اوري افنيري 

القصة الغرامية الإسرائيلية / أوري أفنيري


منذ قيامة يسوع الناصري لم تحدث أعجوبة كهذه: جثة تم دفنها في مغارة قد بُعثت من جديد.

"الخيار الأردني" الذي كانت قد وافته المنية قبل حوالي عشرين سنة، والذي لم يكن قبل ذلك أيضا معافى إلى حد كبير، ولكن بعد نشوب الانتفاضة الأولى كان قد تم دفنه رسميا، من قبل جلالة الملك بنفسه. لقد أعلن الملك حسين أنه يتخلى عن أية علاقة بالضفة الغربية.

لقد كان ذلك الدفن دفن حمار، حتى أنه لم يتم تشييعه بشكل لائق. شمعون بيرس، أحد واضعيه، قد تظاهر وكأنه لا يعرفه أبدا. اسحق رابين أدار له ظهره. الخيار الأردني من التراب جاء، وإلى التراب عاد.

والآن، على حين غرّة، وكأنه يُبعث إلى الحياة من جديد. ثلاثة محللين من السابلة يدّعون أنهم رأوه بأم أعينهم. ليس في قرية عمواس، حيث التقى تلاميذ المسيح بسيدهم الذي قام من بين الأموات، بل في واشنطن، عاصمة العالم.

القصة الغرامية الإسرائيلية مع السلالة الهاشمية قد بدأت منذ ثلاثة أجيال.

في الحرب العالمية الثانية، انتفضت العراق ضد المملكة الهاشمية التي فرضها عليها البريطانيون، في حين أسكنوا فرعا آخر من العائلة عبر الأردن. هرب الملك العراقي وحاشيته إلى فلسطين، حيث استُقبلوا هنا بحفاوة من قبل المؤسسات الصهيونية، التي وضعت تحت تصرفهم محطة إذاعة على قمة الكرمل. لقد روى لي ذلك، بعد انقضاء زمن طويل، أحد المسؤولين عن هذه العملية، إلياهو ساسون.

قام الجيش البريطاني بإعادة الهاشميين إلى بغداد باحترام ووقار. غير أن ساسون أضاف قائلا، أنه لمزيد الأسف، فقد ردوا إلينا الخير بالشر: فور عودتهم اتخذوا موقفا متطرفا معاديا للصهيونية. على فكرة، منظمة الجيش الوطني ("الإتسل") تعاونت في حينه مع البريطانيين، وقد قُتل قائدها، دافيد رزيئيل، في العراق في إطار هذه العملية العسكرية.

عصام سرطاوي، من زعماء منظمة التحرير الفلسطينية ولاجئ من عكا ترعرع في العراق، يدّعي أنه فور عودة الهاشميين إلى بغداد، نظم البريطانيون من أجلهم مجزرة كبيرة ضد اليهود، لمنح العائدين قدرا من الشعبية القومية. ما زالت المستندات المتعلقة بهذه المجزرة محفوظة حتى اليوم كسر دفين في أرشيفات لندن.

غير أن العلاقة بالهاشميين قد استمرت. عشية حرب عام 1948، أنشأت الزعامة الصهيونية علاقة وثيقة مع عبد الله. وقد حاك الملك وغولدا ميئير مكائد مختلفة، ولكن عندما حان الأوان، لم يجرؤ الملك على الانسحاب من الإجماع العربي واجتاح البلاد هو أيضا. هناك من يدعي أن الأمر قد تم بالتنسيق مع دافيد بن غوريون. وبالفعل، فقد امتنع "جيش الدفاع الإسرائيلي" الجديد عن مهاجمة القوات الأردنية (فيما عدا في منطقة اللطرون، وذلك لفتح الطريق إلى القدس الغربية المحاصرة).

لقد أثمر التعاون بين الملك عبد الله وبن غوريون الثمار المنشودة: تم تقسيم المنطقة التي خصصتها الأمم المتحدة للدولة العربية الفلسطينية بين إسرائيل والأردن (وقد تم تسليم قطاع غزة إلى مصر). لم تقم الدولة الفلسطينية، وقد انتعش التعاون الإسرائيلي-الأردني. لقد استمر بعد قتل الملك عبد الله أيضا في قبة الصخرة، وقد حل محله حفيده الفتى حسين.

في تلك الأيام، ازداد شأن الوطنية العربية الكبرى، وكان داعيتها، جمال عبد الناصر، قد تحول إلى معبود العالم العربي والشعب الفلسطيني أيضا، الذي بقي من دون هوية سياسية وبحث عن خلاصه في الهوية العربية الكبرى. كان هناك خطر بسقوط الملك الأردني في أية لحظة، كما حدث لابن عمه في العراق، ولكن إسرائيل قد أعلنت أنه في مثل هذه الحال، سيجتاح الجيش الإسرائيلي الأردن. واصل الملك الأردني الجلوس على رؤوس الحربات الإسرائيلية.

