اوري افنيري 

بعد مرور 12 سنة / أوري أفنيري


لقد تفضلت رئيسة الكنيست مشكورة بدعوتي للمشاركة في الجلسة الخاصة التي عقدتها الكنيست للذكرى الثانية عشرة لاغتيال إسحق رابين.

كنت في حيرة شديدة من أمري فيما يتعلق بالاستجابة للدعوة.

فمن جهة، كان بودي أن أعبر عن تقديري للرجل وما فعله في السنوات الأخيرة من حياته. لقد كنت أكنّ له كل المودة والاحترام.

من جهة أخرى، لم أكن أرغب في الإصغاء إلى الكلمات التأبينية التي سيلقيها شمعون بيرس، وهو الرجل الذي كان من شأنه أن يواصل درب رابين، ناهيك عن أنه قد دفن اتفاقية أوسلو من شدة جُبنه. بل بأقل من ذلك، أن أصغي إلى تأبين إيهود أولمرت، وهو من كان من بين قادة المحرضين ضد اتفاقية أوسلو ومن أبرمها. وبأقل من ذلك، أن أصغي إلى تأبين بينامين نتنياهو الذي وقف على الشرفة بينما كانوا يرفعون في الأسفل صورة رابين بزي الإس إس.

قررت عدم المشاركة في طقوس العربدة هذه غير الخالية من المداهنة المنافقة. لم أسافر إلى الكنيست، وجلست في بيتي أفكر بالرجل.

أفكر بإسحق رابين الفتى، الذي انضم في فترة ريعان صباه إلى البلماح. القائد الذي طرد العرب من منازلهم في حرب عام 1948. قائد الأركان الذي دعا، بعد حرب حزيران، إلى احترام شهداء العدو. رئيس الحكومة الذي طوّر التربية والتعليم أكثر من كل من سبقه ومن كل من خلفه. رئيس الحكومة الذي سمح لي بإجراء اتصالات سرية مع زعماء منظمة التحرير الفلسطينية، في وقت كان فيه هذا الأمر بمثابة جريمة نكراء. وزير الدفاع الذي رد على نشوب الانتفاضة الأولى بدعوته إلى الجنود "اكسروا أيديهم وأرجلهم"، وهو أمر تم تنفيذه من الناحية الكلامية. الرجل الذي اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية وصافح ياسر عرفات.

لقد اتصف بكل هذه الأمور، ويمكن أن نضيف المزيد.

لقد كان، بادئ ذي بدء يمثل أبناء جيلي، "جيل 1948" – وليست صدفة أن يُدعى هذا الجيل على اسم الحرب. لقد كان ذلك العصر عصر السذاجة. سذاجة المقاتلين وسذاجة الاستيطان. بنظرة إلى الخلف، تبدو أحداث تلك الفترة، - نشاطات الحركات السرية، معارك الحرب – بضوء مختلف، صورة فيها ظلال كثيرة. ولكن يجب أن نتذكر: لم تكن تبدو كذلك عند وقوع الحدث. لا لم تبدو كذلك أبدا.

لقد مثل رابين بشخصيته سذاجة الجيل، الذي كان يؤمن بكل جوارحه أنه يقدم نفسه على مذبح قضية عادلة جدا – ترسيخ الاستيطان، إنقاذ يهود أوروبا، التطلع إلى استقلال قومي. لولا هذا الإيمان المطلق، من خلال عدم رؤية الطرف الآخر، لم نكن لنجتاز اختبار 1948 - اختبار قتل فيه وجرح جزء كبير من أبناء جيلنا.

