لتحرير أسيرين اثنين بدون مقابل. لذلك تمت التضحية بحياة 150 جنديا ومواطنا إسرائيليا وأكثر من ألف مقاتل ومواطن لبناني. فشل ذلك. اذا، كيف يمكن رفض تبديل خمسة أسرى لبنانيين بهما؟

المشكلة هي بالأسطورة. أحد اللبنانيين الخمسة هو سمير القنطار، والذي قام مع رفاق له بتنفيذ عملية وحشية خاصة وفي الذاكرة الوطنية بقي "القاتل قنطار" محفورا كوحش، فهو الذي قتل أفراد عائلة هارن خلال عملية بينما يعتبر في لبنان بطلا وطنيا قام بتنفيذ عملية جريئة في عمق مناطق العدو.

من هنا "استعادة الأسرى" وعدم اطلاق سراح "الوحش" من هناك. شخص ما يجب أن يقرر. أولمرت اتخذ القرار. وبعد مرور يوم عاد عن قراره. وبعد مرور يومين قلب الجرة على فمها. وكل ذلك من خلال وجهة نظر بسيطة؟ ما الذي يساعده أكثر على الاستمرار؟ أي الأمرين أكثر شعبية؟

كذلك الأمر بما يتعلق بالجندي "جلعاد شليط" الأسير لدى حركة حماس في غزة. على الأقل، بما يخصه هو، معروف أنه لا زال على قيد الحياة. حركة حماس أكثر إنسانية من حزب الله بحيث تتيح له أحيانا أن يبعث الرسائل. اذا، ما المشكلة؟

المشكلة تكمن في أسطورة أخرى: "أيد ملطخة بالدماء" وليست أي دماء، بل "دماء يهودية"، كما يتم التشديد على ذلك في الخطابات. تطالب حركة حماس باطلاق مقاتليها الذين شاركوا بعمليات. اذا، هنالك معضلة أخرى: "استعادة الأسرى" مقابل "الدم اليهودي".

الموضوع بحد ذاته محض نكتة. في الحروب تسفك الدماء. جميعنا "أيدينا ملطخة بالدماء". وأنا كذلك. وبالتأكيد ايهود باراك، الذي قتل بيديه.

"مقتل الرجل بين فكية" كما قيل في الأمثال. فليكن مصطلح "جندي أسير" بدل "جندي مختطف"، "أسرى فلسطينيون" بدل "مجرمون فلسطينيون"، "مقاتلو العدو" "قتلة ملطخة أيديهم بالدماء" وكل شيء حينها سيكون دقيقا. ولكن، الإعلام الصارخ، الباحث عن رفع نسبة المشاهدة بأي ثمن، يصب الزيت على النار وذلك أيضا باختيار الكلمات والمصطلحات.

اذا، أولمرت واقع في حيرة. أي هما أكثر تأثيرا؟ تحرير الجندي، القابع، منذ عامين، في قبو مظلم بينما حياته معرضة للخطر، أو رفض اطلاق سراح "قتلة" ممن "تلطخت أيديهم بالدماء"؟ استقصاء سري يتلوه استقصاء شبيه ولا يوجد قرار.

المثال الثالث: سوريا

هنالك كأنما مفاوضات. كأنهم يتحدثون عن السلام. دعى الأتراك ممثلو سوريا وإسرائيل الى فندق ما، سينتقل الممثلون من غرفة الى أخرى ويجرون مفاوضات "غير مباشرة".

وكل ذلك عبارة عن مسرح. نبيذ يُشرب من كؤوس فارغة، لا أحد يؤمن بسلام جاد يتم بموجبه طرد كل المستوطنين الإسرائيليين من الجولان، وحاليا يتم توسيع المستوطنات أكثر فأكثر.

فكرة أولمرت، القوة المعنوية والسياسية لإزالة تلك المستوطنات، هي فكرة سخيفة وهو أيضا لا يحلم بذلك وكإثبات على ذلك: لا يقوم حتى بأقل محاولة لتهيئة الجمهور لمثل ذلك الاحتمال وأيضا في أفضل الأحوال، قد يحدث ذلك الأمر بعد عملية اقناع حثيثة وحازمة ترافقها عاصفة رفض عاتية من المواطنين.

