اوري افنيري 

من يستفيد من ذلك؟ / أوري أفنيري


وعلى حين غرّة: هدوء. لا يوجد لون أحمر. ليست هناك صواريخ قسّام. ليست هناك قذائف هاون. الدبابات لا تصول ولا تجول. الطائرات لا تقصف.

يمكن أن يتنفسوا الصعداء في سدروت. الأولاد يخرجون من المنازل. السكان الذين نزحوا إلى مدن أخرى يعودون إلى منازلهم. عادت العصافير لتغرّد.

وما هو رد الفعل؟ موجة من السرور؟ رقص في الشوارع؟ تصفيق لرئيس الحكومة ولوزير الدفاع اللذان أدركا الأمور أخيرا؟

ماذا حدث! لماذا يكون ذلك؟ الوجه الوطني يقطّب حاجبيه. أي شيء هذا؟ أين هو الجيش الإسرائيلي المنتصر؟

إن سكان سدروت غاضبون بالفعل. إن عدم وجود صواريخ القسام هو أمر جيد، ولكنهم أرادوا لذلك أن يحدث بعد أن يكون "جيش الدفاع" قد دخل إلى غزة ومحاها عن بكرة أبيها عن الخارطة.

نشرت صحيفة "هآرتس" في مستهل صفحتها الأولى خبرا مصدره مراسلوها تحت العنوان الكاذب: "إسرائيل تدفع بالأعمال – وتحصل على وعود".

"هذا الأمر قابل للكسر"، يطمئننا إيهود أولمرت ويقول أن الأمر يمكن أن ينتهي بين لحظة وأخرى. والإيهود الثاني، الذي دفع إلى وقف إطلاق النار، يجد حُجة: علينا أن ننفذ هذه الخطوة قبل أن نخرج إلى الحملة الكبيرة لاحتلال غزة. وإلا فإن الرأي العام الإسرائيلي والدولي سيضايقاننا.

ولا أحد يقول: حمدا لله، توقف القتل!

لماذا؟ ما الذي يؤدي إلى هذا الرد من خيبة الأمل الذي يكاد يكون موحّدا؟ لماذا يسود الإحساس أن هذه هي إهانة، وتكاد تكون هزيمة؟

لأن الأنا الوطني قد أصيب في صميمه. كم هو أمر جميل أن نرى الجيش يحتل غزة ويقضي على حماس، ومعها المدينة بأسرها. وها نحن نرى، بدل النصر الساحق، شيئا يبدو كهزيمة. على الرغم من أن الذين يدفعون إلى احتلال غزة يحاولون، كما فعلوا دائما، أن يقولوا أن القليل من التجويع والتطويق سيكسران السكان لتوّهما وسيتمرد هؤلاء على حماس.

من الناحية العسكرية، فإن سنة من الحرب على قطاع غزة قد انتهت بالتعادل. الجيش الإسرائيلي – حماس 1:1. ولكن الجيش الإسرائيلي وحماس ليسا فريقا كرة قدم تتمتعان بالقوة ذاتها. حماس هي حركة سياسية مسلحة، وهي ما يُسمى باللهجة الغربية "منظمة إرهابية". حين تحرز هذه المنظمة التعادل أمام أحد أقوى الجيوش في العالم، فإن التعادل يتحول بالنسبة لها إلى فوز.

هدف حرب حكومة أولمرت كان إسقاط سلطة حماس في قطاع غزة والقضاء على المنظمة ذاتها. لم يتم إحراز هذا الهدف. بل على العكس، حسب كل التقارير فإن حماس قد أصبحت أقوى من أي وقت مضى، وقت تعززت سيطرتها على قطاع غزة. حتى في إسرائيل لا ينكرون ذلك.

طيلة سنة كاملة، فرضت حكومة إسرائيل طوقا يكاد يكون تاما على القطاع – في البر وفي البحر وفي الجو. لقد تمتعت بالدعم غير المتحفظ من قبل أوروبا، التي ساهمت في تجويع جمهور يبلغ مليون وربع من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ. الولايات المتحدة كانت، بطبيعة الحال، شريكة كاملة في هذا المجهود العظيم. مصر حسني مبارك، المتعلقة بالولايات المتحدة، تعاونت بانعدام وجود خيار آخر.

كل ذلك لم يكف لتركيع غزة الفقيرة والمكتظة، قطاع ضيق من الأرض يصل طوله إلى 35 كيلومترا وعرضه إلى 10 كيلومترات. فناهيك عن أن إطلاق صواريخ القسام لم يتوقف قط، فإن مداها قد اخذ بالازدياد. عدد الضحايا في إسرائيل كان ضئيلا، ويمكن عدهم على الأصابع. ولكن تأثيرهم على المعنويات كان تأثيرا كبيرا.