لقد وصلت الأمور إلى ذروتها في أيلول الأسود، حين قمع الملك حسين قوات منظمة التحرير الفلسطينية بالدم والنار. هُرع السوريون إلى نجدتهم. بالتنسيق مع هنري كيسنجر، قدمت غولدا مئير تحذيرا: إذا لم ينسحب السوريون من الأردن فورا، فسيدخل الجيش الإسرائيلي إلى هناك. تنازل السوريون ونجى الملك. انتقلت قوات منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان.

في ذروة الأزمة، دعوت أنا حكومة إسرائيل، من على منصة الكنيست، إلى اتخاذ خط معاكس: تمكين الفلسطينيين في الضفة الغربية من التحرر من السلطة الهاشمية وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. بعد بضع سنوات، روى لي أريئيل شارون أنه كان قد اقترح في ذلك الوقت الأمر ذاته في النقاشات السرية التي أجريت في قيادة الأركان. (في وقت لاحق، طلب مني شارون أن أرتب له لقاء مع عرفات، لكي يقترح عليه برنامجه: مساعدته على إسقاط النظام الهاشمي وتحويل الأردن إلى دولة فلسطينية، عوضا عن الضفة الغربية. رفض عرفات لقاء شارون وكشف أمر الاقتراح للملك.).

"الخيار الأردني" كان أكثر من "فكرة" سياسية – لقد كان بمثابة قصة غرامية، لقد سقط في شباكها، طيلة عشرات السنين، جميع زعماء إسرائيل تقريبا، ابتداء من حاييم وايزمان وحتى بن غورون، من غولدا وحتى بيرس.

ما الذي تمتعت به العائلة الهاشمية وقد سحر المؤسسة الصهيونية والإسرائيلية؟

لقد سمعت، على مر السنين، الكثير من الادعاءات، التي كانت تبدو وكأنها عقلانية. ولكني على قناعة تامة من أن السبب الحقيقي لم يكن منطقيا أبدا. الميزة الوحيدة، الهائلة، التي تمتعت بها العائلة الحاكمة الهاشمية، وبقيت لديها، هي بسيطة للغاية: إنها ليست فلسطينية.

منذ يومها الأول، تنادي الحركة الصهيونية بإنكار تام للقضية الفلسطينية. طالما كان الأمر ممكنا، كانت تنكر وجود الشعب الفلسطيني. منذ أن تحول هذا الأمر إلى أمر مضحك، أصبحت تنكر وجود أي شريك فلسطيني للسلام. في أي حال من الأحوال، إنها تنكر إمكانية إقامة دولة فلسطينية قابلة للبقاء إلى جانب دولة إسرائيل.

لهذا الإنكار جذور عميقة في عقل الحركة الصهيونية الإسرائيلية الباطني. لقد تطلعت الصهيونية إلى إقامة بيت وطني يهودي في البلاد، التي كان يعيش فيها شعب آخر. ولأن الصهيونية كانت حركة أيديولوجية، تتمتع بإحساس أخلاقي جدا، لم تتمكن من التفكير بأنها تلحق بشعب آخر ظلما تاريخيا. لهذا السبب، كان من الواجب إبعاد الإحساس بالذنب وإنكاره.

لقد تعمق الإحساس اللا واعي بالذنب في أعقاب حرب عام 1948، التي أبعد فيها أكثر من نصف الشعب الفلسطيني عن أرضه. لقد خلقت فكرة إعطاء الضفة الغربية للمملكة الهاشمية وهما بأنه لا يوجد أي شعب فلسطيني ("كلهم عرب") ولذلك فليس من ظلم قد حلّ به.

"الخيار الأردني" هو كلمة مشفرة، واسمه الحقيقي هو "الخيار اللا فلسطيني". هذا هو كل جوهره. كل ما تبقى ليس مهما.

ربما تشرح ذلك الحقيقة الغريبة أنه منذ حرب الأيام الستة، لم تجر أية محاولة لتحقيق هذا "الخيار". كهنة "الخيار الأردني" الكبار الذين نادوا به من على كل تلة ومن تحت كل أكمة، لم يحركوا ساكنا من أجل تحقيقه. على العكس، فقط عملوا جاهدين على منع ذلك.

على سبيل المثال، في فترة ولاية إسحق رابين الأولى، بعد حرب عام 1973، طرح هنري كسنجر فكرة فذّة: إرجاع أريحا إلى الملك حسين فورا. بهذا الشكل يكون قد نشأ أمر واقع: وجود واضح للمملكة الهاشمية في الضفة الغربية.