اذا، ما الحاجة لكل ذلك الاستعراض؟ لكل شيء أسبابه:

ـ بشار الأسد يستغل ذلك الأمر، بحكمة كبيرة، للخروج من "محور الشر"، ومن أجل افشال عملية أمريكية عسكرية ضده (الخيار الذي وضع جانبا حاليا) والخروج من العزلة.

ـ حكومة تركيا، المهددة بالإسقاط من قبل الأعداء الداخليين بواسطة الجيش والقضاء، تحاول أن تكتنز ما تستطيع من الهيبة وتضع هدفها السياسي على رأس سلم الأولويات والذي يتمثل بالانضمام للاتحاد الأوروبي.

ـ حتى نيكولا ساركوزي، السريع، أدرك أن هنالك مكسب يمكنه تحقيقه. بعد أن قام بجولة من التملق هنا بمرافقة زوجته الفاتنة (الذي اختفى كلامه، ضد المستوطنات، تقريبا، من وسائل الاعلام) ، اليوم يريد أن يستقبل الأسد وأولمرت في باريس، ربما على طاولة واحدة، مع أو بدون مصافحة. أي شيء قد يكون أفضل بالنسبة من يوشك أن يتسلم رئاسة الاتحاد الأوروبي ومن يطمح ليكون نابليون الرابع؟

ـ ولكن، الرابح الأساسي من كل ذلك هو أولمرت. وقف هذا الأسبوع خلف منبر الكنيست، وسط تهكمات وسخرية أعضاء حزب الليكود، وصرخ: "أنتم لا تريدون السلام!"

ـ في هذه الحال، ذلك ليس أولمرت المرتشي، ليس أولمرت الفاشل، بل أولمرت الجريء الذي يضحي بنفسه على مذبح السلام، انه من سيحقق حلم الأجيال، ان أبقوه في الحكم.

المثال الرابع: فلسطين

كل ما سبق ذكره سبق أن كان فيما يخص العلاقات مع الفلسطينيين. يلتقون، يتبادل الطرفان العناق والوعود. الوسطاء موجودون بشكل كثيف وكل منهم يريد أن يحقق مكسبا، الا أن كل تلك المفاوضات خالية من أي مضمون.

في هذا الأسبوع تم، في برلين" تقديم عرض مقزز، تحت رعاية أنجيلا ميركل، التي قامت هي أيضا بدورها برحلة تملق لدينا هنا، كان ذلك العرض هو تحت مسمى "المؤتمر من أجل الفلسطينيين". أي موضوع لم يطرح هناك؟ موضوع الاحتلال والتطهير العرقي المستمر في القدس.

عما تحدثوا هناك؟ عن بناء الشرطة الفلسطينية، التي سترعى أمن الاحتلال وستقوم بانشاء سجون فلسطينية لزج أفراد حركة حماس فيها، كان الأساس هو "الأمن والنظام" أمن ونظام الاحتلال.

ومن كان نجم ذلك المؤتمر؟ طوني بلير المحتوم، كوندليزا رايس التراجيدية الكوميدية، وبالطبع تسيبي ليفني (التي طالبت في اليوم التالي بتوغل الجيش في قطاع غزة). جميعهم، جميعهم كانوا هناك من أجل السلام.

سابقا كان الإسرائيليون مفتتنين بما يدور في ملعب كرة القدم وفي الملعب السياسي في آن واحد، كان هنالك تعلق عاطفي جياش لهذا وذاك أما الآن فليس هناك الا كرة القدم، والتي هي لعبة تجري وفق قوانين واضحة، حيث أن ما نراه هو الموجود، يمكن مشاهدة ذلك بدون أن تنقلب أمعاء المتابعين، بينما تسبب السياسة، لدى الجمهور، الاشمئزاز والغثيان.

هذا ثمن بقاء ايهود اولمرت.