لقد كانت الصور المثالية لهذا الجيل هي "الصبّار" (اليهودي الذي ولد في البلاد) و"والصبّارة"، وهي شخصية أسطورية كان لها تأثير كبير على بلورة ذلك الجيل (وأنا أيضا عملت جاهدا على رسم معالمها). كان من شأن هذا الصبّار أن يكون منتصب القامة، من الناحية الجسدية والنفسية، متحررا من عُقد اليهود في الشتات (لقد كانت كلمة شتات بمثابة قذف لاذع في قاموسنا). كان "الصبار" مستقيما، يقول الصدق، عمليا، طبيعيا، إنسانا يتوجه إلى الأمور بشكل مباشر ويسخر من الكياسة الفارغة من المضمون، ويسخر أيضا من الثرثرة الفارغة والكليشيهات الجوفاء التي كانت تُدعى "صهيونية". إلى أن اتضح أمر الكارثة، كانت النظرة إلى يهود "الشتات" وكل ما هو متعلق بهم نظرة استهتار، وحتى ازدراء.

بدأ يحدث، من دون قصد، تمييز لغوي واضح – استيطان "عبري" ودين "يهودي"، كيبوتس "عبري" وبلدة "يهودية" (في الخارج)، عمل "عبري" (مثل اسم "الهستدروت العامة للعمال العبريين في أرض إسرائيل") ومصالح جوية "يهودية"، عامل "عبري" وسمسار "يهودي".

كان إسحق رابين الصبار الأمثل - "جميل الدؤابة والطلعة"، شاب تخلى عن تطلعاته الشخصية (أن يدرس هندسة المياه) لكي يخدم الشعب، لكي يكون مقاتلا وليقود المقاتلين، لكي يعمل ويترك للمسنين الحوار حول الأيديولوجية.

كان يُعتبر ذا "عقل تحليلي" بسبب قدرته على تحليل وضع عملي وإيجاد حلول عملية له. كان الوجه الآخر للعملة هو انعدام الانطلاق والخيال. لقد جاء ليعالج الواقع، ولكن لم يكن قادرا على أن يتخيل لنفسه واقعا مغايرا. (آبا إيبن، الذي كان يكرهه كراهية عمياء، قال لي ذات مرة: "التحليل معناه التفكيك. رابين يعرف كيف يفكك الأشياء إلى عناصرها، ولكنه غير قادر على إعادة تركيبها.")

لقد كان منطو على نفسه، ربما من الخجل، يرتدع من التربيت على الكتف وتبادل القبل. لقد سموه في أكثر من مرة "التوحدي". غير أنه لم يكن إنسانا متعاليا، وبالتأكيد ليس متكبرا. بعد أن كان يشرب كأسا أو اثنتين (ودائما وسكي) كان يذوب بعض الشيء، وكان يمكنه، في الحفلات، أن يبتسم ابتسامته الملتوية بعض الشيء وأن يكون أكثر انفتاحا وودية.

لو توفي عام 1970، لكنا سنتذكره كجندي وحيد، قائد كتيبة ناجح في حرب عام 1948، أفضل قائد أركان في تاريخ الجيش الإسرائيلي، مهندس النصر في حرب حزيران. ولكن هذا كله ما كان سوى الفصل الأول من حياته المليئة بالتحولات. لقد حدث له أمر نادر الحدوث: حين بلغ سن 70 سنة، فعل أمرا لا يقدر على فعله حتى أبناء سن 30 سنة: لقد بدّل نظرته تماما وقلب كل مسلّماته التي تصرف بموجبها طيلة حياته رأسا على عقب.

لقد شهدت هذا التحول الرائع. ففي عام 1969، حين شغل منصب سفير إسرائيل في واشنطن، تحدثنا عن القضية الفلسطينية للمرة الأولى. لقد تطرق إلى فكرة السلام مع الفلسطينيين برفض تام. (أتذكر من هذا الحديث جملة قالها لي: "الحدود الآمنة ليست مهمة بالنسبة لي، أنا أريد حدودا مفتوحة.") كان يقصد الحدود مع الأردن. كانت "الحدود المفتوحة" آنذاك شعار من ينادي بالضم، في الوقت الذي صرّح فيه رابين أنه لا يزعجه أن يتزود بتأشيرة مرور بهدف زيارة مدينة الخليل.

