|
||
أنا أتذكر هذا اليوم جيدا. كنت في مطار بن غوريون، في طريقي إلى لقاء سري مع سعيد حمامة، مبعوث ياسر عرفات إلى لندن، حين قال لي أحدهم أنه قد تم "قتل متظاهرين عرب كثيرين". هذا الأمر لم يكن غير متوقع. قبل عدة أيام من ذلك الوقت، قدّمنا - نحن مجموعة من أعضاء "المجلس الإسرائيلي من أجل السلام الإسرائيلي-الفلسطيني" – مذكرة عاجلة إلى رئيس الحكومة إسحق رابين. حذّرنا فيها من أن نية الحكومة في مصادرة مساحات واسعة من الأراضي من أبناء القرى العربية في الدولة قد تؤدي إلى انفجار. بمبادرة لوبا إليآف، خبير ذو أقدمية في شؤون الاستيطان، اقترحنا برنامجا بديلا، ولكن من دون جدوى. حين عدت من خارج البلاد، اقترح الشاعر يبيي القيام بخطوة رمزية من التعبير عن الأسف والندم على القتل. سافرنا - يبيي، الرسام دان كيدار وأنا – ووضعنا أكاليل من الزهور على أضرح القتلى. أثار هذا العمل موجة من الكراهية ضدنا. أحسست أن أمرا ما قد حدث في إسرائيل، وأن العلاقات بين المواطنين اليهود والمواطنين العرب قد تغيرت بشكل كبير. وبالفعل، فقد أثر يوم الأرض على العلاقات بين الأغلبية والأقلية في الدولة، حتى أكثر من مجزرة كفر قاسم (1956) وقتل المواطنين العرب في أحداث أكتوبر (2000). يعود تفسير ذلك إلى فترة قيام الدولة. بعد حرب عام 1948، بقي في الدولة جمهور عربي صغير، ضعيف وخائف. فناهيك عن أن حوالي 750 ألف عربي قد تم تهجيرهم من الأراضي التي تحولت إلى دولة إسرائيل، بقي الباقون من دون قيادة. لقد اختفت الزعامة السياسية، الفكرية والاقتصادية. لقد ترك معظم أفرادها البلاد منذ بداية الحرب. وقد احتل هذا الفراغ، بشكل أو بآخر، الحزب الشيوعي، الذي سُمح لزعمائه بالعودة - وبالأخص بهدف إرضاء ستالين، الذي أيّد إسرائيل آنذاك. بعد نقاش داخلي، قرر زعماء الدولة الجديدة منح العرب الجنسية وحق الانتخاب في "الدولة اليهودية". هذا لم يكن مفهوما ضمنا. ولكن حكومة إسرائيل أرادت أن تثبت للعالم أن هذه هي دولة ديموقراطية. حسب رأيي، كان الاعتبار الحاسم هو اعتبار حزبي بالذات: لقد آمن دافيد بن غوريون أن باستطاعته إجبار العرب على التصويت إلى جانب حزبه. وبالفعل، فقد صوتت الأغلبية العظمى من العرب إلى جانب حزب العمل (مباي آنذاك) وحزبين فرعيين عربيين تم تأسيسهما لهذا الهدف. لم يكن أمامهم خيار آخر: لقد عاشوا في نظام من الخوف، تحت إشراف مكثف من قبل الشاباك (كان يُدعى آنذاك "شين بيت"). كل حمولة عربية كانت تعرف بالضبط لمن يجدر بها أن تصوّت - إلى جانب مباي أو إلى جانب إحدى القائمتين التابعتين. ولأن لكل حزب بطاقتان (واحدة بالعبرية وأخرى بالعربية)، كان في كل صندوق اقتراع ستة احتمالات – وكان من السهل على الشاباك أن يتأكد من أن كل حمولة ستنفذ الأمر الذي تلقته. لقد حظي بن غوريون، في أكثر من مرة، بالأغلبية في الكنيست بفضل هؤلاء "المغتصبين". لمزيد من "الأمن" (بكل معاني هذه الكلمة) فُرض على العرب في الدولة "حكم عسكري". كانت كل حياتهم متعلقة به. كانوا يحتاجون إلى تصريح للخروج من قراهم إلى المدينة أو إلى القرية المجاورة. من دون تصريح الحكم العسكري، لم يتمكنوا من شراء تراكتور، من إرسال البنت إلى دورة المعلمات، من الحصول على وظيفة للابن، من الحصول على رخصة استيراد. بغطاء من الحكم العسكري وتشكيلة كاملة من الحقوق، تمت مصادرة مساحات شاسعة من الأرض، أقيمت عليها البلدات اليهودية الجديدة. ها لكم قصة لم تبرح ذاكرتي: تمت دعوة صديقي الشاعر المرحوم راشد حسين من قرية مصمص (بجوار أم الفحم) إلى الحاكم العسكري في نتانيا. قال له الحاكم العسكري أن عيد استقلال إسرائيل سيحل قريبا، وأنا أريد أن تكتب قصيدة جميلة بهذه المناسبة. راشد، الشاب الوطني الأبي، رفض. حين