وقف الجيش الإسرائيلي لا حول له ولا قوة أمام هذه الأسلحة الرجعية، التي لا تكاد تُذكر تكلفتها. لقد قتل الجيش بالجملة وبالمفرّق، من الجو ومن البر، بالصواريخ وبالقذائف وبأسلحة المشاة. أي شيء لم يكن ليساعد.

لقد بقيت حماس، ولكنها هي أيضا لم تتوصل إلى هدفها. لم تتمكن من إيجاد الحل ضد الحصار. إن ضغط الرأي العام العالمي فقط (بإضافة قوى السلام الإسرائيلية) هو فقط الذي منع التجويع التام، غير أنه قد ساد في القطاع عوز في كل النواحي. كانت البطالة شاملة، نفذ الوقود، جزء كبير من السكان عانوا من سوء التغذية وتأرجحوا على حافة الجوع.

هذه هي طبيعة التعادل: لا أحد من الطرفين قادر على الحسم وعلى فرض إرادته على الخصم.

وقف إطلاق النار يكون ممكنا بعد أن يصبح الطرفان بحاجة إليه فقط. (على الرغم من أن كارل فون-كلاوزفيتش، المفكر العسكري البروسي، قد قال أنه من غير الممكن في الحرب أن يكون هناك وضع يكون الطرفان معنيين فيه بالأمر ذاته – فإذا كان الأمر لصالح أحد الأطراف، فهذا بالضرورة سيكون ضد الطرف الآخر. ولكن في الواقع ثمة استثناءات.)

وبالفعل، فالجيش الإسرائيلي أراد وقف إطلاق النار ليس بأقل مما أرادته حماس. كان الأمر واضحا من تصريحات "المراسلين العسكريين" اليومية في وسائل الإعلام، الذين يُعتبرون في معظمهم متحدثين بلسان الجيش الإسرائيلي بأزياء تنكرية. من المؤكد أن أيا من وزراء الحكومة لم يخطر بباله أن يوافق على وقف إطلاق النار لو كان الجيش ليعارض ذلك.

يضغط قادة الجيش عادة للمزيد من العمليات، ولحملة إضافية، ولحرب إضافية. هل تحولوا فجأة إلى دعاة سلام؟ ليس بالضرورة. ولكنهم قد أدركوا أن عليهم أن يختاروا بين "الشرّين": وقف إطلاق النار أو "الحملة الكبيرة" – إعادة احتلال كل قطاع غزة من جديد.

لم يكن الخيار الأول محببا إلى قلوب القادة، من دون مبالغة. إن فيه اعتراف بالفشل. ولكنهم أحبوا بأقل من ذلك، أقل بكثير، الخيار الثاني.

"الحملة الكبيرة" التي يتوق إليها قسم كبير جدا من الجمهور، والتي طالبت معظم وسائل الإعلام بها بصوت مرتفع، هي أمر معقد جدا. كان لدى حماس الوقت الكافي للاستعداد لها. إن أي جيش لا يحب القتال في منطقة مبنية، فيها كثافة سكانية كبيرة. كل زقاق هو بمثابة مصيدة محتملة، كل رجل – وكل امرأة أيضا – هو منتحر محتمل. حتى إذا نجح الجيش في الدخول واحتلال القطاع للمرة الثالثة، مع ضحايا "يمكن تحمّلها"، فستكون هذه بداية المشاكل فقط. سيُقتل الجنود يوميا. لن تكون نهاية لسفك الدماء المتبادل. انظر حرب العراق.

الرأي العام متقلّب. مع كل جندي قتيل آخر، تظهر صورته المبتسمة في التلفزيون، ستزيد المطالبة بوضع حد للمجازفة. عاجلا أم آجلا، سيضطر الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب – وعندها سيعود الوضع إلى سابق عهده، بنسخة أكثر قساوة.

قادة الجيش الإسرائيلي يعرفون ذلك. أولمرت وبراك يعرفان ذلك أيضا. لا توجد أوهام في هذه المرة. العبرة من حرب لبنان الثانية لم تُنسى بعد. لذلك لا دوافع محرّضة.

لوقف إطلاق النار تأثيرات سياسية بعيدة المدى. إنه يغير الخارطة الفلسطينية، وربما خارطة المنطقة بأسرها.

يمكن أن نتفلسف إلى ما لا نهاية، يمكن أن نصرخ من على كل الأسطح أننا "لا ندير المفاوضات مع حماس" وأنه "ليس لدينا اتفاق مع حماس" - كل طفل يدرك أننا أدرنا وندير مثل هذه المحادثات.

هذه اتفاقية بين حكومة إسرائيل وبين السلطة الحاكمة في غزة. معنى ذلك هو الاعتراف العملي بحكومة حماس. كما أن كل ولد في غزة يدرك أن حكومة إسرائيل قد اضطرت إلى الموافقة بسبب عدم قدرتها على كسر حماس بالقوة.

