|
||
جلست في منزلي أمام بحر تل أبيب، وانغمست في حديث مع صديق لي، حين سُمعت فجأة صفارة إنذار. صفارة الإنذار مخيفة دائما، ولكن صفارة الإنذار في يوم الغفران كانت صوتا من عالم آخر. ناهيك أنها انطلقت في يوم يسوده الصمت التام، يوم لا تسير فيه أي سيارة على طرقات إسرائيل. بدأت في الخارج حركة غريبة، سيارات عسكرية تمر كلمح البصر، أشخاص يرتدون الزي العسكري خرجوا من منازلهم والحقائب على أكتافهم، طائرات كانت تُسمع في الفضاء. أسرعنا وفتحنا الراديو، الذي يتم إسكاته في يوم الغفران. وقد أبلغ الجهاز أن حربا قد بدأت. لم أكن مجندا، ولكني رأيت الحرب، في الأيام التالية، من عدة زوايا. كنت آنذاك عضو كنيست ومحرر أسبوعية "هعولام هازيه"، ولكن الكنيست كانت في إجازة (كان ذلك في خضم فترة الانتخابات) كما أن هيئة التحرير كانت شبه متوقفة عن العمل، لأن معظم أعضائها قد تمت دعوتهم إلى الخدمة العسكرية. رامي هلبرين، مصور شاب، كان قد تم تسريحه لتوه من الجيش وتم قبوله للعمل لدينا، لم ينتظر الأمر، فأسرع إلى وحدته السابقة، وشارك في المعركة على "المزرعة الصينية" وقُتل. سألني أحد كبار عاملي التلفزيون الألماني الذي حضر إلى البلاد، كيف يمكن تصوير الحرب. وخلال ذلك حضرته فكرة إنتاج فيلم يتناولني وأنا أغطي الحرب إعلاميا. هكذا رأيت كل الجبهات. بحثنا عن أريئيل شارون في الجبهة الجنوبية وسافرنا متعقبين أثره باتجاه قنال السويس. قبل بضع كيلومترات من القنال، تعرضنا لقصف مصري شديد. وبقينا في اختناق مروري كبير حيث فصيلة كاملة بمدافعها، مجنزراتها، دباباتها، سيارات الإسعاف فيها وغير ذلك، كانت تتحرك باتجاه القنال. في الطريق دخلنا إلى مستشفى ميداني، كان يعمل فيه الطبيب العسكري إفرايم سنيه. بعد ذلك أسرعنا إلى الجبهة الشمالية. تنقلنا بين الدبابات المحروقة، دباباتهم ودباباتنا، ووصلنا إلى قرية سورية تبعد بضع كيلومترات عن دمشق. لا أعرف لماذا أتذكر أنه جرى بيني وبين ولد صغير حديث عن القطط. بين هذا وذاك، زرنا مخيما للاجئين بجوار نابلس وزرنا أيضا القدس القديمة. من بين كل الحوانيت والمقاهي، علا صوت أنور السادات، الذي شرح هدف حربه. لقد فوجئ أعضاء الطاقم الألماني. تذكروا حكايات الحرب العالمية الثانية، ولم يخطر ببالهم أنه من الممكن السماح لسكان تم احتلال أرضهم بالاستماع إلى راديو العدو بشكل حر. لكن الحدث الذي انخرط في ذاكرتي – وفي ذاكرة أغلبية الإسرائيليين الذين عاشوا تلك الفترة – لم يكن حدثا في الجبهة. جلسنا في منزل أحد الجيران وشاهدنا التلفزيون, وظهرت على الشاشة صورة: عشرات الجنود الإسرائيليين يركعون على الأرض، أيديهم على رؤوسهم المهانة، وفوق رؤوسهم جنود سوريون أشداء. نحن لم نر ذات مرة جنودنا في مثل هذا الوضع: متسخين، غير حليقي الذقون، منقبضين ومرتعدين، بؤساء كما يمكن لأسرى الحرب أن يكونوا. ساد السكون في الغرفة. في تلك اللحظة تم القضاء على أسطورة السوبرمان الإسرائيلي، الجندي الإسرائيلي غير المهزوم - أسطورة سيطرت على حياتنا لجيل كامل. كانت هذه الأسطورة هي الضحية الحقيقية لحرب تشرين. صحيح أن الجيش الإسرائيلي قد اثبت نفسه في الحرب. وقد قلب الأمور رأسا على عقب خلال أسابيع الحرب الثلاثة وحول الهزيمة إلى نصر. في بداية الحرب قال موشيه ديان "خراب الهيكل الثالث". في نهاية الحرب كان الجيش الإسرائيلي يهدد القاهرة ودمشق. غير أن أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر قد تحطمت. صور