|
||
تجول الأفكار، من كانوا هؤلاء الطلائعيين، الذين غنوا تلك الأغاني للمرة الأولى؟ لقد أتوا من عائلات ثرية في سانت بيتربورغ، أبناء وبنات بروفيسورات في ألمانيا. كان بإمكانهم أن يبحروا إلى الولايات المتحدة، كما فعل معظم المهاجرين في ذلك الوقت. ولكنهم انشدوا إلى بلاد نائية في الشرق، إلى مغامرة وطنية كبيرة. لقد عاشوا في عوز فاحش، عملوا في أعمال جسدية شاقة تحت الشمس الحارقة التي لم يتعودوا عليها، وحلموا بمجتمع إنساني يطمح إلى الكمال. لقد كانوا أيديولوجيين حقيقيين. لم يخطر ببالهم أنهم يجحفون بأبناء شعب آخر. لقد نظروا إلى العرب كجزء من المنظر الطبيعي الخلاب. لقد آمنوا بكل قلوبهم أنهم يأتون بالبركة والتقدم إلى جميع سكان البلاد. اليوم، وبعد أربعة أو خمسة أجيال، بدأ يبدو الأمر مختلفا تماما. لقد طوى النسيان سذاجة ذلك الوقت. إنها تبدو للكثيرين تملّق مداهن، كغطاء يكسو السرقة والنهب. هذه هي إحدى نتائج 40 سنة من الاحتلال. مستوطنو اليوم يدعون أنهم مواصلو العشرينيات والثلاثينيات، وأنهم طلائعيو أيامنا هذه. إن بلطجيي السلب والنهب يجعلوننا نرى طلائعيي تلك الفترة كمن سبقهم. حين نحصي الأضرار التي ألحقتها بنا 40 سنة من الاحتلال، لنا وليس للضحايا المباشرة فحسب من سكان الأراضي المحتلة، علينا ألا ننسى هذا الأمر. الاحتلال يسمّم الذاكرة القومية. إنه لا يلوث الحاضر فحسب، بل يلوث الماضي أيضا، وليس بأعين العالم فقط، إنما بأعيننا نحن أيضا. يكفينا أن نرى ما يفعله الاحتلال للدين اليهودي. لقد علموني في المدرسة، في فترة طفولتي، أن اليهودية هي ديانة إنسانية "نور لغير اليهود". معنى اليهودية هو مقت العنف، تفضيل الروح على القوة، تحويل العدو إلى صديق. يمكن لليهودي أن يدافع عن نفسه "من قام ليقتلك بكّر لقتله" – ولكن ليس توقا للقوة وثمالة العنف. ما الذي بقي من هذا كله؟ لقد أرسل إلي أحد أصدقائي القلقين هذا الأسبوع بريدا إلكترونيا يحتوي على اقتباسات تقشعر لها الأبدان عن الحاخام مردخاي إلياهو، وهو من شغل منصب الحاخام الشرقي الأكبر، الذي يُعتبر المرشد الروحي للمستوطنين ولكل المعسكر الوطني-المتدين. ففي رسالة أرسلها إلى رئيس الحكومة، أصدر الحاخام فتوى تقضي بعدم الشفقة على السكان المدنيين في غزة إذا كان الأمر يلحق الخطر بحياة جنود الجيش الإسرائيلي. لقد فسر ابنه، شموئيل، هذه الفتوى باسم والده: "إذا كان قتل 100 عربي غير كاف لوقف إطلاق صواريخ القسام، فعلينا قتل 1000، وإذا لم يكف هذا فعلينا إطلاق 10,000، و 100,000 ومليون. كل ذلك من أجل وقف إطلاق صواريخ القسام، التي لم تقتل طيلة سنوات استخدامها اثني عشر يهوديا. ما هي العلاقة بين هذا المفهوم "الديني" وبين الله، الذي كان مستعدا أن يغفر لسدوم من أجل عشرة صديقين موجودين فيها؟ ما الفرق بين هذا المفهوم الأخلاقي وبين أسلوب النازيين، الذين أعدموا 10 رهائن مقابل كل جندي ألماني تقتله الثورة السرية؟ لم تثر هذه الأقوال أي رد فعل. لم يصرخ أحد، لا بين أصدقائه المقربين ولا بين أوساط الجمهور عامة. يصل عدد الحاخامين الذين يؤيدون مثل هذه الأساليب الآن إلى المئات. معظمهم حاخامون من المستوطنات. هذا مفهوم ديني نما في جو الاحتلال المسموم، دين الاحتلال. إنه يلوث كل الدين اليهودي، في الحاضر والماضي. ليس عجبا أن يُقدم رجل ذو ضمير متدين، مثل أبرهام بورغ، الذي شغل منصب رئيس الكنيست ورئيس الوكالة اليهودية، هذا الأسبوع، على تطليق الصهيونية وأن يطالب بشطب تعريف دولة إسرائيل كدولة يهودية. لم يعد يوجد أي تجديد في القول أن الاحتلال يحطم الجيش الإسرائيلي، فقد أصبح هذا الأمر موثقا اليوم في تقرير لجنة التحقيق. لا يستطيع الجيش القيام بمهامه، في وقت أصبح يعمل فيه، لعشرات السنين، كشرطة استعمارية. يمكننا أن نسند تسميات رنانة كثيرة إلى صف من الجلادين - دورية "مانغو" ولواء "أفرسيك" - ولكنها تبقى على ما هي عليه - أداة للقتل والقمع البشع. من يخطط اليوم لقتل "ناشط كبير" في عملية شجاعة في حي القصبة في نابلس، بأسلوب المافيا، لن يتمكن في الغد من قيادة لواء مدرعات أمام عدو ذكي. الجيش الذي يطلق النار على قاذفي الحجارة ليرديهم قتلى، الذي يلاحق الأولاد في أزقة مخيم بلاطة للاجئين أو يلقي بقنبلة تزن طنا على بيت سكن–، ليس جيشا قادرا على أن يتحول، بين ليلة وضحاها، إلى قوة متطورة في ميدان معركة لا خيارات فيها. لا حاجة بنا أن نقرأ ذلك في تقرير فينوغراد. يكفينا أن نقارن جنرالات عام 1967، أشخاص مثل إسحق رابين، يسرائيل طال، عيزر فايتسمان، دافيد إلعزار وماتي بيلد، مع الشخصيات الموازية لهم في أيامنا هذه. بعد أربعين سنة من العمل المخزي أمام شعب لا حول ولا قوة له، لم يعد الجيش يستقطب إليه الشبان ذوي التفكير الثاقب والدوافع العالية، الأشخاص ذوي الجرأة وسرعة البديهة. إنه يستقطب إليه المتوسطين من بين المتوسطين من ناحية المستوى. في حرب حزيران كان لدينا جيش صغير ولكنه ذكي، دافع عن الدولة من داخل حدود الخط الأخضر الضيقة، الحدود التي سماها آبا إيبن "حدود أوشفيتس". لقد احتاج بالكاد إلى ستة أيام ليتغلب على أربعة جيوش. لقد اتسعت الأرض منذ ذلك الحين وتم التوصل إلى "حدود أمنية" مثلى، وقد زاد حجم الجيش عدة أضعاف، وتضخمت الميزانيات، وقد رأينا النتائج في حرب لبنان الثانية. إن الاحتلال، من الناحية العسكرية، هو تهديد مباشر لأمن الدولة. بقيت المحكمة. تشير استطلاعات الرأي إلى أنه صحيح أن الجمهور يسخر من الكنيست ويستهتر بالحكومة، ولكنه يقدر المحكمة العليا جدا، بكونها حصن الديموقراطية وهي مصدر فخر واعتزاز. لقد اتضح لنا في الأيام الأخيرة أن هذا كان مجرد وهم. في اللحظة التي اعتزل فيها أهارون براك من المحكمة، أصبح الجهاز القضائي كله يتخبط في مستنقع من المكائد، الاتهامات وحتى التشهير الشخصي. ولا يأتي هذا التشهير عن مجهولين في مواقع الإنترنت، بل يتفوه به أيضا وزير العدل الجديد، الذي أرسله رئيس حكومة يعدو وراء فضائح الفساد. كيف حدث ذلك؟ منذ سنوات تعيش المحاكم أوهاما، فقد أغفل القضاة أعينهم عما تفعل أيديهم. بينما يعتبرون أنفسهم الحصن المنيع للبرالية والديموقراطية، إلا أنهم صادقوا على الإعدام من دون محاكمة. لقد أغفلوا أعينهم حين تحوّل التعذيب إلى أسلوب عادي. لقد بنوا تلالا من الفذلكات ليثبتوا أن الجدار العنصري هو حاجة أمنية، وليتجاهلوا الحقيقة الواضحة للعيان التي تهدف بالأساس إلى سلب الأراضي بغية توسيع المستوطنات. حين أعلنت المحكمة الدولية رأيها البسيط، الواضح والذي لا يمكن دحضه، والذي أقر أن الجدار يتعارض بشكل واضح والقانون الدولي والمواثيق التي وقعت عليها إسرائيل، تجاهلت المحكمة الإسرائيلية هذا الأمر. المحكمة التي لا تحكّم ضميرها في مجال معين، لا يمكنها أن تحافظ على استقامتها التامة في مجال آخر. لقد تصدع "حصن الديموقراطية" ويمكن له أن ينهار. في الوقت ذاته، يتلوث كتاب قوانين إسرائيل بقوانين مخزية وعنصرية، ابتداء من القانون الذي يمنع المواطن الإسرائيلي من العيش في إسرائيل مع زوجته الفلسطينية، وانتهاء باقتراح القانون الذي تمت المصادقة عليه هذا الأسبوع، بالقراءة التمهيدية، الذي يتيح لثمانين عضو كنيست إقصاء عضو كنيست آخر يتفوه، في الكنيست أو خارجها، ضد وزير أو ضابط كبير. علينا أن نعترف بالحقيقة: 40 سنة احتلال قد غيرت وجه الدولة تغييرا جذريا. هذا الأمر يبدو واضحا في جميع نواحي الحياة، لقد تفشى فيها كلها. الشباب والشابات الذين يبلغون 18 سنة، بمن فيهم من حظوا بتربية أخلاقية أكسبها إياهم ذووهم المستقيمون، يتجندون في الجيش، ويدخلون في المسار العنيف في وحداتهم ويكتسبون مبادئ تبرر أي عمل وحشي ضد العرب. قلة ومميزون هم الذين يقاومون الضغط. بعد ثلاث سنوات، يخرج معظمهم من الجيش كرجال أشداء، بحواس مخدّرة. البلطجية في الشارع الإسرائيلي، القتل الروتيني حول نوادي الشبيبة، زيادة أحداث الاغتصاب والعنف داخل العائلة - كل هذه الأمور قد تأثرت من دون أدنى شك بالواقع اليومي للاحتلال، فنحن نتحدث عن الأشخاص ذاتهم. هؤلاء الشرطيون الذين يتم إرسالهم إلى الخليل وإلى حاجز حوارة، والذين ينظرون إلى السكان وكأنهم مخلوقات متدنية، يتصرفون بساديّة أو يتسترون على ساديّة زملائهم – يعودون غداة ذلك للخدمة في تل أبيب، في حيفا وفي شفاعمرو. هل سيتحولون، بين ليلة وضحاها وبأعجوبة، إلى خدام الجمهور في المجتمع الديموقراطي؟ لقد اعتادت الأجهزة الأمنية، الشرطة والجيش، منذ سنوات على الكذب بكل ما يتعلق بالمجريات في الأراضي المحتلة. لقد تحول الكذب إلى أمر اعتيادي. لا يتلقى أي صحافي في العالم تقريبا هذه الأنباء من دون أن تكون قد فُحصت. وحين يعتادون على الكذب في موضوع ما، لا يمكن وقف الكذب في هذا الموضوع. كاذبو الجيش، الشرطة وسائر الأجهزة قد تعوّدوا على الكذب في أمور أخرى أيضا. يسود الفساد في "المناطق". ضباط الحكم العسكري يخلعون زيّهم، يتصلون بمفسدين محليين ويتعاملون بالتجارة المشبوهة. هناك أصحاب أموال متورطون في هذه الأعمال المشبوهة. هذا، بطبيعة الحال، ليس السبب الوحيد لتفشي الفساد في الدولة - ولكنه بالتأكيد عامل مساعد. الاحتلال يخلق العفن، وهذا العفن يتفشى في كل مسامات الجسد الوطني. بعد 40 سنة، لم يعد هناك أي وجه شبه بين دولة