اوري افنيري 

رجل مثقف جدا / أوري أفنيري


في أحد الأيام، في نهاية الثمانينيات الماضية، أخبرتني سكرتيرتي أن نائب رئيس الأركان يريد الالتقاء بي،

فتفاجأت. لم تكن العلاقة بين رئيس هيئة الأركان العامة وبين أعضاء مجلة "هعولام هزيه" جيدة. لقد قاطعها أعضاء هيئة الأركان بشكل رسمي طيلة عشرات السنوات، لا سيما عندما نشرنا مقالا ضد تجنيد النساء الإلزامي خلافا لرغبة رئيس الأركان، يغئال يدين.

لقد كان لدي فضول عندما التقيت نائب رئيس الأركان في مكتبه، السياسي إيهود باراك، الذي لم ألتقه سابقا.

تحدثنا سريعا عن تاريخ أوروبا العسكري. دُهشتُ، فضباط الجيش هم رجال أعمال، لا يؤمنون بالنظريات. بما أن التاريخ العسكري هو مجال اهتمامي، سررت عندما عرفت أن باراك خبير حقيقي في هذا المجال.

تحدثنا عن حرب الثلاثين عاما في أوروبا، وانتظرت حتى يطرح باراك الموضوع الذي دعاني من أجله. ولكن ذلك لم يحدث.

لقد كان إيهود باراك جنديا استثنائيا. قال لي أخوه ذات مرة أنه لم يكن من السهل ضمان عمل له في سرية هيئة الأركان العامة: كان إيهود قصير القامة وبدين. كانت هناك حاجة للاستعانة بالوساطة لتحقيق ذلك.

كانت النتائج رائعة. عندما كان باراك في هيئة الأركان اتضح أنه جندي جريء. حظي بعدة أوسمة شرف، وأشرف ميدانيا على عدد من العمليات الجريئة ضد العدو. لقد تقدم في العمل وشغل معظم المناصب القيادية تقريبا، بما في ذلك منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، حتى أصبح رئيس الأركان.

بعد أن أنهى شغل منصبه العسكري، دخل المعترك السياسي كما هو متبع في إسرائيل. وبعد أن انضم إلى حزب العمل، واختير رئيسا له، تنافس مع بنيامين نتنياهو على منصب رئاسة الحكومة وفاز.

كانت الفرحة كبيرة! عندما أعلِن عبر المذياع عن نتائج الانتخابات، سُمِعت هتافات الفرح كثيرا. ووصل الكثيرون إلى ميدان رابين بشكل عشوائي. سمعت باراك عندما قال: "يشكل الفوز فجر يوم جديدا".

كان لدي سبب للفرح. قبل سنوات من ذلك، قال باراك لغدعون ليفي إنه لو كان شابا فلسطينيا كان سينضم إلى إحدى المنظمات الإرهابية. كان ذلك التصريح جديدا.

ولكن حدث خلل معين. دعا الرئيس بيل كلينتون إلى المشاركة في مؤتمر السلام في كامب ديفيد. شارك في المؤتمر كل من كلينتون، عرفات، وباراك، وكان يفترض أن يصيغوا اتفاقا تاريخيا. ولكن ذلك لم يحدث.

فبدلا من الالتقاء سرا مع عرفات واستيضاح المشاكل، تقوقع باراك بعيدا. عندما طُلب من باراك الجلوس بين عرفات وبين تشلسي، ابنة كلينتون، اهتم باراك بالتحدث مع هذه الشابة التي لم تكن بارعة أبدا. وبالمقابل، تجاهَل عرفات كليا.

في الواقع، عرض باراك اقتراحات أسخى من تلك التي اقترحها من سبقه، ولكنها لم تلبِ شروط الحد الأدنى ليوافق عليها الفلسطينيون. انتهى المؤتمر دون نجاح.

كان سيعلن السياسي الذكي في تلك اللحظة مثلا: "أجرينا نقاشا ناجحا. من الواضح أننا لم نتوصل بعد نزاع مدته مئة عام إلى حل كل المشاكل في إطار نقاش واحد. لهذا سنجري مؤتمرات أخرى حتى نتوصل إلى اتفاق".

بدلا من ذلك، نشر باراك خبرا غريبا: "عرضت اقتراحات أكثر من أي زعيم سابق، ولكن رفض الفلسطينيون جميعها. فهم يريدون إلقاءنا في البحر. ليس هناك احتمال للسلام".

عندما يذكر هذه الأقوال "رئيس معسكر السلام" يصبح الفشل كارثة تاريخية. لقد تدهور معسكر السلام الإسرائيلي، ولم يتعافَ حتى اليوم. أصبح أريئيل شارون، ثم إيهود أولمرت، رئيسي الحكومة بعد باراك. ثم تلاهما بنيامين نتنياهو وأصبح رئيس الحكومة، إلى الأبد على ما يبدو.

عندما يُسأل إسرائيلي في يومنا هذا "مَن الملائم ليخلف نتنياهو؟" يقول الإجابة العادية: "لا أحد". لا يرى أصحاب حق الاقتراع وريثا محتملا، لا في الليكود ولا المعارضة.

