اوري افنيري 

قبلة الموت / أوري أفنيري


منذ أن قبّل يهودا الإصخريوتي يسوع المسيح، لم تكن هناك أية قبلة كهذه في مدينة القدس.
بعد أن قاطع أريئيل شارون وإيهود أولمرت أبا مازن، تمت دعوة الرجل إلى المنزل الرسمي التابع لرئيس حكومة إسرائيل. وهناك، على مرأى من عدسات الكاميرات، ضم إيهود أولمرت أبا مازن، وقبله قبلتين حارتين، واحدة على كل خد. أبو مازن الذي بدا مذهلا، وقف دون حراك.
يذكرنا هذا السيناريو بملامسة جسدية رسمية أخرى: الموقف المربك في كامب ديفيد، حين دفع إيهود باراك ياسر عرفات بالقوة إلى داخل الجناح الذي كان بيل كلينتون ينتظر بداخله.
في كلتا الحالتين كانت هذه بمثابة تعبير وكأنه هدف إلى احترام الزعيم الفلسطيني، ولكنها في الحالتين كانت بمثابة تصرف أشرس يشهد، للوهلة الأولى، على جهل فظ لعادات الشعب الآخر أو تجاهل وضعه. كان لهذا التصرف هدف آخر.

بموجب العهد الجديد فقد قبّل يهودا الإصخريوتي السيد المسيح ليشير إلى الجنود بهدف القبض عليه. نظريا، كان هذا تصرف محبة وود. عمليا، كان بمثابة حكم بالإعدام. ظاهريا، جاء أولمرت ليفعل الخير مع أبي مازن، فقد أجلّه، وعرّفه على زوجته وقد كنّاه بلقب "الرئيس". لا يجدر بنا أن نستهتر بالأمر. لقد دارت، حول هذا اللقب، في أوسلو معارك طاحنة. أصر الفلسطينيون على دعوت رئيس السلطة الفلسطينية، التي كانت ستقام لتوها، بلقب "الرئيس". الإسرائيليون لم يوافقوا على هذا اللقب بأي شكل من الأشكال، حيث فيه نفحة من الرسمية. في نهاية الأمر اتفق على إدخال اللقب العربي "رئيس" في النص الإنجليزي (النص المقرّر). أبو مازن، الذي وقّع على هذه الاتفاقية من قبل الطرف الفلسطيني، لم يحلم بأنه سيكون الفلسطيني الأول الذي يلقبه رئيس حكومة إسرائيلي بلقب "الرئيس". ولكن هذا كله ما هو إلا دعابة. فالأهم هو ماذا كانت نتائج اللقاء. بعد تلك القبلة المرغمة، كان أبو مازن بحاجة إلى خطوة إسرائيلية كبيرة، تبرر اللقاء من وجهة نظر شعبه. وبالفعل، ماذا كان سيضر بأولمرت أن يقوم بعمل يترك صدى من ورائه؟ مثلا إطلاق سراح ألف أسير في التو واللحظة، إزالة آلاف الحواجز في الضفة والإبقاء على الحواجز الحدودية، فتح المعبر المنشود بين قطاع غزة والضفة الغربية؟ لم يحد أي شيء من هذا القبيل. أولمرت لم يطلق سراح حتى أسير واحد - لا امرأة، لا طفل، لا شيخ ولا مريض. صحيح أنق أعلن (للمرة المليون) عن "تسهيلات" على الحواجز، ولكن الفلسطينيين يبلغون بأنهم لم يشعروا بأي تسهيل. ربما قصرت، هنا وهناك، الطوابير الهائلة أمام هذا الحاجز أو ذاك. لقد أرجع أولمرت أيضا خمس الأموال الفلسطينية التي تضعها الحكومة الإسرائيلية في جيبها. يبدو ذلك، بأعين الفلسطينيين، فشل مخزي آخر لرئيسهم: ذهب إلى كانوسا وحصل على وعود فارغة لم تنفذ.