من وجهة نظر الفلسطينيين، فإن الوضع واضح: أبو مازن في رام الله لا يكسب من الإسرائيليين أي شيء، أما حماس فنعم.

أبو مازن يحاول بالوسائل السلمية. إنه المحبب على قلوب الأمريكيين والإسرائيليين. ولكن منذ المسرحية الكبيرة في أنابوليس، ناهيك عن أنه لم يتم إحراز أي تنازل، ولا إطلاق سراح أي أسير، فإن المستوطنات آخذة بالتوسع، حكومة إسرائيل تعلن عن برامج بناء ضخمة في القدس الشرقية وفي الضفة الغربية بأسرها، ولا يمكن أن نحلم بوقف إطلاق النار في الضفة الغربية أبدا.

وأما حماس التي يقاطعها العالم بأسره، والتي يُقتل نشطاؤها كل يوم، فقد توصلت إلى إنجاز عسكري وسياسي كبير: ستتدفق البضائع إلى غزة. ستعود السيارات لتنطلق في الشوارع المدمّرة. المعبر إلى مصر، الذي يفصل بين القطاع والعالم الواسع، سيتم فتحه. وعندما سيتم إنجاز صفقة تبادل الأسرى، سيتم إطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين مقابل غلعاد شليط.

وما هو الاستنتاج؟ كل إنسان يمكنه أن يطرح السؤال على نفسه: لو كنت فلسطينيا، فما هو الاستنتاج الذي كنت سأتوصل إليه؟

وقف إطلاق النار يغير توازن القوى الدقيق القائم بين أقسام الشعب الفلسطيني. حماس قد أثبتت أنها قادرة على إقامة سلطة منظمة. إنها تثبت الآن أنها قادرة أيضا على فرض إمرتها على المنظمات المتطرفة.

الأمر الأكثر حكمة الذي يمكن لأبي مازن أن يفعله الآن هو إقامة حكومة وحدة وطنية، ترتكز إلى شراكة بين حماس وفتح.

هل سيُكتب الدوام لوقف إطلاق النار؟ يقول المراسلون الميدانيون أنه ليس هناك من يؤمن بذلك.

حين يقول أولمرت أن وقف إطلاق النار قابل للكسر، فهو يعرف عما يتحدث.

لا توجد اتفاقية مكتوبة. لا توجد آلية منظمة لتسوية الخلافات. لا يوجد حاكم ليصدر القرار إذا اقتضت الضرورة: الطرف أ أو الطرف ب قد خرق الاتفاقية.

إذا أراد شخص ما في إسرائيل أن يكسر الهدوء، فلا يوجد أسهل من ذلك: قائد صف يطلق النار على مجموعة من الفلسطينيين بجانب الجدار، بادعاء أنهم حاولوا وضع عبوة ناسفة. مروحية تقوم بمهمة استخباراتية تصدق أنهم أطلقوا النار عليها، وتطلق صاروخا. رئيس شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي يعلن أن كميات كبيرة من الأسلحة تتدفق إلى القطاع.

يمكن القيام بذلك بطريقة أخرى أيضا: يقتل الجيش الإسرائيلي عدة نشطاء من الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية. ردا على ذلك تطلق المنظمة وابلا من صواريخ القسام باتجاه سدروت. يعلن الجيش الإسرائيلي أن ذلك كان خرقا لوقف إطلاق النار ويجري عملية عسكرية. وحتى أنه سيكون صادقا، لأن وقف إطلاق النار لا يسري على الضفة الغربية.

إن أي اتفاقية يُكتب لها الدوام فقط حين يؤمن كل طرف من الأطراف أنها تخدم مصالحه. إذا اعتقد أحد الأطراف غير ذلك، فسيخرقها (وسيدعي دائما أن الطرف الآخر هو الذي خرقها أولا). في هذه الحال، على الأرجح أنه سيكون الطرف الإسرائيلي.

وقف إطلاق النار ليس سلاما، وحتى ليس هدنة. إنه بالكاد موافقة بين الأطراف المتقاتلة على وقف إطلاق النار لفترة ما.

يحاول كل طرف، بطبيعة الأمور، أن يستغل وقف إطلاق النار ليستعد لتجديد القتال – لكي يتنفس عميقا، ليستريح، ليتدرّب، ليخطط، ليتزوّد بالأسلحة الأكثر تطورا.

ولكن وقف إطلاق النار يمكن أن يتطور إلى ما هو أوسع من ذلك. يمكن أن يؤدي إلى وحدة فلسطينية، إلى يقظة إسرائيلية، إلى تقدم حقيقي استعداد للحل السلمي. في أي حال من الأحوال، إن كل يوم من وقف إطلاق النار ينقذ حياة الناس.

وفي هذه الأثناء، أضيفة إلى القاموس العبري والدولي كلمة عربية: التهدئة.