|
||
جورج بوش، الذي ترعرع في طفولته على هذه الأسطورة، ما زال متشبثا بها حتى بعد أن تحول إلى زعيم أهم قوة عظمى في العالم. لقد عرض هذا الأسبوع على العالم سيناريو لفيلم سينمائي غربي معاصر. في هذا الفيلم السينمائي الغربي – أو الشرقي – هناك الطيبون وهناك الأشرار. الطيبون هم "المعتدلون، وهم كل حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط – إسرائيل، أبو مازن وزعماء الدول العربية الموالية لأمريكا. الأشرار هم حماس، حزب الله، إيران، سوريا وتنظيم القاعدة. هذا سيناريو مجرّد وبسيط إلى حد يتمكن فيه طفل يبلغ الثامنة من العمر من أن يفهمه. والاستنتاجات هي أيضا بسيطة ومجرّدة: يجب دعم الطيبين والفتك بالأشرار. في النهاية، سيمتطي البطل - جورج ذاته - صهوة فرسه لينطلق باتجاه الشمس المائلة إلى المغيب، ولتصل الموسيقى التصويرية إلى ذروتها. لا يصف الفيلم الغربي الكلاسيكي، بطبيعة الحال، كيف يستلب المستوطنون الأبطال الأرض من الهنود الحمر، وكيف أن كتائب فرسان الولايات المتحدة تنقض على بلدات الهنود الحمر، تحرق الخيام وتذبح ساكنيها من الرجال والنساء والأطفال. وكيف تخرق الحكومة الأمريكية، بعد أن كانت قد وقعت على معاهدات رسمية مع زعماء الشعوب الهندية، تخرق المعاهدة تلو الأخرى، وكيف تطرد فلول الهنود الحمر إلى أماكن قفراء، في حملة متواصلة، قبل وقت طويل من وضع مصطلح "التطهير العرقي". الإنكار هو الشعرة الدقيقة التي تمر في كل فيلم غربي كلاسيكي، وكذلك في خطاب بوش. إنه يتجسد في حقيقة بسيطة: إنه لا ينطوي على أي ذكر للاحتلال. هناك صراع، بين أوساط الفلسطينيين على سبيل المثال، بين "المعتدلين" و"المتطرفين". المتطرفون هم قتلة. لماذا يقتلون؟ لا يوجد سبب لذلك. إنهم يقتلون لمجرد كونهم قتلة. هذه هي طبيعتهم. هكذا وُلدوا. وأما "المعتدلون" فهم معتدلين لأنهم معتدلون. هم طيبون منذ ولادتهم. لهذا السبب فإن المشكلة هي مشكلة الفلسطينيين فقط. عليهم أن يقرروا. عليهم الاختيار بين المعتدلين والمتطرفين. إذا اختاروا المعتدلين، فسينتظرهم كل ما هو جيد. سوف يحصلون على الخرز الملون وزجاجات الويسكي. وأما إذا اختاروا المتطرفين، فستكون نهايتهم سيئة ومريرة. نحن، الإسرائيليون اليهود، لسنا بحاجة إلى الاختيار بين الطيب والشرير. الأمر بسيط، فليس لدينا من هو شرير، ونحن كلنا طيبون. ما علينا سوى مساعدة الفلسطينيين الطيبين. أن "نحرر" أموال الضرائب الفلسطينية، وأن ندفعها إلى رئيس الحكومة فياض. ليس للشعب الفلسطيني، ولا للحكومة الفلسطينية، بل لشخص محدد ووحيد، المحبب الشخصي إلى قلب بوش. ماذا يُطلب من إسرائيل أيضا؟ عليها أن تطور الجليل والنقب، بدل "الاحتلال المتواصل للضفة الغربية" (وهذا المكان الوحيد في الخطاب الذي يوجد فيه أي ذكر لكلمة الاحتلال). من المفضل أن تفكك البؤر الاستيطانية غير المصادق عليها، ويُفضل أيضا أن توقف توسيع المستوطنات. من المفضل أيضا أن "يجد الإسرائيليون طرقا أخرى لطمس آثار أقدامهم (في الضفة الغربية) من دون المس بأمنهم". أي بما معناه أنه يمكن للاحتلال أن يستمر ولكن يُفضل أن تخطو إسرائيل بضع خطوات قصيرة لكي تصبح أقل وضوحا للعيان. لقد أقرت الولايات المتحدة، في حينه، أن جميع المستوطنات غير قانونية. حين تابعت إسرائيل توسيعها، فرض عليها جيمس بيكر، وزير خارجية بابا بوش، عقوبات مالية. لقد طالب بوش الابن، في بداية الأمر، تفكيك كل المستوطنات التي أقيمت منذ عام 2001 وما بعده. بعد ذلك اعترف بوش بالكتل