فور توقيع اتفاقية أوسلو في شهر أيلول من عام 1993، توجهت "كتلة السلام" إلى رئيس الحكومة، إسحق رابين، واقترحت بشكل علني الإطلاق الفوري لسراح كافة السجناء الفلسطينيين. كان المنطق الكامن من وراء الاقتراح بسيطا: السجناء هم أسرى حرب. لقد فعلوا ما فعلوه بكونهم مبعوثين من قبل شعبهم، كما فعل جنودنا بالضبط. الأشخاص الذين أرسلوهم كانوا زعماء "منظمة التحرير الفلسطينية" التي وقعنا معها لتوّنا على اتفاقية بعيدة المدى. هل ثمة منطق في التوقيع على اتفاقية مع القادة، بينما يبقى المرؤوسون في السجن؟ عندما يتم صنع السلام، من المتوقع إطلاق سراح أسرى الحرب. في حالتنا هذه لا يتعلق الأمر بإظهار النوايا الإنسانية الحسنة، بل هو أيضا عمل حكيم. يأتي هؤلاء الأسرى من جميع القرى والمدن. إن عودتهم إلى بيوتهم كان من الممكن أن تؤدي إلى هبة فرح عارمة في الأراضي الفلسطينية كافة. لا توجد عائلة فلسطينية تقريبا ليس لها قريب في السجن. إذا أردنا ألا تبقى هذه الاتفاقية مجرد حبر على ورق، بل أن تمتلئ بالمضمون وبالحياة - فما من عمل أكثر حكمة من هذا العمل. لمزيد الأسف، لم يستجب رابين لاقتراحنا. كان رابين يتمتع بالكثير من المزايا، ولكنه كان إنسانا مغلقا إلى حد كبير، يفتقر إلى الخيال وإلى الانطلاق. كان أسير المفاهيم العسكرية الضيقة. كان الأسرى من وجهة نظره مجرد بضائع يمكن استخدامها لإحراز شيء ما. صحيح أنه كان هو أيضا أسيرا لفترة ما في معسكر اعتقال بريطاني، ولكنه ككثيرين غيره لم يكن قادرا على استخلاص العبر من تجربته وأن يطبقها على الفلسطينيين. لقد رأينا في ذلك موضوعا مصيريا فيما يتعلق بمستقبل جهود إحراز السلام. لقد أجرينا مظاهرة، بالتعاون مع فيصل الحسيني، وهو الزعيم المحبوب وغير المنسي لدى الجمهور الفلسطيني في القدس الشرقية، أمام سجن "جنيد" في نابلس. كانت هذه أكبر مظاهرة فلسطينية-إسرائيلية مشتركة منذ ذلك الحين وحتى اليوم. أكثر من عشرة آلاف متظاهر احتشدوا أمام السجن. كان الأمر سدى. لم يتم إطلاق سراح الأسرى. مرت حوالي 14 سنة، ولم يتغير شيء. تم إطلاق سراح الأسرى بعد أن قضوا فترة حكمهم، وقد أحتل آخرون مكانهم. تقوم قوات الجيش الإسرائيلي، كل ليلة، باختطاف "مطلوبين" فلسطينيين جدد. هناك حوالي 10,000، سجين وسجينة فلسطينيين مسجونون في إسرائيل، من مختلف الأعمار، ابتداء بالقاصرين وانتهاء بالمسنين. كل حكوماتنا كانت تنظر إليهم وكأنهم بضائع. والبضاعة لا يتم منحها مجانا. للبضاعة ثمن. في العديد من المرات اقترح إطلاق سراح بعض السجناء "كحسن نية" تجاه أبي مازن، وذلك لتقوية مكانته مقابل حماس. لقد رفض أريئيل شارون وإيهود أولمرت كل هذه الاقتراحات. تعارض الآن الأجهزة الأمنية عقد صفقة تبادل الأسرى لإطلاق سراح غلعاد شاليط. وذلك ليس لأن 1400 مقابل 1 هو أمر يردعهم. إن جنديا إسرائيليا يساوي بالتأكيد من وجهة نظرهم 1400 "مخرب"، ولكنهم يتذرعون بذرائع لها وزنها: إذا تم إطلاق سراح الأسرى مقابل جندي "مختطف"، فهذا سيشجع "المخربين" على اختطاف جنود آخرين، للهدف ذاته. هذا أمر منطقي. جزء على الأقل من الأسرى الذين سيتم إطلاق سراحهم، سيعودون إلى منظماتهم وإلى نشاطاتهم، وهذا سيؤدي إلى المزيد من سفك الدماء. سيضطر جنود الجيش الإسرائيلي إلى المخاطرة بحياتهم، للقبض عليهم مجددا. هناك أيضا السبب الذي لا يذكرونه: بعض من عائلات ضحايا العمليات الانتحارية، التي انتظمت في مجموعات ضغط تجيد الصراخ وذات طابع يميني متطرف، ستقيم صخبا شديدا. كيف ستصمد حكومة بائسة، لا مكانة لها، أمام مثل هذا الضغط؟ مقابل كل تعليل من هذه التعليلات هناك تعليل مضاد. عدم إطلاق سراح الأسرى يشكل محفزا دائما لمنظمات "المخربين" للخروج و"خطف" جنود آخرين. فقد أثبت أنه لا توجد طريقة أخرى لإقناعنا بإطلاق سراح الأسرى. ناهيك عن أن مثل هذه العمليات كانت تحظى دائما بشعبية بين أوساط الشعب الفلسطيني، الذي يحتوي على عشرات آلاف العائلات التي تنتظر إطلاق سراح أبنائها. من الناحية العسكرية، يوجد تعليل قوي آخر: "عدم إبقاء الجرحى في ميدان المعركة". هذه إحدى ركائز معنويات الجيش الإسرائيلي. على كل جندي أن يعلم أنه إذا سقط في الأسر، سيفعل الجيش كل ما في وسعه، ومن دون أي تحديد، لتحريره. إذا انكسر هذا المعتقد، فسيتضرر استعداد الجنود للمخاطرة في القتال؟ إضافة إلى ذلك، لقد أثبت أن جزءا كبيرا من الأسرى الفلسطينيين الذين يتم إطلاق سراحهم لا يعودون إلى دائرة القتال. لقد أثبتت التجربة أنه بعد سنوات في الاعتقال، هم يرغبون في الحياة الهادئة وتخصيص كل وقتهم لأولادهم. هم بالذات يشكلون عاملا يدعو إلى الاعتدال في محيطهم. أما بالنسبة لغريزة الانتقام لدى عائلات "ضحايا الإرهاب" – فمسكينة الحكومة التي تخضع لمثل هذه المشاعر، القائمة لدى الطرفين. التعليل السياسي ذو حدين. ثمة ضغط من قبل "ضحايا الإرهاب" – ولكن ثمة ضغط أكثر قوة من قبل عائلة الأسير. توجد في اليهودية وصية "افتداء الأسرى". إنها تنبع من كينونة الطائفة التي تتم ملاحقتها، المتشتتة في العالم. على كل يهودي أن يقرب أي تضحية وأن يدفع أي ثمن من أجل تحرير يهودي آخر من الأسر. إذا قام قراصنة أتراك باختطاف يهودي من إنجلترا، يقوم يهود اسطنبول بدفع الفدية لإطلاق سراحه. ما زالت هذه الأخلاقيات سارية المفعول في إسرائيل في أيامنا هذه أيضا. تعقد الآن مؤتمرات واحتشادات من أجل تحرير غلعاد شاليط. لا يقولون فيها بشكل علني أن هدفها هو إحداث ضغط على أولمرت ليوافق على صفقة التبادل. ولكن لأنه لا توجد أية طريقة عملية أخرى لإطلاق سراح شاليط وهو على قيد الحياة، فإن هذا هو المعنى الفعلي. لا يجدر بنا أن نحسد أعضاء الحكومة الذين يجدون أنفسهم في هذا الوضع. أمام خيارين سيئين، فإن الميول الطبيعي لسياسي مثل أولمرت هو عدم اتخاذ القرار أبدا والمماطلة في الأمور. ولكن هذا الخيار هو خيار سيء أيضا، وله ثمن سياسي كبير باهظ. التعليل الشعوري الأقوى لدى معارضي التبادل هو أن الفلسطينيين يطالبون بإطلاق سراح أسرى "أيديهم ملطخة بالدماء". حين يُسمعون لدينا الكلمتين "دم يهودي" - وهما الكلمتين المحببتين جدا لدى اليمين - هناك كثيرون في اليسار أيضا ممن يصمتون. ولكن هذا التعليل هو تعليل أحمق وكاذب أيضا. هذا التعريف لا ينطبق، في قاموس الأجهزة الأمنية، على من شارك بنفسه في عملية قتل فيها إسرائيليون فحسب، بل ينطبق أيضا على كل من فكر في العملية، أصدر الأمر، نظم العملية وساعد في تنفيذها - جهز الأسلحة، نقل المنفذين وغيرها. وفق هذا التعريف، فإن أيدي معظم جنود الجيش الإسرائيلي وضباطه "ملطخة بالدماء". من قتل وجرح إسرائيليين – هل يختلف عنا، نحن جنود الجيش الإسرائيلي في الماضي والحاضر؟ حين كنت جنديا في حرب عام 1948، التي راح ضحيتها عشرات آلاف المدنيين، المقاتلين والجنود من كلا الطرفين، كنت قناص في كتيبة "شوعالي شمشون". أطلق آلاف العيارات، ربما عشرات الآلاف. كان ذلك غالبا في الليل، ولم أكن أرى فيما إذا أصبت شخصا ما، وإن أصبت فمن أصبت. هل يداي ملطختان بالدماء؟ الادعاء الرسمي هو أن الأسرى ليسوا جنودا، ولذلك ليسوا أسرى حرب. إنهم مجرمون عاديون، قتلة ومساعدو قتلة. هذا الادعاء ليس ادعاء له جذور. كل الأنظمة الاستعمارية على مر التاريخ كانت تتذرع بهذا الادعاء. لم يعترف أي حكم أجنبي، قاوم انتفاضة الشعب المقموع، بمقاتلي العدو كمقاتلين. الفرنسيون لم يعترفوا بمقاتلي التحرير الجزائريين، والأمريكيون لا يعترفون بمقاتلي التحرير العراقيين والأفغان (جميعهم إرهابيون، يُسمح بتعذيبهم واحتجازهم في معسكرات اعتقال قذرة)، نظام الأبارتهايد نظر إلى نلسون منديلا وزملائه على أنهم مجرمون، وهكذا نظر البريطانيون أيضا إلى المهاتما غاندي في الهند ومقاتلي الحركة السرية العبرية في البلاد. لقد أعدم البريطانيون في إيرلندا أفراد الحركة السرية، وتوجد لذلك اغاني تثير المشاعر ("أطلقوا النار علي وكأنني جندي إيرلندي/ لا تعدموني مثل الكلب!" إن الأكذوبة القائلة أن مقاتلي التحرير هم مجرمون جنائيون مطلوبة لوجود النظام الاستعماري، للتسهيل على الجندي أن يطلق النار على الناس. من المؤكد أن هذا تمويه تام. المجرم الجنائي يعمل لمصلحته فقط. مقاتل التحرير أو "المخرب"، مثله مثل أي جندي، يؤمن بأنه يضحي بنفسه من أجل وطنه. إحدى مفارقات هذا الوضع هي أن حكومة إسرائيل تفاوض أناس كانوا قد سُجنوا في السجون الإسرائيلية. حين يتحدث زعماؤنا عن الحاجة إلى تقوية العناصر الفلسطينية "المعتدلة" - فهم المقصودون بالأساس. هذه ظاهرة فلسطينية، وأنا لست متأكدا من أن لها مثيل في بلاد محتلة أخرى. الأشخاص الذين سُجنوا لمدة خمس سنوات أو حتى عشرين سنة في السجون الإسرائيلية، والذين لديهم كل الأسباب لكرهنا كراهية عمياء، مستعدون لإنشاء علاقات مع الإسرائيليين. لكني قد صادقت بعض هؤلاء الأشخاص، وبعض منهم قد تحولوا إلى أصدقاء حميمين لي، كنت أستغرب هذه الظاهرة أكثر من مرة. لقد التقيت في مؤتمرات سياسية خارج البلاد نشطاء إيرلنديين. وبعد بضع أكواب من البيرة، اعترفوا أمامي أنهم لا يتوقون كثيرا إلى شيء كما يتوقون إلى قتل الإنجليز. تذكرت كلمات نتان ألترمان: "أعطني كراهية سوداء ككيس" (ضد النازيين). بعد مئات السنين من القمع، هذا ما يحسون به. أصدقائي الفلسطينيون يكرهون، بطبيعة الحال، الاحتلال الإسرائيلي، ولكنهم لا يكرهون كل الإسرائيليين لمجرد كونهم إسرائيليين. لقد تعلم معظمهم في السجن اللغة العبرية، وقد استمعوا وقرءوا وشاهدوا وسائل الإعلام الإسرائيلية. إنهم يعرفون أن هناك أنواع من الإسرائيليين، كما أن هناك أنواع من الفلسطينيين. الديموقراطية الإسرائيلية، التي تتيح لأعضاء الكنيست تجريح رئيس حكومتهم بشكل علني، قد تركت في أنفسهم تأثيرا قويا. حين أبدت الحكومة الإسرائيلية استعدادها للتفاوض مع الفلسطينيين، وجدت في هؤلاء السجناء الذين أطلق سراحهم أفضل الشركاء. هذا صحيح أيضا بالنسبة للأسرى الذين سيتم إطلاق سراحهم الآن. إذا تم إطلاق سراح مروان البرغوتي، فسيكون شريكا طبيعيا لأي عملية من أجل السلام. سيسرني كثيرا أن أهنئه وأن أهنئ غلعاد شاليط على خروجهما إلى الحرية.