أعضاء الحكومة الحالية غير جديرين. فهم سياسيون ضعفاء، تكمن قوتهم في إحداث الضجة وجذب الاهتمام. وهم لا يتمتعون بمهارات أخرى. لو كان هناك أعضاء موهوبون في الليكود، كان سيتخلص منهم نتنياهو منذ وقت.

يؤمن نصف الإسرائيليين أن نتنياهو زعيم رائع. وهو يبدو جيدا حقا، فهو سياسي بارع، خبير بالعلاقات العامة. يترك انطباعا جيدا خارج البلاد، ويدير الشؤون الإسرائيلية جيدا.

لقد تحدث والده، البروفيسور في التاريخ، عن مهاراته: "يمكن أن يكون بيبي وزير خارجية رائعا، ولكن لا يمكن أن يكون رئيس حكومة".

ليس هناك تصريحات أفضل من هذه. يتمتع نتنياهو بكل الصفات الضرورية لوزير الخارجية، ولكنه يفتقد إلى متطلبات رئيس الحكومة الضرورية: ليس لديه رؤيا. لا يملك إجابات عن المشاكل التاريخية الإسرائيلية. وهو لا يهتم برأب الشروخ الداخلية. يكرهه مواطنون إسرائيليون كثيرون.

إذا، مَن يمكن أن يحل محله، نظريًّا على الأقل؟

يبدو المجال السياسي في إسرائيل كالصحراء. يدخل السياسيون هذا المعترك ويتركونه. وتغير زعماء حزب العمل (طيلة سنوات) كثيرا. خسر الزعيم المتألق الحصري في حزب "هناك مستقبل"، يائير لبيد، نجوميته سريعا.

عندما يُسأل شخص ما بصوت خافت: "ماذا بالسنبة لـ ... إيهود باراك؟" يسود صمت. ليست هناك إجابة واضحة.

بعد أن ترك باراك الحياة العامّة أصبح ثريا جدا. يبدو أن تقديم الاستشارات للحكومات الأجنبية أهم مجالات اهتمامه. وهو يسكن في أفخر مبنى في مركز تل أبيب. ليس لديه حزب. ربما ينتظر دعوة للانضمام إلى حزب معين.

لا شك أن شخصيته مميزة. تتفوق مهاراته على مهارات أي سياسي آخر في إسرائيل. إذا لم يظهر زعيم جديد فجأة، فلن يكون هناك من ينافس نتنياهو.

ولكن هناك أجواء من التردد. لا يوجد لدى باراك أصدقاء مخلصون. يحترمه الكثيرون، ولكن يحبه القليلون. فهو لا يبعث الثقة، تماما مثل رابين في الماضي. إنه يحتقر علنا الأشخاص الأقل موهبة، وهذه الصفة تشكل نقصا كبيرا في الحياة السياسية.

إضافة إلى هذا، هناك أخطاء الماضي التي لم تُنسَ.

في مسرحية "فاوست" (غوته) يعرض الشيطان في المسرحية نفسه كـ "شخصية تريد الشر دائما، ولكنها تصنع الخير دائما". إذا كان الأمر كذلك، فباراك ملاك لأنه يريد الخير دائما ويعمل الشر في أحيان قريبة.

يشكل مؤتمر كامب ديفيد مثالا على ذلك. أتذكر كرهه لياسر عرفات، ربما كان الفلسطيني الوحيد الذي كان قادر على صنع السلام مع إسرائيل.

يخلق التكبر لدى باراك مشاكل، وشكوكا.

إحدى المشكلتين الأساسيتين لدى إسرائيل هي أن القادمين الجدد من دول الشرق، الذين يشعرون أنه يتم الإجحاف بحقهم يكرهونها. (المشكلة الأخرى هي الفجوة الكبيرة بين المتدينين والعلمانيين).

عندما كان باراك رئيس الحكومة، قام بعمل فريد من نوعه: اعتذر باسم الحكومة من اليهود الشرقيين الذين تم الإجحاف بحقهم. لم يؤثر ذلك جدا. لا يذكر أحد في يومنا هذا بادرة حسن النية هذه. يعتقد الشرقيون أن باراك شكنازيّ نمطي. بينما يؤيد معظم الشرقيين نتنياهو، رغم أنه شكنازيّ ويبدو ويتصرف كالشكنازيين.

لماذا؟ لا أحد يعلم.

هل سنختار باراك في يوم الانتخابات؟

ستأتي الفرصة ثانية فقط إذا قرر باراك التحدي ونجح في توحيد كل أحزاب المعارضة سرا، التي يكره بعضها بعضا. يشكل هذا بحد ذاته تحدي هيركليس.

إذا تحقق هذا، أوصي بالتصويت لباراك. من أجل الصدق، أوصي بالتصويت لصالح مَن يمكن أن ينافس نتنياهو منافسة حقيقية. أعتقد أن بيبي يورط الدولة في حرب أبدية، لا يمكن أن يفوز فيها أحد.

هل يمكن أن أختار باراك رغم أعماله في الماضي؟ يمكن أن يتعلم المثقفون من تجاربهم في الماضي.

وإيهود باراك رجل مثقف جدا.