الاستيطانية ("التجمعات السكانية"). أما في "خارطة الطريق" فقد أقر أن على إسرائيل أن تجمّد توسيع المستوطنات فورا. ها هو الآن يكتفي بطلب زائف لإبعاد "نقاط استيطانية غير مصادق عليها" (من دون أل التعريف) - أي كتلك التي لم تسمح حكومة إسرائيل ذاتها بإقامتها. كل ذلك من دون كلمة "وإلا" ومن دون أي عقوبات. في هذه الأثناء تم تفكيك بؤرة استيطانية واحدة كهذه فقط، وهي عاموناه. وقد قرر أولمرت هذا الأسبوع أن يعفو عن البلطجيين الذين هاجموا الشرطة في حينه. لا حديث عن تفكيك أية بؤر استيطانية أخرى. إن حكومة إسرائيل تعرف حق المعرفة أن كلمات بوش عن هذا الموضوع هي ضريبة كلامية، ولذلك لا تتطرق إليها بجدية. يظهر في بعض الأفلام الغربية الكلاسيكية وغد، يبيع دواء سحريا واحدا لكل المرضى: مرضى الصداع والبواسير، مرضى السّل والزهري (السيفلس). إن لدى جورج بوش أيضا دواء سحري جديد، يكرره في الخطاب المرة تلو الأخرى. إنه سيشفي كل الأمراض ويضمن النصر النهائي لأبناء النور (أبناء إسرائيل) على أبناء الظلام. كُتب على الزجاجة: "إقامة مؤسسات فلسطينية". كيف حدث أنه لم يفكر في ذلك حتى اليوم؟ كيف ضللتنا الحلول على أنواعها، ولم نر هذا الحل الواحد والوحيد البسيط إلى هذا الحد، والموجود تحت أنوفنا مباشرة؟ هذه هي بيضة كولومبوس، هذه هي ضربة سيف إسكندر المقدوني التي مزّقت عقدة غورديوس. لا توجد لدى الفلسطينيين مؤسسات. الشخصيتان الطيبتان، "الرئيس عباس ورئيس الحكومة فياض... يناضلان من أجل بناء مؤسسات ديموقراطية معاصرة." أي: "أجهزة أمنية... وزراء خالين من الفساد... وسائل لإطلاق المبادرة الطبيعية للشعب الفلسطيني... سلطة القانون..." كل ذلك تحت الاحتلال، خلف الحواجز، الجدران والأسوار، في حين أن الطرقات الرئيسية ممنوعة أمام الفلسطينيين، وفي حين تم بتر الضفة الغربية وعزلها عن العالم أجمع. على فكرة، يوجد لدى بوش دواء آخر لهذا الأمر: سيكون التصدير الفلسطيني في المستقبل عن طريق مصر والأردن فقط، ومن خلال فصله التام عن إسرائيل. بهدف تحقيق رؤيا "بناء المؤسسات الفلسطينية"، أرسل بوش كلب البودل خاصته. حسب رأي بوش، فإن المهمة الوحيدة لجولة بلير هي ما يلي: مساعدة الفلسطينيين على بناء المؤسسات الديموقراطية. (مثل من؟ مصر؟ السعودية؟ الأردن؟ باكستان؟ المغرب؟) صه من أن نذكر أنه منذ فترة وجيزة فقط أجرى الفلسطينيون انتخابات ديموقراطية لبرلمانهم، بمراقة الرئيس الأسبق جيمي كارتر. من ناحية بوش فإن هذا الأمر لم يحدث قط، لأن الشعب الفلسطيني قد منح الأغلبية لحركة حماس. لذلك يعود بوش ويستذكر المعركة الانتخابية السابقة: تلك التي انتخب فيها أبو مازن رئيسا. أما البقية - "بوك". إذن هذه هي النبوءة المستجدة: بعد أن تصبح "المؤسسات الفلسطينية الديموقراطية" حصنا منيعا، وبعد أن تصبح نقية من الفساد بالطبع (كما هي الحال في الولايات المتحدة وإسرائيل) وبعد أن تؤدي "أجهزة أمنية لها قدرتها" مهامها بشكل لائق، وبعد القضاء على حماس، وبعد تفكيك كل التنظيمات المسلحة، وبعد وقف العمليات الانتحارية نهائيا وضمان أمن إسرائيل، وبعد وقف التحريض ضد إسرائيل، وبعد أن يعترف الجميع بحق إسرائيل في الوجود وبالمعاهدات التي تم إبرامها في الماضي- عندها فقط "سنتمكن قريبا من الشروع بمفاوضات جدية استعدادا لخلق دولة فلسطينية". يا لها من كلمات رائعة: "قريبا" – من دون تحديد الوقت. "مفاوضات جدية" – من دون تحديد موعد لإنهائها. "استعدادا" خلق دولة- توجه عام ومموّه. "دولة