حين أطلع وزير الخارجية يغئال آلون رابين على الاقتراح، لقي رفضا قاطعا. لقد وعدت غولدا مئير، في حينه، بإجراء انتخابات قبل إرجاع أية منطقة محتلة إلى العرب. "لن أذهب إلى الانتخابات بسبب أريحا"، قال رابين.

الأمر ذاته حدث مع بيرس، حين أبرم اتفاقية سرية مع الملك حسين وقدم الناتج النهائي إلى رئيس الحكومة إسحق شامير. ألقى شامير بالاتفاقية في سلة المهملات.

("أمامكم خيار صعب،" قلت، على سبيل المزاح، في أحد النقاشات في الكنيست، "عدم إرجاع المناطق المحتلة للأردن أو عدم إرجاعها إلى الفلسطينيين.")

إحدى مزايا هذه القصة الغرامية الطويلة هي أن أحدا من الأحباء الإسرائيليين لم يبذل أي جهد كي يتعلم عن المشكلة من الطرف الآخر. لقد كانوا، في أعماق قلوبهم، يحتقرون الأردنيين كما كانوا يحتقرون العرب أجمع.

في أواسط الثمانينات، تلقيت دعوة غير رسمية لزيارة الأردن، وكانت في حينه من الناحية الرسمية "دولة معادية". رغم سفري إلى الأردن بجواز سفر يساوره الشك، إلا أنه قد تم تسجيلي هناك كصحفي إسرائيلي. ولأنني كنت أول إسرائيليي يتجول في عمان بشكل علني، وبهوية مكشوفة، استقطبت انتباه الكثيرين من بين الأوساط رفيعة المستوى.

لقد دعاني موظف حكومي كبير إلى وجبة عشاء في مطعم فاخر. لقد رسم خارطة الأردن على منديل ورقي وشرح لي النظرية كلها باختصار:

"نحن محاطون بدول تختلف إحداها عن الأخرى اختلافا جوهريا. فمن هنا إسرائيل الصهيونية، ومن هنا سوريا القومية. تتعاظم في الضفة الغربية تيارات راديكالية، وفي لبنان المجاورة، يوجد نظام متعدد الطوائف ومحافظ، وها هي العراق العلمانية التابعة لصدام حسين، وهنا المملكة العربية السعودية المتدينة. تتدفق إلينا، من كل هذه الاتجاهات، أفكار وأشخاص. نحن نحاول هضم جميعهم. ولكن لا يمكننا أن نختلف مع أية من جاراتنا. حين نتحرك قليلا باتجاه سوريا، علينا غداة ذلك اليوم أن نحسن الصنع مع السعودية. حين نقترب من إسرائيل بعض الشيء، علينا الإسراع في إرضاء العراق".

الاستنتاج الذي لا بد منه: كان "الخيار الأردني" ترّهة منذ بدايته. غير أن أي من القادة الإسرائيليين لم يدرك ذلك. وكما قال لي ذات مرة بطرس بطرس غالي الحكيم: "إن لديكم في إسرائيل خبراء كبار للشؤون العربية، إنهم يقرءون كل كتاب وكل مقال، وهم يعرفون كل شيء ولكن لا يفهمون شيئا – لأنهم لم يعيشوا ذات مرة في بلد عربي".

الحب القديم لا يموت. رغم أن الانتفاضة الأولى قد اغتالت "الخيار الأردني، وقد بدأ الزعماء الإسرائيليون يثرثرون مع "الخيار الفلسطيني"، إلا أن قلبهم لم يغمره الحب الجديد وقد تصرفوا وكأن شيطانا قد ركبهم. هذا يشرح لماذا لم تجر أية محاولة جدية لتحقيق اتفاقية أوسلو وإنهاء النزاع إنهاء منطقيا: دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.

والآن، وعلى حين غرّة، بدءوا في القدس وفي واشنطن يتحدثون عن الأردن من جديد. ربما من الجدير الطلب من الملك أن يرسل جيشه إلى الضفة الغربية ليقاتل حماس؟ ربما من الأجدى دفن "حل الدولتين" داخل اتحاد أردني-فلسطيني، يؤدي بالحقيقة إلى إعادة سيطرة الأردن على الضفة الغربية من جديد؟

دب الرعب في قلب الملك. هذا ما كان ينقصه الآن! إدخال الجمهور الفلسطيني الثائر والغاضب إلى داخل مملكته! أن يفتح الحدود لسيل عارم جديد من اللاجئين والمهاجرين! لقد أسرع إلى إنكار أي نصيب له في المبادرة.

اتحاد؟ هذا ممكن بالتأكيد، ولكن بعد إقامة دولة فلسطينية حرة فقط، وليس قبل ذلك، وبالتأكيد ليس بدل ذلك. عندها يقرر مواطنوها بشكل حر.

خلافا لاسم القصة الغرامية ليهوشع كنز "يعيد الحب القديم": يبدو أن هذا الحب القديم بالذات لا يمكن إرجاعه.