الأسرى الذين لا حول لهم ولا قوة والمهانين جد إهانة ترفض أن تُمحى من الذاكرة. بعد ذلك جاءت معارك الجنرالات، التي نشبت فور نهاية الحرب. هذه المعارك دمرت سمعة الجنرالات، الذين كانوا حتى ذلك الوقت معبودي الجماهير. هذه الصورة لم تعد إلى سابق عهدها. (ولكن خلافا لما توقعه الكثيرون، لم يقل تأثير الجيش على سياسات دولة إسرائيل). التصدع النفسي أدى إلى تصدع سياسي. جيل غولدا مئير أخلى مكانه ليحل محله جيل إسحق رابين. وبعد ثلاث سنوات ونصف، حدث ما لا يمكن تصديقه: مناحيم بيغين المعارض الأبدي، وصل إلى السلطة. أهم ما أنجزه مناحيم بيغين هو السلام مع مصر، كان نتيجة لحرب تشرين. عبور القنال والقضاء على "خط بار-ليف" لقد أعادا إلى المصريين الاعتزاز بالنفس، وهذا مكنهم من صنع السلام. كنت أحد الإسرائيليين الخمسة الأوائل الذين وصلوا إلى مصر بعد زيارة السادات إلى القدس، وأنا أتذكر مئات لافتات القماش التي كانت ممدودة فوق شوارع القاهرة "السادات - بطل الحرب وبطل السلام"!. كثيرون في إسرائيل يتذكرون هم أيضا بيغين كبطل السلام. فهو أول سياسي إسرائيلي صنع السلام مع دولة عربية – وليست أية دولة، بل أهم دولة عربية. رغم كل ما حدث منذ ذلك الحين، ما زال هذا السلام قائما حتى اليوم. يوجد اليوم من يلوم بشار الأسد والملك عبد الله لماذا لا يتصرفان مثل السادات؟ لماذا لا يجرؤان على القدوم إلى القدس؟ يرتكز هذا الادعاء على عدم فهم للظروف. لم يأت السادات هكذا، كما كان يروي هو ذاته في العديد من الأحيان (وفي حديث معي أيضا): لقد عاد من زيارة إلى أوروبا، وعندها، كما يروي، حين كان في الطائرة فوق جبل أرارات، خطرت له فكرة القيام بعمل لم يسبق له مثيل في التاريخ: أن يزور عاصمة العدو وأن يقترح عليه السلام. الحقيقة هي أنه قد سبقت ذلك مفاوضات سرية بين مبعوثين من قبل السادات وبيغين في المغرب. بعد أن وعده موشيه ديان، باسم بيغين، أنه مستعد لإرجاع كل الأراضي المصرية المحتلة، قرر السادات ما قرره. أين هو الزعيم الإسرائيلي المستعد اليوم أن يعد الأسد بإرجاع الجولان كله، أو أن يعد أبا مازن بالعودة إلى الخط الأخضر؟ كيف حدث أن قرر بيغين أن يرجع للمصريين "أراضي الوطن؟" الأمر بسيط: هو لم يعتبرها أراضي الوطن. لقد رأت عينا بيغين خارطة واضحة تماما لأرض إسرائيل. لقد ورثها عن معلمه زئيف جبوطنسكي: خارطة أرض إسرائيل في بداية عهد الانتداب البريطاني، من كلتا ضفتي نهر الأردن. لقد تغيرت حدود البلاد مئات المرات على مر التاريخ. كانت هناك الحدود الموعودة، من النيل إلى الفرات. كانت حدود "مملكة داوود" (التي لم تكن قائمة ذات مرة)، والتي وصلت إلى حماه في سوريا. كانت هناك حدود القطاع اليهودي الصغير في فترة عزرا ونحميا. كانت هناك حدود "فلسطين" الرومانية، التي كانت تتغير بين الحين والآخر. كانت هناك حدود "جند (حكم عسكري) فلسطين" للمحتلين المسلمين. وحدود كثيرة أخرى. مثلها مثل كل الحدود السابقة، تم تحديد الحدود الانتدابية بالصدفة. تم تحديد الحدود الجنوبية قبل الحرب العالمية الأولى بواسطة اتفاقية بين البريطانيين (الذين حكموا مصر) والأتراك (الذين حكموا البلاد). أما في الشمال فقد تم تحديد الحدود (بعد الحرب ذاتها) بين الحكم الاستعماري البريطاني (في البلاد) والحكم الاستعماري الفرنسي (في سوريا). وقد تمت حياكة كمّ طويل جدا عبر الأردن يصل إلى العراق، وذلك لإتاحة تدفق النفط من الموصل (التي كانت بريطانية في ذلك