فلسطينية" (مرة أخرى من دون أل التعريف التي يكرهها بوش) – من دون ذكر الحدود. ولكنه قدم رمزا: "حدود تجسد الخطوط التي كانت قائمة في الماضي والواقع الحاضر، مع ملاءمات يتم الاتفاق عليها بشكل متبادل". أي بما معناه: سيتم ضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل. يبدو أنه بعد أن انتهى كاتبو الخطاب من كتابته، اتضح لهم أنه تعيس. ليس فيه أي شيء جديد، أي شيء يجعل صحيفة تحترم نفسها تخصص له عنوان فيها. أتخيل أن المستشار الإعلامي قد قال: "سيدي الرئيس، علينا أن نضيف شيئا يبدو جديدا. " وهكذا نشأت فكرة "اللقاء الدولي". "لذلك سأدعو في فصل الخريف إلى لقاء دولي لممثلي الدول الداعمة لحل الدولتين، التي ترفض العنف وتعترف بحق إسرائيل بالوجود وتلتزم بكل المعاهدات المبرمة بين الطرفين. ستكون المشاركون الرئيسيون في اللقاء هم الإسرائيليون، الفلسطينيون وجيرانهم في المنطقة. ستترأس الاجتماع وزيرة الخارجية رايس". هذا رائع. مؤتمر لم يُحدد تاريخ انعقاده، ولكنه قد تم تحديد الفصل من السنة. لم يتم تحديد مكان له بعد. ولم يتم وضع قائمة بالمشاركين فيه. ولم يتم تحديد هدفه بعد. اللهم فيما عدا القول العام: "إنها (كوندوليسا) وزملاءها سيبحثون أمر التقدم الذي تم إحرازه لبناء المؤسسات الفلسطينية. سوف يبحثون عن طرق إبداعية وعملية لدعم إصلاحات إضافية، وسيوفرون دعما دبلوماسيا للأطراف أثناء محادثاتهم الثنائية، بحيث يتمكنوا من التقدم على طريق ناجعة إلى دولة فلسطينية". ليس من وظيفة المؤتمر أن يفحص مدى تقدم إسرائيل في تفكيك البؤر الاستيطانية مثلا. لم يكن مجرد صدفة أن بوش لم يذكر الدول التي ينوي دعوتها، وكان من الواضح أنه سيحاول تلبية إحدى أماني أولمرت الساخنة: لقاء علني بممثل سعودي. هذا سيكون بالنسبة لأولمرت إنجازا ضخما: لقاء رسمي بأهم دولة عربية لا تربطها معاهدة سلام بإسرائيل. لقاء لن يُضطر أن يدفع مقابله أي ثمن. وجبة مجانية. أشك في أن تتحقق هذه الأمنية. السعوديون حذرون جدا. إنهم لا يرغبون بالشجار مع أية جهة في الشرق الأوسط – لا مع سوريا (التي لن تتم دعوتها، رغم أنه "جارة" الإسرائيليين والفلسطينيين) ولا مع حماس. خلافا لمصر، الأردن والسلطة الفلسطينية، فمن غير الممكن رشوة المملكة العربية السعودية بالمال. إن لديها ما يكفيها. الهدف النهائي وكأنه "دولة فلسطينية" "رؤيا الدولتين". هذا هدف بعيد المنال جدا. لم يكن هباء أن سموا هذه الرؤيا "أفقا سياسيا"، فالأفق كما هو معروف يبتعد كلما حاولنا الوصول إليه. يصف روديارد كيبلينغ في أغنيته "إذا" كل الاختبارات التي يتوجب على الإنجليزي اجتيازها ليتم اعتباره رجلا حقيقيا. من بين هذه الأمور: "إذا استطعت تحمل الحقيقة التي تفوهت بها / محرّفة من قبل الأوغاد كمصيدة للحمقى..." نحن، الذين رفعنا في إسرائيل راية "حل الدولتين قبل أكثر من خمسين عاما، نحتاج الآن إلى تحمل تحويل جورج بوش لهذه الراية إلى خرقة يستر بها عوراته. حسب رأي بوش فإن هذا شعار فارغ من المضمون، واهن وكاذب. إن من يؤمن بكل شيء سيسقط في المصيدة. وكما قال حاييم وايزمن، الزعيم الصهيونية المعروف الذي تحول إلى أول رئيس لدولة إسرائيل: "ليست هناك دولة تُعطى لشعب على طبق من فضة." الفلسطينيون أيضا لن يحصلوا على دولتهم من دون نضال، ليس كبقشيش من بوش ولا كهدية من أولمرت. إن الشعوب تحقق حريتها بالنضال، السياسي أو العسكري. إن أي نضال، عنيف أو غير عنيف، هو مسألة قوة. ومعنى القوة الرئيسي هو: الوحدة. |