وصل إلى بيته وجد كل أبناء عائلته يجلسون على الأرض ويبكون بكاء مرا. في البداية اعتقد أن أحدهم قد توفي. ولكن هاجمته أمه قائلة: "لقد دمرتنا! لقد انتهينا!" وعندها كتب راشد قصيدة. لقد وأدت الحكومة أي مبادرة سياسية مستقلة من قبل الجمهور العربي. كانت المحاولة الأولى لإقامة هيئة عربية وطنية هي مجموعة "الأرض"، وقد تم قمعها بالقوة. لقد تم إخراج هذه المجموعة خارج القانون، وسُجن زعماؤها وتم نفيهم، وتم منع إصدار جريدتهم - وكل ذلك برعاية وبإذن من المحكمة العليا. لم يبق سوى الحز ب الشيوعي، ولكن أعضاءه قد تمت ملاحقتهم في أكثر من مرة. تم إلغاء الحكم العسكري في عام 1966 فقط، بعد الإطاحة ببن غوريون، وبعد وقت قصير من انتخابي للكنيست. بعد أن شاركت في الكثير من المظاهرات ضد الحكم العسكري، كان لي الشرف أن أصوت إلى جانب إلغائه. ولكن الوضع العملي لم يتغير – فعوضا عن الحكم العسكري العلني جاء حكم عسكري خفي. معظم أشكال التمييز والإجحاف قد ظلت على ما كانت عليه. جاء "يوم الأرض" وغيّر الوضع. لقد ترعرع في البلاد جيل عربي ثان، جيل لم يشهد التهجير وقد تعززت مكانته الاقتصادية، ولم يعد يخاف ولم يستسلم. لقد أدى إصدار الأمر إلى الجنود وأفراد الشرطة بإطلاق النار على مواطني الدولة إلى ضجة كبيرة. هكذا بدأ فصل جديد. لم تتغير نسبة المواطنين العرب في الدولة: منذ الأيام الأولى وحتى اليوم، تتراوح هذه النسبة حول العشرين بالمائة. التزايد الطبيعي للجمهور الإسلامي تمت موازنته مع القدوم اليهودي الضخم. ولكن الكمية العددية قد تغيرت كثيرا: لقد زاد عدد السكان العرب من 200 ألف نسمة لدى قيام الدولة إلى حوالي مليون ونصف المليون - أكثر بضعفين من حجم الاستيطان العبري الذي أقام الدولة. لقد غيّر يوم الأرض، بشكل دراماتيكي، نظرة العالم العربي إلى العرب في إسرائيل. كانوا يُعتبرون، حتى ذلك الحين، من الخونة، المتعاونين مع "الكيان الصهيوني". ما زالت هناك صورة عالقة في ذهني منذ عام 1965، من مؤتمر عقده رئيس بلدية فيرينسه الأسطوري، جورجيو له فييرا، الذي حاول أن يعقد لقاء بين دعاة السلام الإسرائيليين والعرب. كان هذا العمل لا يزال يعتبر في حينه عملا جريئا. في إحدى الاستراحات، وقفت في ساحة تغمرها أشعة الشمس وتحدثت مع دبلوماسي مصري كبير، وقد انضم إلينا اثنان من العرب الشباب من إسرائيل، حيث سمعا بأمر المؤتمر. بعد أن تعانقنا، قدمتهما إلى الشخصية المصرية، ولكن هذا الرجل أدار ظهره لهم وقال: "أنا مستعد للتحدث معك، ولكني لست مستعدا للتحدث مع هؤلاء الخونة". لقد أعادت الأحداث الدامية التي جرت في يوم الأرض "عرب إسرائيل" إلى أحضان الأمة العربية والشعب الفلسطيني، وأصبحوا يُدعون منذ ذلك الحين "عرب 1948". في شهر أكتوبر من عام 2000، عاد رجال الشرطة وأطلقوا النار على مواطنين عرب وقتلوهم. ولكن هذا الجمهور لم يكن جمهور عام 1967، لأنه في هذه الأثناء نشأ جيل ثالث من أبنائه، رغم كل العقبات، وقد تعلمت بناته في الجامعات، وقد تحول أبناؤه إلى رجال أعمال، سياسيين، بروفيسورات، محامين وأطباء. لم يعد بالإمكان تجاهل هذا الجمهور - رغم أن الدولة تحاول جاهدة القيام بذلك. تُطلق في بعض الأحيان صيحات حول الإجحاف والتمييز، ولكن الجميع حذرون من عدم الخوض في المسألة الأساسية: ما هي مكانة الأقلية العربية الكبيرة في دولة تعرّف نفسها بأنها "دولة يهودية". أحد زعماء الجمهور العربي، وهو عضو الكنيست المرحوم عبد العزيز الزعبي، عرّف هذه المعضلة كما يلي: "دولتي تخوض حربا ضد شعبي". المواطن العربي ينتمي إلى دولة إسرائيل وإلى الشعب الفلسطيني. الانتماء إلى الشعب الفلسطيني مفهوم ضمنا. المواطنون العرب في إسرائيل، الذين أصبحوا يميلون مؤخرا إلى تسمية أنفسهم "فلسطينيون في إسرائيل"، هم إحدى مجموعات الشعب الفلسطيني الذي يعاني من مصيره، والمكوّن من الكثير من المجموعات: سكان الأراضي المحتلة (المجزئين الآن بين الضفة الغربية وقطاع غزة)، العرب الساكنين في القدس الشرقية (الذين هم "سكان" ولكن ليسوا "مواطنين")، واللاجئين، المشتتين في دول كثيرة. لكل مجموعة من هذه المجموعات إحساس وطني قوي من الانتماء المشترك، ولكن لكل منها مصير خاص بها، يؤثر بطبيعة الحال على وعيها. إلى أي مدى يُعتبر العنصر الفلسطيني قويا في وعي المواطنين العرب في إسرائيل؟ وكيف يمكن قياسه؟ يشكو الفلسطينيون في المناطق المحتلة، في أكثر من مرة، من أن الدعم هو بالأساس دعم بالكلمات، وليس بالأفعال. إن الدعم الحقيقي من قبل المواطنين العرب في إسرائيل لنضال التحرير الفلسطيني هو بالأساس دعم رمزي. يتم هنا وهناك سجن مواطنين ومواطنات وتوجه إليهم تهمة تقديم المساعدة للعمليات الانتحارية، ولكنها حالات استثنائية. حين اقترح أفيغدور ليبرمان ضم كل منطقة المثلث إلى الدولة الفلسطينية التي ستقام، مقابل ضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل، لم ينبس أي صوت عربي في إسرائيل ببنت شفة ليؤيد الفكرة. هذه حقيقة تحتاج إلى إمعان النظر فيها. الجمهور العربي متأصل في الدولة أكثر مما يبدو من نظرة سطحية. يلعب العرب دورا هاما في اقتصاد الدولة، يعملون في الدولة، يدفعون الضرائب إلى الدولة. إنهم يتمتعون بالتأمين الوطني – بحق وليس كحسنة، لأنهم يدفعون رسومه. مستوى حياتهم أصبح أعلى بكثير من مستوى حياة أخوتهم الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. إنهم يشاركون في الديموقراطية الإسرائيلية، ولا يفكرون في العيش في دولة مثل مصر أو الأردن. إن لديهم شكاوى حادة وعادلة – ولكنهم يعيشون في إسرائيل وسيواصلون العيش فيها. قدم مثقفون عرب من أبناء الجيل الثالث في إسرائيل، في السنوات الأخيرة، اقتراحات مختلفة حول ترتيب العلاقات بين الأكثرية والأقلية. من الناحية العملية هناك إمكانيتان أساسيتان لهذه الترتيبات: حل قومي وحل مدني. تقول الطريقة الأولى: دولة إسرائيل هي دولة يهودية ولكن يعيش فيها شعب آخر. إذا كان للإسرائيليين-اليهود حق وطني معرّف، فيجب أن تكون حقوق الإسرائيليين العرب معرفة هي أيضا. مثلا، حكم ذاتي تعليمي، تربوي وديني (كما طالب زئيف جبوطنسكي الشاب من أجل اليهود في روسيا القيصرية). علاقة علنية بالعالم العربي وبالشعب الفلسطيني، مثل العلاقة القائمة بين المواطنين اليهود وبين الجاليات اليهودية. كل ذلك يجب تحديده في دستور الدولة. تقول الطريقة الثانية: إسرائيل لكل مواطنيها، ولهم فقط. كل مواطن هو إسرائيلي، كما أن كل مواطن في الولايات المتحدة هو أمريكي. من ناحية الدولة، لا فرق بين مواطن وآخر، سواء أكان يهوديا، مسلما أو مسيحيا، عربيا أو روسيا، كما أنه من ناحية الدولة الأمريكية لا يوجد فرق بين مواطن أبيض، بني أو أسود، من أصل أوروبي، هسباني أو آسيوي، إنجيلي، كاثوليكي، يهودي أو مسلم. ذلك يدعى باللهجة الإسرائيلية "دولة كل مواطنيها". أنا أفضل، بالطبع، الطريقة الثانية، ولكني مستعد أيضا لتقبل الطريقة الأولى. كل واحدة من الطرق أفضل من الوضع القائم، في وقت تتملص فيه الدولة من المشاكل وتتظاهر بأن الحديث يجري عن تصحيح حالات التمييز هنا وهناك (من دون القيام بأي عمل لتصحيحها). حين لا تكون هناك الجرأة الكافية لمعالجة جرح مؤلم، فإنه يتلوث. تصرخ الحثالة في ملاعب كرة القدم "الموت للعرب"! ويدعو ممثل يميني في الكنيست إلى طرد أعضاء الكنيست العرب من الكنيست ومن الدولة كلها. في الذكرى الثانية والثلاثين ليوم الأرض، وقُبيل عيد الاستقلال الستين، يجدر بنا أن نبدأ التفكير بذلك بجدية. |