الحين) إلى حيفا. هذه الخارطة التي هي محض صدفة، هي التي تم تبنيها من قبل جبوطنسكي، الذي انشد: "ضفتان للأردن / هذه لنا، وتلك أيضا". لقد ظهرت في شعار الإتسل وفي رأس صحيفة الحزب التعديلي. كان استنتاج بيغين: شبه جزيرة سيناء غير تابعة لأرض إسرائيل ومن الممكن التخلي عنها من دون تأنيب الضمير. كان الهدف إخراج مصر من الحرب من أجل هدفه الواحد والوحيد: أرض إسرائيل. لم تكن لدى بيغين أية مشكلة أيضا في التخلي عن هضبة الجولان، التي ليست تابعة لأرض إسرائيل حسب هذه الخارطة. ولكنه سقط آنذاك في شباك اريئيل شارون. فقد أغراه الأخير باجتياح لبنان، للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، وأخفى عنه الهدف الآخر: ضرب السوريين ضربة موجعة. (وكما هو معلوم، لم يتم التوصل إلى أي من الهدفين). في هذه الأثناء نشأ جيل جديد، لا يعرف جبوطنسكي وخارطته. لقد تم رسم خارطة جديدة في وعي اليمين الإسرائيلي: تم إخراج عبر الأردن منها، وضم هضبة الجولان إليها، ولكن الضفة الغربية في مركزها، كما كان الأمر منذ الأزل. قبل حرب حزيران، قال لي المؤرخ البريطاني الذي أرخ فترة الصليبيين، ستيفان رانسيمان، " توجد لديكم مفارقة، فإسرائيل تسيطر على بلاد كانت تابعة للفلسطينيين، والفلسطينيون، (الذين يسمون على اسم الفلسطينيين التوراتيين)، يسكنون أرضا كان يحكمها بنو إسرائيل". لقد نشأت الحدود بين إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة خلال حرب عام 1948. منذ ذلك الوقت، تعمل دولة إسرائيل على التخلص من هذه المفارقة. كل ما يحدث في أيامنا هذه ينبع من محاولة السيطرة على الضفة الغربية وتحويلها إلى جزء من دولة إسرائيل. كل ما تبقى هو بمثابة زبد يعلو الماء. لقد جاءت كوندوليسا رايس الحمقاء وذهبت. يحاول إيهود أولمرت صياغة مستند فارغ من المضمون لكي يخلق وهما وكأن هناك تقدم باتجاه إقامة الدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل. طائرات إسرائيل تقصف أراض سورية بهدف القضاء على تهديدات سلاح "الدمار الشامل". إسرائيل تنوي أو لا تنوي قصف المواقع النووية في إيران. الرئيس بوش ينوي عقد "لقاء دولي" في موعد معروف، لهدف غير معروف. كل هذه الأمور هو واقع وهمي. الواقع الحقيقي يدور على الأرض، يوميا، ساعة تلو الأخرى: الاجتياحات الليلية لمدن الضفة، البناء السريع في المستوطنات، توسيع شبكة الطرقات "للإسرائيليين فقط"، خمسمائة حاجز بين مدن الضفة وقراها، زيادة حدة ظروف العيش في جيتوهات الفلسطينيين في الضفة الغربية، تحول الحياة في غزة إلى جحيم. هذه هي الحرب الحقيقية: الحرب من أجل "أرض إسرائيل الكبرى" - التي ربما اختفت من الحوار العام، ولكنها منتشرة على أرض الواقع بكل قوتها، بعيدا عن أعين الإسرائيليين الذين يتواجدون على بعد 20 دقيقة سفر من هناك. الفلسطينيون يقاتلون فيها بقواهم المحدودة، ولكن بإصرار هائل. إذا لم يتم التوصل إلى تسوية تاريخية بين الشعبين، فستتواصل هذه الحرب إلى أجيال طويلة. الولد الذي يولد اليوم سيتم تجنيده بعد 18 سنة إلى هذه الحرب، كالأولاد الذين ولدوا قبل 18 سنة وآبائهم، مثلهم مثل من سبقهم، سيدفنونهم. ما كانت حرب تشرين سوى حلقة صغيرة في هذه الحرب. يبدو لأول وهلة أنها قد دارت في الشمال وفي الجنوب فقط، ضد السوريين وضد المصريين. الفلسطينيون لم يكن لهم شأن بها. ولكن كل الأطراف يعلمون أن هذا كله هو جزء من الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. |