|
||
في كل الدول وفي كل الحروب، عندما يخفق الجنرالات، تنشأ أسطورة " الطعنة من الخلف " : لولا قيام المستوى السياسي بإيقاف الجيش، لكان الجيش سيحقق نصرا كبيرا، باهرا وتاريخيا. هذا ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وقد خلّفت هذه الأسطورة الحزب النازي. هذا ما حدث في فييتنام، وهذا ما سيحدث لدينا، فالهمسات الأولى قد أصبحت تُسمع. الحقيقة المجردة هي أنه حتى اليوم، اليوم الثاني والعشرين من الحرب، لم يتم إحراز أي هدف من أهدافها العسكرية. ذلك الجيش الذي انتصر على ثلاثة جيوش عربية كبيرة عام 1967، بستة أيام، لم ينجح في التغلب على " منظمة إرهابية " في وقت فاق حتى الآن الوقت الذي استغرقته حرب أكتوبر. عندها نجح الجيش الإسرائيلي، في غضون ثلاثة أسابيع، في تحويل الخسارة الفادحة في بداية الحرب إلى انتصار عسكري واضح في نهايتها. بهدف خلق صورة من الإنجاز، ادعى الناطقون بلسان الجيش أمس أننا قد " نجحنا في قتل 200 (أو 300، أو 400، من ذا الذي يعد) من بين 1000 مقاتلي حزب الله. إن الادعاء بأن حزب الله القوي لم يضم سوى 1000 مقاتل، يشهد على نفسه. يروي المراسلون أن الرئيس بوش " محبط " ، فالجيش الإسرائيلي " لم يزوّد البضاعة " . لقد أرسله بوش إلى الجبهة القتالية إيمانا منه بأن هذا الجيش الهائل، المزود بأكثر الأسلحة الأمريكية تطورا " سينجز العمل " خلال عدة أيام. لقد كان من المتوقع أن يقضي على حزب الله وأن يقدم لبنان إلى الموالين للولايات المتحدة، أن يضعف إيران، وربما أن يفتح الطريق لإسقاط نظام الحكم في سوريا. ليس من العجب أن يغضب بوش. إيهود أولمرط أكثر غضبا . لقد خرج إلى الحرب بنفس مبتهجة وقلب قوي، لأن جنرالات سلاح الجو قد وعدوه بالقضاء على حزب الله وصواريخه خلال عدة أيام، وها هو الآن يغوص في الوحل، ولا يبدو للعيان وجود أي حسم عسكري. كما جرت العادة لدينا، فور انتهاء الحرب على جبهة القتال ( وربما قبل ذلك ) ستبدأ " حرب الجنرالات " . وها هي الجبهات قد أصبحت تبدو واضحة . أفراد القوى البرية يتهمون رئيس الأركان وثمالة القوة لدى سلاح الجو، الذي وعد بإحراز النصر لوحده تقريبا. أن يقصف، يقصف ويقصف، أن يدمر الطرقات والجسور، الأحياء والقرى، وانتهى الأمر. مؤيدو رئيس الأركان وسائر جنرالات سلاح الجو سيتهمون القوى البرية، وخاصة قيادة لواء الشمال. ها هم الناطقون باسمهم بدءوا يدّعون في وسائل الإعلام أن هذه القيادة مليئة بالضباط الذين تنقصهم الخبرة، وقد أرسلوا إلى هناك لأن الشمال كان يعتبر غير مهم، في حين كانت العمليات الحقيقية تدور رحاها في الجنوب (في غزة) وفي الوسط (في الضفة الغربية). هناك إشارات إلى أن قائد اللواء الشمالي، أودي آدم، قد عُين في هذه الوظيفة كتقدير لذكرى والده فقط، الذي قتل في حرب لبنان الأولى. وبالفعل، ألم يتم التدرّب على تلك الحرب طيلة سنوات؟ ألم يُجرى تدريب شامل قبل عدة أسابيع فقط من الحرب، حيث أثبت بأننا سننتصر دون أية مشاكل؟ هذه الادعاءات المتبادلة محقة بما فيه الكفاية . هذه الحرب مرصوفة بالإخفاقات العسكرية - في الجو، في البر وفي البحر. مصدر هذه الإخفاقات هو الغطرسة الشديدة التي ترعرعنا عليها والتي هي جزء من طبيعتنا الوطنية. إنها تميز الجيش الإسرائيلي بقدر أكبر، وخاصة سلاح الجو. طيلة سنوات كان يروي أحدنا للآخر أن لدينا أفضل جيوش العالم. لم نقنع أنفسنا فحسب، بل أقنعنا كذلك الرئيس بوش والعالم أجمع. فنحن قد أحرزنا نصرا باهرا في حرب حزيران 1967. لذلك، عندما لم نحرز نصرا ساحقا بستة أيام هذه المرة، تعجّب الجميع. ماذا حدث؟ أحد الأهداف المعلنة للحرب هو إعادة تأهيل قوة ردع لدى الجيش الإسرائيلي. ولم ننجح في ذلك إلى حد بعيد. أن الوجه الآخر لعملة الغطرسة هو الاحتقار العميق للعرب، حيث أدى هذا الوجه بالجيش الإسرائيلي إلى إخفاقات كبيرة في الماضي. يكفينا أن نذكر حرب تشرين. والآن يتعلم جنود الجيش الإسرائيلي، بأصعب الطرق " أن " المخربين " هم مقاتلون أشداء، وليسوا مدمنين على المخدرات الذين وعدوهم بالحوريات في الجنة. ولكن ناهيك عن الغطرسة والاستهتار بالخصم، هناك مشكلة عسكرية أساسية: ليس من الممكن إحراز النصر في حرب العصابات. لقد تعلمنا ذلك خلال 18 سنة من تواجدنا في جنوب لبنان. عندها استخلصنا العبر وانسحبنا، بلا عقل، بلا اتفاقية، وبدون التحدث مع الطرف الآخر، فنحن لا نتفاوض مع " مخربين " - حتى وإن كانوا الحركة المسيطرة على الميدان. ورغم ذلك انسحبنا. لا يعلم سوى الشيطان من ذا الذي منح الجنرالات اليوم هذه الثقة بالنفس التي لا ترتكز على أساس متين، وقال لهم بأنهم سينتصرون في المكان الذي فشل فيه سابقوهم فشلا ذريعا. والأهم من ذلك كله : حتى أفضل جيوش العالم لا يمكنه أن ينتصر في حرب ليس لها أهداف واضحة. قال كارل فون-كلاوسفيتش، وهو أب النظريات الحربية، أن الحرب ليست إلا " استمرارا للسياسة بوسائل مختلفة " . أولمرط وبيرتس، هاويان لا غير، قد قلبا الأمور رأسا على عقب: " الحرب هي انعدام السياسة بوسائل مختلفة " . يقول المهنيون أنه بهدف الانتصار في الحرب هناك حاجة إلى ( أ ) أن يكون لها هدف واضح، ( ب ) أن يكون هذا الهدف قابل للتحقيق و ( ج ) أن تتوفر الوسائل لتحقيقه . كل هذه الأمور الثلاثة غير متوفرة في هذه الحرب. إنه ذنب المستوى السياسي. لذلك ستلقى المسؤولية الأساسية لهذه الحرب الفاشلة على الثنائي أولمرط-بيرتس. لقد استسلما لإغراءات اللحظة، وأدخلا الدولة في حرب بقرار متسرّع، دون تفكير ودون تخطيط. وكما كتب نحميا شطرسلر في صحيفة " هآرتس " : كان بإمكانهم أن يتوقفوا بعد يومين أو ثلاثة أيام، حين كان العالم بأسره يوافق على أن استفزاز حزب الله كان يستوجب ردا إسرائيليا، وعندما لم يكن أحد ليشك في قدرة الجيش الإسرائيلي حتى تلك اللحظة. كانت هذه الحملة تبدو معقولة، عقلانية وبمقاييس صحيحة. ولكن لم يكن بإمكان أولمرط وبيرتس أن يتوقفا. كجنديين مبتدئين في أمور الحرب، لم يعرفا أنه من غير المسموح الاتكال على الأقوال المتغطرسة التي يتفوه بها الجنرالات، وأن قيمة أفضل الخطط العسكرية لا تساوي قيمة الأوراق التي رسمت عليها، وأن في الحرب أمور لا يمكن توقعها، وأنه لا يوجد شيء زائل أكثر من الشروع في الحرب. إن شعبية الحرب أسكرتهما، زمرة من " الجّراسلين " (المراسلون الجّراء) المتملقين قد حرضتهما، وهالة قيادة الحرب قد أخرجتهما عن رشدهما. لقد انفعل أولمرط بخطابات مبتذلة، تدرّب عليها مع مساعديه. أما بيرتس فقد وقف، على ما يبدو، أمام المرآة ورأى فيها نفسه رئيس الحكومة التالي، السيد أمن، بن غوريون الثاني. هكذا، مثل معتوهين متشردين في القرية، على أنغام الطبول والزمور، خرجا في مقدمة مسيرة الحماقة، باتجاه الفشل السياسي والعسكري مباشرة. يمكننا التكهن بأنهما سيدفعان الثمن بعد الحرب. ماذا جنينا من هذا الموضوع كله؟ ما زلنا لا نتحدث حتى الآن عن القضاء على حزب الله، عن نزع سلاح المنظمة، عن القضاء على كل الصواريخ. هذه الأمور قد طواها النسيان منذ زمن. في مستهل الحرب، عارضت الحكومة معارضة شديدة فكرة مرابطة قوات دولية، من أي نوع كانت، على امتداد الحدود. فسّر الجيش بأن مثل هذه القوات لن تحمي إسرائيل، بل ستقيّد قدرتها على التصرف. والآن تحول موضوع مرابطة هذه القوات إلى الهدف الأساسي من الحرب. يواصل الجيش الإسرائيلي الحرب لكي " يجهز المنطقة لدخول القوات الدولية " ، وأولمرط يعلن عن أنه سيواصل القتال حتى تصل القوات إلى المنطقة. هذه، بطبيعة الحال، ذريعة بائسة، سلّم للنزول عن الشجرة. لا يمكن إقامة قوة دولية دون موافقة حزب الله. أي من الدول لن ترسل جنودها إلى مكان يقاتلون فيه أبناء البلاد. وأي مكان سترابط فيه هذه القوات، سيعود إليه السكان الشيعة، ومعهم مقاتلي حزب الله، الذين انخرطوا بينهم. في المستقبل أيضا، سيكون وجود هذه القوات متعلق، بشكل يومي، بموافقة حزب الله. إذا انفجرت عبوة تحت حافلة مليئة بالجنود الفرنسيين، ستنطلق صرخة مدوية لإعادة الجنود إلى بلادهم. لقد حدث ذلك ذات مرة لقوى البحرية الأمريكية في بيروت. الألمان، الذين أحدثوا ضجة في العالم هذا الأسبوع حين عارضوا النداء لوقف إطلاق النار، لن يرسلوا جنودا بالتأكيد. ما ينقصهم هو إطلاق النار على الجيش الإسرائيلي! وبالأساس - لا شيء سيعيق حزب الله عن إطلاق القذائف من فوق رؤوس أفراد القوات الدولية، إذا أرادوا ذلك. ماذا ستفعل هذه القوات آنذاك؟ هل ستحتل كل المناطق لتصل إلى بيروت؟ وكيف سيكون رد فعل إسرائيل؟ إنهم يريدون أن يسندوا إلى القوات الدولية مهمة مراقبة الحدود السورية-اللبنانية. هذا وهم أيضا. الحدود طويلة، على امتداد الجهتين الشرقية والشمالية من لبنان. من يريد تهريب الأسلحة لن يمر عن طريق الطرق الرئيسية، إذا رابط عليها جنود من القوات الدولية. سوف يجدون آلاف المواقع للقيام بذلك، وبمساعدة الرشوة، يمكن أن تحصل على أي شيء في لبنان. لذلك، وبعد انتهاء الحرب، سنقف في نفس المكان تقريبا الذي وقفنا فيه قبل بدء هذه المجازفة البائسة، قبل قتل ما يعادل ألف لبناني وإسرائيلي، قبل طرد أكثر من مليون إسرائيلي ولبناني من بيوتهم، قبل هدم أكثر من ألف بيت لدى الطرفين. بعد الحرب، عندما ستتلاشى الإثارة، وستبرد الأدمغة، وستتوب وسائل الإعلام إلى رشدها، ويلعق سكان الشمال جراحهم، ويجري الجيش الإسرائيلي فحصا داخليا، ويدّعي الجميع بأنهم كانوا ضد الحرب منذ يومها الأول، سيأتي يوم الحساب. الاستنتاج المفروغ منه إذن : إقصاء أولمرط، إبعاد بيرتس وإقالة حالوتس. لكي نسلك طريقا جديدة، طريق هي وحدها القادرة على حل المشكلة: محادثات وسلام مع الفلسطينيين، مع اللبنانيين، مع السوريين. نعم بالتأكيد: مع حماس وحزب الله. وليس لنا أن ننسى الأسرى. لأن السلام يُصنع بين الأعداء . |