|
||
ولكن الجو الوطني العام في الحضيض ولا يميل إلى الاحتفال. يتم تذنيب الحكومة بكل هذه الكآبة من جميع الاتجاهات. "لا توجد لديها أجندة"، يكرر ويدعي النقاد، "لا هدف لديها سوى صراع البقاء!" وهذه هي، فعلا، حقيقة ظاهرة للعيان. يكثر إيهود أولمرت من الخطابات، خطاب واحد في اليوم، على الأقل، تارة في مؤتمر الصناعيين، وتارة أخرى في رياض الأطفال، ولا يقول أي شيء. لا توجد أجندة وطنية، لا توجد أجندة اقتصادية ، لا توجد أجندة اجتماعية، لا توجد أجندة تربوية. لا شيء. حين وصل إلى زمام السلطة، عرض شيئا يشبه الأجندة: "الانطواء". كان يجب أن تكون هذه حملة تاريخية: تنسحب إسرائيل من جزء كبير من الأراضي المحتلة، تفكك المستوطنات الواقعة شرقي الجدار الفاصل وتضم الكتل الاستيطانية الواقعة بينه وبين الخط الأخضر. الآن، وبعد مرور سنتين وحرب واحدة، لم يعد هناك أي شيء من هذا البرنامج، حتى اسمه قد طواه النسيان. اللعبة الوحيدة الباقية في المدينة هي المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، التي كانت مسرحية هزلية منذ البداية. كالممثلين على المسرح، الذين يشربون من كؤوس فارغة، تتظاهر جميع الأطراف أن هناك مفاوضات. يلتقون، يتعانقون، يبتسمون، يلتقطون الصور، يقيمون اللجان، يعقدون المؤتمرات الصحفية، يعلنون - ولا شيء، حقا، لا شيء يحدث. ما هو هدف هذه المسرحية الهزلية؟ لكل من المشاركين هدفه الخاص: يعرض أولمرت أجندة لتعبئة الفراغ. جورج بوش، فرخ البط الأعرج الذي يخلف ورائه انهيارات في جميع المجالات، يريد أن يثبت إنجازا واحدا على الأقل، وليكن خياليا بقدر ما يكون. أبو مازن المسكين، الذي يتعلق كل وجوده بالادعاء بأن بمقدوره أن يحرز إنجاز سياسيا لصالح شعبه، تعلق بهذا الوهم بكل ما تبقى لديه من قوة. وهكذا تتواصل المسرحية الهزلية. ولكن من يؤمن بأن للحكومة ليس لديها أجندة، وأن الدولة كلها ليس لديها أجندة، فإنه مخطئ. توجد أجندة ولكنها خفيّة. ولتوخي الدقة: إنه غير معروف. يقولون أن الأيديولوجية قد ماتت. هذا أيضا غير صحيح. لا يوجد مجتمع من دون أيديولوجية، ولا إنسان من دون أيديولوجية. حين لا توجد أيديولوجية جديدة، تواصل الأيديولوجية القديمة بقاءها. حين لا توجد أيديولوجية معروفة، توجد أيديولوجية غير معروفة، ومن شأن هذه أن تكون أكثر فائدة بكثير – وأخطر بكثير. لماذا؟ لأنه من الممكن انتقاد الأيديولوجية المعروفة، تحليلها والتصدي لها. من الأصعب بكثير محاربة أيديولوجية غير معروفة، توجّه الأجندة وهي بدورها غير معروفة أيضا. ولذلك من المهم التعرف عليها، كشفها وتحليلها. إذا سألتم أولمرت، سينكر تماما أنه ليست لديه أجندة. بالتأكيد أنه توجد أجندة. صنع السلام (الذي يدعى لدينا "الحل الدائم"). وليس مجرد سلام، بل سلام يعتمد على "دولتين لشعبين". من دون سلام كهذا، يقول أولمرت، "الدولة منتهية لا محالة". وإذا كانت الحال على هذا النحو، فلماذا لا توجد مفاوضات، بل مسرحية هزلية؟ لماذا يستمر البناء المكثف في المستوطنات الواقعة شرقي الجدار أيضا، في افي المناطق التي، وفقا للناطقين باسم الحكومة، يجب أن تتحول إلى الدولة الفلسطينية؟ لماذا ينجزون يوميا عشرات العمليات العسكرية والمدنية التي تُبعد السلام؟ وعلى حد أقوال الحكومة ذاتها أيضا، وعلى عكس ما قالته في البداية، إنها لا تفكر بالتوصل إلى السلام في عام 2008. قد يتم ربما المتوصل إلى "اتفاقية في الدرج"، على الأكثر. هذا هو اختراع إسرائيلي أصلي، معناه اتفاقية توضع في الدرج إلى حين تصبح فيه الظروف مواتية لتنفيذه. بما معناه: مفاوضات زائفة تؤدي إلى اتفاقية زائفة. يقولون الآن أنه لا يوجد أي احتمال لذلك أيضا، ليس في عام 2008 ولا في المستقبل القريب. لا مفر من الاستنتاج غير المؤول: لا تعمل الحكومة من أجل التوصل إلى السلام. ولذلك فهي لا ترغب في السلام. لا توجد أيضا معارضة برلمانية حقيقية تضغط عليها من أجل السلام، ولا يوجد أيضا ضغط من قبل وسائل الإعلام. ما معنى هذا كله؟ أنه لا توجد أجندة؟ لا، هذا يعني أنه من وراء الأجندة الزائفة، التي تبدو في العناوين، تختبئ الأجندة الحقيقية، غير الظاهرة للعيان. تتعارض الأجندة الخفية مع السلام. لماذا؟ إن التفسير المقبول هو أن الحكومة لا ترغب في السلام لأنها تخاف من المستوطنين وداعميهم. السلام الذي يجري الحديث عنه – "دولتان لشعبين" – يستوجب تفكيك عشرات المستوطنات، ومن ضمنها المستوطنات التي تشكل مركزا أيديولوجي وسياسي للحركة الاستيطانية برمّتها. معنى الأمر هو إعلان الحرب على 250 ألف مستوطن (فيما عدا أولئك الذين سيخلون أنفسهم بمحض إرادتهم مقابل تعويض سخي). إن الادعاء المقبول هو أن الحكومة أضعف من أن تتورط في نزاع كهذا. وفقا للصيغة العصرية: "الحكومتان، الإسرائيلية والفلسطينية، أضعف من أن تصنعا السلام. لذلك يجب تأجيل الموضوع كله إلى حين تُقام لدى الطرفين حكومتان قويتان". هنالك من يضيف أيضا حكومة بوش في هذا السياق– رئيس متعثر لا يستطيع فرض السلام. ولكن المستوطنات ليست سوى عارض جانبي للمشكلة، وهي ليست لب المشكلة. فإذا لم يكن الأمر كذلك، لما لا تجمّدها الحكومة على الأقل، كما قد وعدت المرة تلو الأخرى؟ إذا كانت المستوطنات هي التي تعرقل السلام، فلما يواصلون توسيعها وحتى أنهم يقيمون مستوطنات جديدة، تحت غطاء إضافة "أحياء" لمستوطنات موجودة؟ من الواضح أن المستوطنات ما هي، في الحقيقة، سوى ذريعة. ثمة أمر أكثر عمقا يجعل الحكومة، وكل المنظومة السياسية، لا يرغبون في السلام. هذه هي الأجندة الخفية. ما هو جوهر أي سلام؟ إن جوهر أي سلام هو: الحدود. حين يقوم شعبان بصنع السلام، فإنهما يرسمان الجدود بينهما أولا. وهذا هو أهم الأمور التي تعارضها المنظومة الإسرائيلية. أنه يتعارض والروح الأساسية للمشروع الصهيوني. صحيح، لقد رسمت الحركة الصهيونية خرائط في فترات مختلفة. بعد الحرب العالمية الأولى قدمت إلى لجنة السلام خريطة دولة يهودية تمتد من نهر الليطاني في لبنان وحتى العريش في وسط شبه جزيرة سيناء. خريطة زئيف جبوطنسكي، التي تم دمجها في شعار الإتسل، نسخت الخطوط الأصلية للانتداب البريطاني، من كلتا ضفتي نهر الأردن. الدكتور يسرائيل إلداد (شييف)، من زعماء "الليحي"، نشر طيلة سنوات خارطة "مملكة إسرائيل" التي تمتد من شاطئ البحر المتوسط وحتى نهر الفرات، التي تشمل كل لبنان والأردن، وأقسام كبيرة من سوريا ومصر. لا توجد أي إشارة إلى أن ابنه، أرييه إلداد، عضو كنيست من اليمين المتطرف، يتحفظ منها. بعد حرب الأيام الستة، نادى اليمين بالخارطة التي شملت جميع الاحتلالات، ومن ضمنها هضبة الجولان وكل شبه جزيرة سيناء. ولكن جميع هذه الخرائط لم تكن سوى ألعاب تافه. لا تعترف الرؤيا الصهيونية الحقيقية بالخرائط. إنها رؤيا لدولة من دون حدود – دولة تتوسع قدر الإمكان، وفقا لقوتها الديموغرافية، العسكرية، والسياسية في كل حين. إن الفكرة الصهيونية أشبه بالمياه التي تجري في الجدول، في طريقها إلى البحر. يلتوي مسار الجدول في المنظر الطبيعي، يجتاز العراقيل، يتوجه هنا وهناك، أحيانا فوق التربة وأحيانا تحتها، يدمج معه في طريقه ينابيع أخرى، ولكن نهايته هي الوصول إلى هدفه. هذه هي الأجندة الحقيقية التي لا تتغير، الخفية، المعروفة وغير المعروفة. إنها لا تحتاج إلى قرارات، إلى وضع نصوص، إلى خرائط، لأنها مرسخة في جينات الحركة. هذا يفسر، من