منذ ذلك الوقت بدأنا نلتقي بين الفينة والأخرى – في مكتبه، في مقر رئيس الحكومة، في بيته الخاص في رمات أفيف وفي الحفلات – وكنا نعود دائما إلى الموضوع الفلسطيني. لقد ظلت نظرته سلبية.

لذلك أعلم كم كان هذا التحول حادا. أنا لا أومن أنني أنا من أثر عليه – ربما زرعت بعض البذور فقط. لقد شرح لي بعد مرور الأيام أمر التغيير الذي كان كله مبنيا على سلسلة من الاستنتاجات المنطقية: لقد التقى الزعماء الفلسطينيين المحليين بصفته وزيرا للأمن. حين كان يلتقي بكل منهم على حدة كان كل منهم متنازلا، ولكن حين كانوا في إطار مجموعة كانوا أكثر تشددا وأعلنوا أنهم يتلقون الأوامر من منظمة التحرير فقط. بعد ذلك عُقد مؤتمر مدريد. رضخت إسرائيل للضغط ووافقت هناك على مفاوضة بعثة أردنية، كان بعض أعضائها من الفلسطينيين. لم يرغب الأردنيون في الدخول في شؤون فلسطين، ولذلك حوّلوا الأعضاء الفلسطينيين من الناحية العملية إلى بعثة فلسطينية مستقلة. لم يُسمح لفيصل الحسيني، رئيس البعثة الرسمي، بالدخول إلى غرفة المداولات، لأنه كان قدسيا ولذلك كان أعضاء البعثة الفلسطينيون يخرجون من الغرفة بين حين وآخر لتلقي الاستشارة منه، وكانوا يعلنون في نهاية كل يوم أن عليهم الاتصال بتونس لتلقي تعليمات ياسر عرفات.

"يبدو لي الأمر سخيفا،" قال لي رابين بأسلوبه المباشر والمستقيم، "إذا كان كل شيء متعلق بعرفات، فلماذا لا نتحدث معه مباشرة؟"

هذه كانت خلفية أوسلو.

حين بلغ رابين سن 71 سنة، التقى بياسر عرفات. كنت قد أبلغته قبل ذلك عدة مرات برسائل من قبل عرفات، الذي كان في نظر رابين حتى ذلك الوقت إرهابيا وعدوا. الآن، وبعد حياة طويلة كرسها كلها لمقاتلة الفلسطينيين، أدرك أنه بهدف التوصل إلى الراحة والسكينة، يتوجب على إسرائيل صنع السلام مع الشعب الفلسطيني.

بدأت العلاقات بين رابين وعرفات، وهما شخصان يختلف أحدهما عن الآخر اختلافا جوهريا، بانعدام ثقة متبادل ثم تطورت بالتدريج إلى علاقات من الثقة، وحتى الصداقة. لقد احترم رابين الرجل الذي قاد شعبه من الحضيض الأسفل إلى حافة الاستقلال، وكان عرفات يحترم رابين بسبب استقامته.

في العاشر من سبتمبر 1993 (الذي صادف عيد ميلادي الـ70) اعترف رابين بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل الشعب الفلسطيني (الذي أنكرت جميع حكومات إسرائيل حتى ذلك الحين مجرد وجوده) واعترف ياسر عرفات بدولة إسرائيل. كانت هذه لحظة لا يمكن الرجوع فيها إلى الخلف، تحول تاريخي أحدث تحوّلا جذريا في وعي شعبي البلاد.

لماذا ارتطمت سفينة أوسلو بصخرة؟

أعتقد أن جزءا كبيرا من الذنب ملقى على عاتق رابين ذاته. لقد أراد بالفعل التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، ولكن لم يضع نصب عينيه مسارا واضحا إلى الهدف، ولا صورة واضحة عن الهدف ذاته. لقد كان التغيير حادا أكثر مما يجب. مثله مثل الدولة كلها، لم يتمكن رابين، بين ليلة وضحاها، من التحرر من الخوف المتراكم، من انعدام الثقة، من الآراء المسبقة والمعتقدات التافهة التي سادت خلال 120 سنة من النزاع.