إسرائيل بشكلها الحالي وبين الدولة التي رآها المؤسسون: دولة تكون مثالا يحتذى به العالم من ناحية العدل الاجتماعي، النظرة إلى الأقليات والسلام مع جاراتها. لقد حلم المؤسسون بمجتمع معاصر، نيّر، علماني، لبرالي، متقدم من الناحية الاجتماعية، منتعش اقتصاديا لصالح كل مواطني. الواقع، كما هو معروف، مختلف تماما. صحيح أنه من غير الممكن تذنيب الاحتلال بكل شيء. قبل عام 1967 أيضا، كانت الدولة الفتية بعيدة عن الكمال. غير أنه كان لدى الجمهور إحساسا بأنه هذا الوضع هو وضع مؤقت. من الممكن التصحيح والتحسين. إن هناك دين وديّان. حين تحولت الجمهورية الإسرائيلية إلى إمبراطورية استعمارية، حدث التدهور الدراماتيكي في الوضع. فور انتهاء حرب حزيران هتف لنا العالم أجمع. لقد انتصر داوود الصغير والشجاع على جليات. نحن نبدو الآن كجليات الشرير والقاسي. المقاطعة التي أعلنتها جهات مختلفة في العالم ضد دولة إسرائيل، كان يجب أن تضيء ضوءا أحمر. لقد قال ثوماس جفرسون في وثيقة الاستقلال الأمريكية أن كل دولة ملزمة بالتصرف من خلال "احترام الرأي الإنساني". هذه لم تكن وصية تاريخية فحسب، بل كانت أيضا مفهوما عمليا. الاحتلال المتواصل يخرق القانون الدولي، وهو صفعة على وجنة المبادئ الإنسانية النيّرة. منذ عشرات السنين، يشاهد مئات آلاف الأشخاص، كل يوم تقريبا، دولة إسرائيل - التي تُعلق عليها توقعات أكثر مما تُعلق على السودان والكونغو - بشخصية جنود الجيش الإسرائيلي، المدججين بالسلاح من رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم، ينكلون بالسكان الذين احتلت أرضهم. إن لهذا الأمر تأثيرا متراكما، بدأ يظهر الآن. من الممكن الاستهتار برأي البشرية، ومثال على ذلك "كم فيلق يوجد لدى البابا". ولكن هذا الاستهتار هو استهتار أحمق. إن للرأي العام العالمي ألف وسيلة ووسيلة ليعبر عن رأيه بالعمل. إنه يؤثر على مواقف الحكومات، المؤسسات والمجتمع المدني. محاولات المقاطعة ما هي سوى السنونو الأولى. ولكن ناهيك عن كل الأمور السيئة التي ألحقها الاحتلال بإسرائيل، من الداخل والخارج، هناك أمر واحد يخص كل واحد منا. لكل إنسان الحق في أن يفتخر بدولته. الاحتلال ينتزع هذا الحق منا جميعا. في الذكرى الـ40 لاحتلال القدس الشرقية، طلبت إحدى الإذاعات مقابلتي في الحي الإسلامي في المدينة القديمة. ذهبنا إلى "فيا دلوروزا" (طريق الآلام)، وهي طريق آلام يسوع المسيح. كان الشارع خاليا تقريبا، حاول أصحاب محال الأثريات، السجاجيد النفيسة والتذكارات، الذين وقفوا على أبواب محالهم الخالية من المشترين، أن يستدرجونا إلى الداخل. كانت تمر، في كل مرة، في الشارع مجموعة صغيرة من السياح. كان يرافق كل مجموعة أربعة حراس إسرائيليين، بسراويل بيضاء، اثنان من الأمام واثنان من الخلف. كل منهم كان يُشهر في يده مسدسا، واصبعه على الزناد، على أهبة الإستعداد لإطلاق النار بسرعة جزء من الألف في الثانية. بهذا الشكل ساروا في الشارع. هذه هي صورة "القدس التي تم توحيدها، عاصمة إسرائيل إلى أبد الآبدين"، 40 سنة بعد "التحرير". |