بين أمور أخرى، الظاهرة التي تم وصفها في تقرير طاليا ساسون عن المستوطنات. أن كل أذرع الحكومة، المجتمع والجيش، من دون الحاجة إلى التنسيق بل بتعاون رائع، قد عملت على إقامة المستوطنات "غير القانونية". كل موظف من آلاف الموظفين والضباط المشاركين في هذا المشروع، طيلة عششرات السنوات، كان يعرف تماما ماذا يجب عليه أن يفعل، حتى من دون أن يتلقى أية أوامر. هذا هو سبب الظاهرة التي تبدو غريبة، دافيد بن غوريون رفض أن يُدرج حدود الدولة الجديدة في وثيقة الاستقلال. لم يقصد، للحظة، أن يكتفي بالحدود التي رسمتها الأمم المتحدة. وقد تصرف جميع ورثته على هذا النحو. حددت اتفاقات أوسلو أيضا "مناطق" ولكنها لم ترسم الحدود. وافق الرئيس بوش على هذا التوجّه، حين اقترح "دولة فلسطينية بحدود مؤقتة" – مصطلح غير موجود في القاموس الدولي. من هذه الناحية أيضا، تشبه إسرائيل الولايات المتحدة، التي امتدت على طول الساحل الشرقي ولم تهدأ حتى وصلت إلى الساحل الغربي، في الطرف الآخر من القارة. جماهير القادمين الجدد، الذين أتوا من أوروبا بتيار غير منقطع، تحركوا غربا بغير انقطاع، من خلال اختراق كل الحدود وخرق جميع الاتفاقيات، قضوا على الهنود الحمر، شنّوا حربا ضد المكسيك، احتلوا تكساس، اجتاحوا أمريكا الوسطى وكوبا. إن الشعار الذي حثهم على التقدم وبرر جميع أعمالهم كان "Çáمصير الواضح" – ثمرة اختراع جون أوسوليفين عام 1845. النسخة العبرية لـ "المصير الواضح" هي "حُكم علينا". كان هذا شعار موشيه ديان، المندوب النموذجي عن الجيل الثاني. لقد ألقى في حياته خطابين مهمين. الأول، الأكثر شهرة، ألقاه عام 1956 على قبر روعي روطنبرغ في ناحال عوز. "نحن نحوّل أرضهم والقرى التي عاشوا فيها هم وآبائهم، أمام أعينهم (الفلسطينيين في غزة) إلى ملك لنا... هذا ما كُتب على جيلنا، هذا خيار حياتنا - أن نكون جاهزين ومسلحين، أقوياء وقاسين - وإلا Ýيُسلب السيف من قبضتنا، وسيتم القضاء علينا." لم يقصد جيلا واحدا فقط. الخطاب الثاني، الأقل شهرة كان أكثر أهمية. لقد ألقاه في شهر آب من عام 1968، بعد احتلال هضبة الجولان، في مؤتمر عقده أبناء الكيبوتسات. حين سألته عن ذلك في الكنيست، أدخل الخطاب كله في "أقوال الكنيست"، وهو تصرف غير اعتيادي أبدا. وهذا ما قاله للشباب: "كُتب علينا أن نعيش في قتال دائم مع العرب... نحن، خلال المائة سنة هذه من عودة صهيون، نعمل على موضوعين: بناء البلاد وبناء الشعب... هذه عملية توسع، ترتكز إلى المزيد من اليهود، المزيد من البلدات والمزيد من الاستيطان... إنها عملية لم تنته بعد. نحن وُلدنا هنا ووجدنا أهلنا، الذين أتوا إلى هنا من قبلنا... أنتم لستم ملزمين بإنهاء ذلك. يتوجب عليكم أن تضيفوا مدماككم... بقدر ما تستطيعون، في وقتكم، في حياتكم، العمل على توسيع الاستيطان. لا يجب الإنهاء، ولكن لا يجب القول: هذه نهاية الأمر، إلى هنا وانتهينا." ديان، الذي كان ملما بالكتب المقدسة، قد فكر بالطبع في تلك اللحظة بالآية في "مسيخيت أفوت": "إنهاء العمل ليس ملقى عليك، ولا أنت حر في أن تتقاعس عنه." هذه هي الأجندة الخفية. علينا أن نخرجها من اللا وعي إلى الوعي، التأقلم معها، بهدف كشف الخطر الفظيع المستتر فيها، خطر الحرب الأبدية، التي من شأنها أن تقود الدولة إلى الضياع يوما ما. استعدادا للذكرى الـ 60 لقيام الدولة، من الواجب مد خط تحت هذا الفصل من تاريخنا، طرد الهاجس، وأن نقول: هذه نهاية الأمر. انتهينا من فصل التوسع والاستيطان. هذا سيتيح لنا أن نوجه مسار الجدول. أن ننهي الاحتلال. أن نفكك المستوطنات. أن نصنع السلام. أن نتصالح مع الشعب الجار. وبادئ ذي بدء: أن نتفق على الحدود. |