لذلك لم يفعل شيئا واحدا كان بإمكانه أن يقود سفينة أوسلو إلى بر الأمان: أن يستغل اللحظة المواتية وأن يتوصل إلى سلام بعملية جريئة وسريعة. يبدو أنه لم يكن يعرف مقولة ديفيد لويد جورج المشهورة عن المفاوضات لتحرير إيرلندا: "لا يمكن تخطي الهاوية بقفزتين!"

لقد أثرت مزاياه الشخصية سلبيا على العملية. كان بطبيعته شخصا حذرا، بطيئا، تغيب عنه المشاهد الدراماتيكية (خلافا لمناحيم بيغين مثلا). لذلك لطخت اتفاقية أوسلو نقطة سوداء عرقلتها: لم يُذكر فيها ما هو الهدف النهائي. هناك كلمتان حاسمتان لم تدرجا فيها: الدولة الفلسطينية. لقد أدى هذا الإخفاق إلى انهيار الاتفاقية.

في الوقت الذي أهدر فيه الطرفان أشهر وسنوات في المساومة على كل عنصر وعنصر من "المراحل المؤقتة" اللا متناهية، تكتلت القوى المعادية للسلام من جديد في دولة إسرائيل، وعلى رأسها المستوطنون وأفراد اليمين المتطرف، الذين استقوا من ينابيع الكراهية والخوف، ومن تراث الحرب الطويل.

بمصطلحات عسكرية: كان رابين يشبه قائدا نجح في اختراق الجبهة – ولكن بدل أن يدفع بكل جيوشه إلى الفجوة التي أحدثها للتوصل إلى حسم، تردد وبقي قابعا في مكانه، مما جعل القوى المعادية تنتظم من جديد وتبني جبهة جديدة. أي: لقد هزم دعاة الحرب، ولكنه أتاح لهم إعادة التكتل من جديد والانتقال إلى هجمة مضادة.

لهذا السبب دفع حياته ثمنا.

اغتيال رابين غيّر تاريخ الدولة، كما أن اغتيال ولي العهد النمساوي في سراييفو عام 1914، غير تاريخ العالم. ليس رابين الذي اغتيل فحسب، بل إنجازاته أيضا.

يقولون أن هناك بديل كل إنسان، ولكن لم يُعثر على رابين آخر – لا مستقيم مثله ولا منطقي مثله.

لقد أعلن إيهود أولمرت هذا الأسبوع عن نفسه أنه مكمل طريق رابين، بينما هو عكس ذلك تماما: عكس الاستقامة، عكس الجرأة، عكس المنطق. (لم نذكر التربيت على الكتف والعناق.)

لقد أراد رابين حقا التقدم والتوصل إلى السلام. ببطء ومن خلال تقدم صعب، ولكن بإصرار وبمتابعة. أولمرت لا يحلم بذلك. إنه يريد "عملية سلام" لا نهاية لها - ثرثرة، لقاءات، مؤتمرات، من دون التزحزح من المكان، وفي هذا الأثناء يتواصل الاحتلال، ويزحف الضم وتتوسع المستوطنات، تُخنق الآمال واحتمالات الشعبين في الحياة.

مؤتمر أنابوليس هو أفضل مثال على هذه الاستراتيجية: تصريحات فارغة من المضمون، مؤتمر آخر من دون نتائج، مسرحية فارغة.

هناك من يقول أن المهم هو التحدث لأنه "حين يتحدثون لا يطلقون النار". هذا خطأ فظيع. في حالتنا نحن، العكس هو الصحيح: حين يتحدثون بهدف الثرثرة فقط وتغطية الاحتلال الآخذ بالتعمق، فإن اليأس يتزايد ويبدءون إطلاق النار مرة أخرى. فشل أنابوليس من شأنه أن يطلق إشارة البدء للانتفاضة الثالثة.