اوري افنيري 

حقيقة أولمرت / أوري أفنيري


لو أراد الله، كما يقولون، لكان بإمكان المكنسة أيضا أن تطلق النار. ربما أصبح يمكننا الآن أن نضيف: لو اراد الله، لقال أولمرت الحقيقة أحيانا.
والحقيقة، كما تبدو من شهادة رئيس الحكومة أمام لجنة فينوغراد التي تم تسريبها أمس إلى وسائل الإعلام، هي أن الحرب لم تكن ردا عفويا على اختطاف الجنديين، بل حربا يتم التخطيط لها منذ وقت طويل مسبقا. (لقد قلنا ذلك منذ اليوم الأول من أيام الحرب).

لقد روى أولمرت للجنة أنه فور تقلده منصبه، كقائم بأعمال رئيس الحكومة، في شهر كانون أول 2006، قد ناقش قادة الجيش ما يحدث على الحدود الشمالية. حتى ذلك الحين كان هناك قرار اتخذه أريئيل شارون، وهو قرار منطقي حسب أسلوبه، بعدم الرد بالقوة على الاستفزازات على الحدود الشمالية، وذلك لتمكين الجيش من التركيز على حربه ضد الفلسطينيين. غير أن هذه السياسة (التي سميت "العروس") أتاحت لحزب الله أن يجمع كمية كبيرة من الصواريخ على أنواعها. لقد قرر أولمرت تغيير هذه السياسية.

وضع الجيش خطة من جزئين: عمليات برية بهدف القضاء على حزب الله، وهجوم جوي كان من شأنه أن يدمر البنى التحتية في لبنان، وذلك للضغط على اللبنايين ليضغطوا بدورهم على حزب الله. وكما قال رئيس الأركان دان حالوتس، من سلاح الجو، فور نشوب الحرب: "إرجاع لبنان عشرين سنة إلى الوراء". (هذا تطلع متواضع مقارنة بتطعل نظيره الأمريكي الذي قال في حينه "يجب قصف فييتنام لتعود إلى العصر الحجري") إضافة إلى ذلك، كان على سلاح الجو تدمير ترسانة الصواريخ التابعة لحزب الله. ولكن لم يعد مقبولا الآن الهجوم على دولة هكذا من دون ذريعة، لقد طالب الأمركيون، حتى في حرب لبنان الأولى عدم الهجوم من دون استفزاز واضح، يقنع العالم بعدالة الحرب. في ذلك الوقت وجدت الذريعة المناسبة في اللحظة المناسبة: محاولة اغتيال سفير إسرائيل في لندن. أما في هذه المرة فقد تقرر مسبقا أن اختطاف الجنود سيشكل ذريعة. يمكن للشخص المتفلسف أن يدعي أن هذا القرار قد حوّل جنود الجيش الإسرائيلي إلى طُعم. لقد كان معروفا أن حزب الله مستعد دائما لاختطاف الجنود، وذلك بهدف تبادل الأسرى. لقد شكلت الدوريات الدائمة التي يجريها الجيش الإسرائيلي على طول الحدود طُعما حقيقيا لحزب الله ليحاول تنفيذ مآربه. اختطاف الجندي غلعاد شليط على يد الفلسطينيين، بجانب السياج الحدودي في غزة، قد أشعل ضوءا أحمر في إسرائيل. لقد قال أولمرت في شهادته أنه منذ تلك اللحظة كان على قناعة تامة بأن حزب الله سيحاول لتوّه إنجاز عملية مشابهة. من الممكن أنه كان يتوجب على رئيس الحكومة آنذاك أن يستدعي رئيس الأركان وأن يأمره بوقف الدوريات على امتداد الحدود الشمالية، أو زيادتها بشكل يردع حزب الله. لم يتم تنفيذ ذلك. لقد خرجة أفراد هذه الدورية المساكين في طريقهم وكأنها نزهة. قد يدّعي ذلك المتفلسف أيضا أن أولمرت وقادة الجيش معنيون بذريعة لتنفيذ خطتهم الحربية، فمن الواضح أنهم سيطلقون سراح المختطفين في التوّ واللحظة. ولكن كما يقال، "ملعون من يفكر بالخطأ". على أية حال، لقد هجم حزب الله ووقع جنديان في الأسر، وكان من شأن الخطة الحربية أن تسير على ما يرام. لقد نشبت الحرب بالفعل، كما هو مخطط لها، ولكن منذ تلك اللحظة لم يحدث أي شيء كما هو مخطط له. الاستشارات كانت رعناء والقرارات كانت مشوشة، العمليات تعقدت ولم يكن بالإمكان تصحيحها. الخطة، كما تبين، لم تكن متكاملة ومصادق عليها. كان ينقصها المفعول. من شأن لجنة فينوغراد أن تطرح أسئلة ملحّة: إذا كان قد تم التخطيط للحرب منذ فترة طويلة، فكيف حدث أن الجيش لم يكن مستعدا للحرب؟ كيف حدث أن ميزانية الدفاع قد تم تقليصها قبل وقت قصير من بدء الحرب؟ أن مستودعات الطوارئ كانت فارغة؟ كيف حدث أن قوات الاحتياط، التي كان من شأنها أن تنفذ العملية البرية، قد تم تجنيدها بعد مرور فترة فقط؟ كيف حدث أنه حتى عندما تد إدخالها إلى المعركة قد تلقت أوامر مشوّشة ومتناقضة؟ الصورة التي يمكن رسمها: إن أولمرت وقادة الجيش يعبهم انعدام الكفاءة وانعدام القدرة إلى حد كبير. إضافة إلى كل ذلك، لم يفهموا الواقع الدولي أيضا. لقد اعترف حسن نصر الله على الملأ أنه قد أخطأ أنه لم يدرك أن هناك تغير قد حصل في إسرائيل: بدل شارون، حصان الحرب المتمرس الذي لم يبحث عن "أكشن" في الشمال، جاء رجل جديد، لا تجربة لديه، وكان متعطشا للحرب بشراهة. ما كان يقصده نصر الله هو جولة أخرى من الحكاية الاعتيادية: خطف عدة جنود وتبادل الاسرى. عوضا عن ذلك نشبت حرب كبيرة. لكن إيهود أولمرت قد أخطأ أكثر بكثير. لقد كان على ثقة بأن الولايات المتحدة ستبارك طريقه وستمكنه من الصول والجول في لبنان كما يحلو له. لكن المصالح الأمركيية، مع الاسف، قد تغيرت. لقد أقيمت في لبنان حكومة برئاسة فؤاد السنيورة، وحّدت كل القوى المساندة للأمريكيين. إنها تنفذ أوامر واشنطن بأمانة، فقد طردت السوريين ودعمت التحقيق في اغتيال الحريري. ذلك التحقيق الذي كان من شأنه أن يوفر للأمريكيين الذريعة لشن عملية واسعة النطاق ضد سوريا. وكما سرّب أتباع أولمرت، فقد اتصلت به كوندوليسا رايس فور نشوب الحرب وأبلغته بآخر الأوامر المستجدة من واشنطن: من المفضل بالتأكيد أن تقوم إسرائيل بتوجيه ضربة قاضية لحزب الله، الذي يعارض السنيورة، ولكن يُمنع تنفيذ أمور تلحق الضرر بالسنيورة. مثلا: يُمنع منعا باتا قصف البنى التحتية اللبنانية الموجودة خارج منطقة حزب الله. لقد شوّش هذا الأمر مخططات قيادة الأركان تماما. لقد كان الرأي أنه إذا ألحقت بالمدنيين في لبنان أضرارا جسيمة، فسوف يضغطون على حكومتهم لتمارس نشاطات حثيثة ضد حزب الله، إلى أن يتم القضاء على المنظمة أو نزع سلاحها. هناك شك كبير في نجاح ذلك، لو تم تنفيذ الخطة. ولكن بسبب التدخل الأمريكي لم يتم تنفيذها أصلا. لقد اضطر حالوتس، بدل القصف العنيف الذي كان من شأنه أن يدمر المصانع الحيوية في لبنان، إلى الاكتفاء بقصف الطرقات والجسور التي تخدم حزب الله والسكان الشيعة، وكذلك طرق التزويد التي كان يتدفق عن طريقها السلاح السوري إلى حزب الله. صحيح أن القصف قد ألحق أضرارا جسيمة، ولكن ليس إلى حد يؤدي إلى تركيع لبنان. صحيح أيضا أن سلاح الجو قد نجح في تدمير جزء من الصواريخ طويلة المدى، ولكن الصواريخ قصيرة المدى لم تتضرر، وهذه بالذات هي التي حولت الحياة شمال إسرائيل غلى جحيم. لقد تشوشت العمليات في البر أكثر بكثير. في الـ 48 ساعة الأخيرة فقط، حين أصبح من الواضح أن وقف إطلاق النار سيدخل إلى حيز التفيذ لتوّه، بدأ هجوم جدّي، سقط فيه 33 جنديا إسرائيليا. ما الهدف من ذلك؟ لقد ادعى أولمرت في شهادته أن هذا الأمر كان ضروريا لتغيير نص قرار هيئة الأمم المتحدة لصالح إسرائيل. لقد أصبح معروفا اليوم (كما قلنا منذ البداية) أن هذه التغييرات كانت معدومة القيمة وقد بقيت على الورق فقط. إن تدخل كوندوليسا رايس في إدارة الحرب مهم من ناحية أخرى أيضا. إنه يلقي الضوء على السؤال الذي يشغل بال الخبراء منذ وقت طويل: هل تتغلب المصالح الإسرائيلية على المصالح الأمريكية، في العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل أم بالعكس؟ لقد وصل هذا الجدل إلى ذروته حين نشر البروفيسوران الأمريكيان، جون مرسهايمر وستيفان وولت، بحثا يقضي بأن إسرائيل ترغم الولايات المتحدة على انتهاج سياسية تتعارض والمصالح الوطنية الأمريكية. لقد رفض هذا الاستنتاج الكثيرون، الذين يؤمنون بأن العكس هو الصحيح: إسرائيل ما هي سوى برغي صغير في ماكينة الإمبراطورية الأمريكية. (لقد سمحت لنفس بأن أدعي أن الرأيين صحيحين: الكلب الأمريكي يلوح بالذيل الإسرائيلي والكلب الإسرائيلي يلوّح بالذيل الأمريكي). حين شجعت كوندوليسا رايس إسرائيل على الخروج إلى الحرب، ولكنها فرضت الفيتو على جزء حيوي من خطة الحرب، وكأنها أكدت أن البروفيسورين غير صادقين. صحيح أن أولمرت قد تلقى من الأمريكيين تأشيرة لحربه، وكانت هذه التأشيرة تخدم المصالح الأمريكية (القضاء على معارضة حكم السنيورة)، ولكنهم وضعوا أيضا تقييدات شديدة (بهدف عدم المس بحكم السنيورة). يعمل ذلك أيضا على الجبهة السورية. يقترح بشار الأسد على إسرائيل محادثات سلمية من دون شروط مسبقة. إنه يأمل، بهذه الطريقة، في منع هجوم أمريكي عليه، فهو يؤمن، مثل البروفيسورين، أن مؤيدي إسرائيل يسيطرون في واشنطن. معظم أهم الخبراء في إسرائيل متفقون على أن الاقتراح السوري هو اقتراح جدي. حتى بين أوساط الشخصيات الأمنية هناك كثيرون يقترحون على أولمرت استغلال الفرصة والتوصل إلى سلام في الشمال. إلا أن الأمريكيين قد فرضو فيتو قاطع على ذلك، وقد انصاع أولمرت. لقد تم تقريب ذبيحة إسرائيلية هامة على المذبح الأمريكي. الآن أيضا، حين يخوض بوش محادثات مع سوريا، واصل الأمريكيون منعنا من فعل الشيء ذاته. لماذا؟ الأمر بسيط: الأمريكيون يستخدموننا كتهديد للسوريين. إنهم يسيطرون علينا بواسطة الحزام، ككلب مهاجم، ويقولون للأسد: إذا لم تنصع لنا، فسنطلق الكلب. إذا لم يتوصل الأمريكيون إلى اتفاق مع سوريا، حتى بمساعدة هذا التهديد، فهم الذين سيجنون ثمار الربح السياسي من أي اتفاق نتوصل إليه نحن مع دمشق فيما بعد. هذا يذكرني بقضية من عام 1973. في نهاية حرب أكتوبر، دارت على الكيلومتر 101 (عن القاهرة) محادثات إسرائيلية – مصرية لوقف إطلاق النار. في مرحلة ما، كان الجنرال يسرائيل طال هو المندوب الإسرائيلي الكبير، وهذا ما رواه لي بعد سنوات: "في أحد الأيام، توجه إليّ المندوب المصري، الجنرال الجمسي، وقال لي أن مصر مستعدة للتوقيع على اتفاقية معنا، وكنت مسرورا. استقللت الطائرة وأسرعت إلى غولدا مئير، لأبشرها بهذه البشارة، إلا أنها أمرتني بوقف كل شيء. لقد قالت لي: وعدت هنري كيسنجر أنه إذا توصلنا إلى اتفاق، ونحن سنحول كل شيء إليه، وهو سيحسم الأمور". وهذا ما كان بالطبع. لقد تم وقف المحادثات في الكيلومتر 101، وتدخل كيسنجر في الموضوع. هو الذي توصل إلى الاتفاق الذي سُجل لصالح الأمريكيين. لقد دفع المصريون لهم المقابل السياسي. لقد تم تأجيل الاتفاق المصري – الإسرائيلي لخمس سنوات، وقد تم التوصل إليه بمبادرة الرئيس أنور السادات، الذي خطط زيارته التاريخية إلى القدس من وراء ظهر الأمريكيين. إن من شأن ذلك أن يعيد نفسه الآن على الجبهة السورية. هذا في أفضل الأحوال، وأما في أسوأ الأحوال فلن تتوصل أمريكا إلى اتفاق مع سوريا. إنها ستمنعنا من التوصل إلى تسوية، وآلاف الإسرائيليين، السوريين واللبنانيين هم الذين سيدفعون الثمن في الحرب القادمة.