لماذا قام أولمرت بهذه المناورة؟ ثمة تفسير ساذج هو التفسير السياسي. أراد الرئيس بوش التوصل إلى تحرك ما في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، ليبدو كإنجاز أمريكي. كوندوليسا رايس أصدرت الأمر إلى أولمرت. أولمرت وافق على الالتقاء بأبي مازن أخيرا. تم اللقاء. تمت القبلة. قُدمت الوعود، التي طواها النسيان على الفور. نحن نعلم أن الأمريكيين يتمتعون بذاكرة قصيرة. والأقصر منها (إن كان هذا الأمر ممكنا) هي ذاكرتنا. ولكن ثمة تفسير أقل سذاجة. من يذلّ أبا مازن يقوي حماس. إن مدى التأييد الفلسطيني لأبي مازن متعلق بأمر واحد فقط: قدرته على إحراز ما لا تستطيع حماس إحرازه من الولايات المتحدة وإسرائيل. يقول الفلسطينيون لأنفسهم: الأمريكيون والإسرائيليون يحبون أبا مازن، إذن فسيعطونها ما نحن بحاجة إليه: إطلاق جماعي لسراح الأسرى، وقف التصفيات الموجّهة، إزالة الحواجز، فتح المعبر الحيوي بين قطاع غزة والضفة الغربية، الشروع بمفاوضات جدية للسلام. ولكن أبا مازن غير قادر على توفير أي من هذه الأمور، إذن لربما من الأجدى الاتكال على أسلوب حماس. قضية الأسرى هي مثال جيد. ليس ثمة أمر ما يقلق الفلسطينيين أكثر من هذا الأمر: لكل حمولة لفلسطينية تقريبا أسرى في السجون. هذا الأمر يخص كل العائلات - الأب، الأخ، الابن، وأحيانا البنت أيضا. يقوم الجيش الإسرائيلي، كل ليلة، بـ"اعتقال" دفعة أخرى. كيف يتم إطلاق سراحهم؟ لدى حماس براءة اختراع أثبتت نفسها: اختطاف الإسرائيليين (هذا هو المصطلح المتعارف عليه في وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية: الإسرائيليون "مختطفون"، الفلسطينيون "معتقلون") مقابل الجندي المختطف غلعاد شاليط سيطلق أولمرت سراح أسرى كثيرين، فالإسرائيليون، كما أدرك الفلسطينيون، يفهمون لغة القوة فقط. لذلك لمعت في رؤوس مستشاري أولمرت فكرة رائعة: إعطاء أبي مازن مئات الأسرى كهدية، من دون مقابل. هذا سيقوي مكانة الرئيس الفلسطيني. هذا سيثبت أنه من دون استخدام العنف، سيحصلون منا على أكثر مما يحصلون عليه بطريقة عكسية. هذا سيلحق ضربة قوية بحكومة حماس، حيث أن إسقاطها هو هدف هام لإسرائيل والولايات المتحدة. لا قدر الله، هب مستشارون آخرون لأولمرت: كيف سيكون رد فعل وسائل الإعلام الإسرائيلية على إطلاق سراح الأسرى قبل إطلاق سراح شاليط؟ ولكن شاليط موجود بين أيدي حماس وحلفائها، وليس بيدي أبي مازن. إذا كان من الممنوع إطلاق سراح الأسرى قبل إطلاق سراح شاليط، فهذا برهان على أن حماس تسيطر على جميع أوراق اللعبة. إذن لربما من الأفضل التحدث مع حماس؟ معاذ الله! النتيجة: لا تقوية لأبي مازن، لا اقتراب من حماس، لا شيء.

هذه متلازمة إسرائيلية طويلة السنوات: عند وجود خيارين، لا يختارون أيا منهما، ولا يفعلون شيئا. أعتقد أن المثال الكلاسيكي هو قضية أريحا. في منتصف السبعينيات، اقترح الملك حسين على هنري كيسنجر خطوة فذة: أن تقدم إسرائيل أريحا إلى الملك. يدخل الجيش الأردني إليها ويرفع العلم الأردني، وهكذا يتم التقرير بشكل رمزي أن الأردن هي الجهة المقررة في الضفة الغربية. أعجب كيسنجر بالفكرة ودعا إليه وزير الخارجية، يغئال ألون، فتوجه الأخير إلى رئيس الحكومة إسحق رابين. كل الزعامة الإسرائيلية آنذاك - رابين، ألون، وزير الدفاع شمعون بيرس - أيدوا "الخيار الأردني" آنذاك بحرارة، كسابقيهم، غولدا مئير، موشيه ديان، وآبا إيبن. لقد أيدنا، أنا وزملائي، الخيار المعاكس وهو "الخيار الفلسطيني"، ولكن كنا أقلية هامشية. غير أن رابين قد رفض الاقتراح. غولدا مئير وعدت على الملأ أن تجري استطلاع شعبي أو انتخابات قبل أن يُعاد متر مربع واحد من الأرض المحتلة. "لن أجري انتخابات من أجل أريحا!" جزم رابين القول. لا خيار أردني، لا خيار فلسطيني، لا شيء.

يحدث الآن الأمر ذاته بالنسبة لسوريا أيضا. ها نحن مرة أخرى أمام خيارين. الأول: الشروع بمفاوضات مع بشار الأسد، الذي يطلق تصريحات تدعوا إلى السلام. أي: أن نكون مستعدين لإرجاع هضبة الجولان إلى سوريا، وأن نعيد 60 ألف لاجئ سوري إلى منازلهم، ممن كانوا قد طردوا منها أثناء الحرب. هذا سيخرج سوريا من حلفها الوثيق مع إيران وحزب الله، ويضمها إلى جبهة الدول السنية. لأن سوريا هي سنية أيضا ووطنية علمانية، فهذا من شأنه أن يؤثر تأثيرا إيجابيا على الفلسطينيين أيضا. أولمرت يطالب الأسد بالابتعاد عن إيران والتخلي عن حزب الله، قبل الشروع بالمفاوضات. هذا طلب يثير السخرية، يبدو كذريعة لرفض الحوار، فالأسد يستخدم حزب الله كوسيلة لإقلاق إسرائيل، للضغط عليها لنعيد له هضبة الجولان. حلفه مع إيران يخدم، هو الآخر، الهدف ذاته. لو تخلى أن أوراقه القليلة مسبقا، فكيف سيحرز ما يأمل إحرازه في نهاية المحادثات؟ الخيار المعاكس هو الذي يقترحه جزء من قيادة الجيش الإسرائيلي: اجتياح سوريا وأن نفعل فيها ما فعله الأمريكيون في العراق. هذا سيؤدي إلى فوضى في العالم العربي، وهم يعتقدون أن هذا الأمر لصالح إسرائيل. هذا سيعيد تصحيح صورة الجيش الإسرائيلي التي تضررت في لبنان، وسيعيد إليه "قوة الردع". إذن ماذا سيفعل أولمرت؟ هل يعيد هضبة الجولان؟ لا قدر الله! هل هذا ما يحتاجه؟ مشاكل مع 16 ألف مستوطن هناك؟ إذن ماذا، هل يشن حرب على سوريا؟ لا! ألم تكفيه مغامرة عسكرية فاشلة واحدة؟ إذن سيختار الخيار الثالث: ألا يفعل شيئا. يمكن لبشار الأسد أن يجد عزاءه في شيء واحد فقط: أولمرت لن يقبّله.