|
||
حتى وقت قصير كان جباي عضوا مؤسسا في الحزب اليميني المعتدل، "كلنا". ورغم أنه لم يكن عضوا في الكنيست، فقد عُيّن وزير. لقد استقال عندما عُيّنَ أفيغدور ليبرمان وزير الدفاع. ضمن خطوة جريئة، انسحب من الحزب الذي ساعد على تأسيسه منضما إلى حزب العمل. خلال وقت قصير انتُخب جباي الأمين العام للحزب. (لا يمكن تعيينه "رئيسا للحزب" لأنه ليس عضو كنيست، لهذا ظل يتسحاق هرتسوغ يتمتع بهذا اللقب عديم الأهمية). إحدى أبرز صفات جباي هي كونه شرقيا. إنه السابع من بين ثمانية أبناء لأسرة هاجرت من المغرب قبل ولادته بثلاث سنوات. هذه الحقيقة هامة. يُعتبر حزب العمل "شكنازيا"، نخبويا، وبعيدا عن الكثيرين. لهذا يحتاج إلى التغلب على هذه الوصمة، إذا كان يرغب في الوصول إلى السلطة. ولكن الوضع في الليكود مختلف تماما. تتألف الغالبية العظمى من ناخبي الليكود من الشرقيين، ولكن بنيامين نتنياهو شكنازي تماما. يؤيده الشرقيون أكثر بكثير مما يؤيدون أي زعيم شرقي آخر. ولكن أصول جباي ليست ميزته الوحيدة. فبعد أن ترعرع في ظروف من الفقر تقدم في السلم الاقتصادي ووصل إلى الذروة وأصبح مديرا عاما لشركة مهمة. وفي هذه الأثناء أحرز ثروة كبيرة أيضًا. وهو ليس زعيما كرازماتيا، وليس قادرا على إثارة حماسة الحشود. من السهل نسيانه. ولكنه يتميز بتفكير منطقي بفضل خبرته في المصالح التجارية. يشكّل المنطق في السياسة سلعة ثمينة. في المقابل يمكن أن يمثل مصدر إزعاج أيضا. السؤال هو: إلى أين يقود هذا المنطق جباي؟ في الأشهر القليلة التي تولى فيها منصب زعيم حزب العمل، صدم جباي الكثيرين من أعضاء حزبه الجديد بشكل كبير. مرة كل أسبوع تقريبا، وحدث ذلك عادة في أيام السبت، كان يطلق جباي تصريحا مذهلا، يتناقض، كما يبدو، مع المبادئ الأساسية للحزب الذي عمره مائة عام. هكذا صرح رئيس حزب العمل عندما أوضح أن لا حاجة لإخلاء المستوطنات من أجل السلام. حتى الآن كان مقبولا التفكير بأنّ حزب العمل يؤيد فقط ضم "الكتل الاستيطانية"، التي تقع تماما قرب الخطّ الأخضر، ويأتي هذا في إطار تبادل الأراضي المتفق عليه. ولكن هناك حاجة لإخلاء كل المستوطنات الأخرى. يبدو أن تصريحات جباي تلغي إمكانية صنع السلام. في فرصة أخرى أعلن جباي أنّه لن يكون أبدا عضوا في ائتلاف مع القائمة العربية الوحيدة. هذه القائمة مؤلفة من ثلاث أحزاب عربية مختلفة، لديها رؤى متعارضة وقد اضطرت إلى أن تتوحد معا بعد أن رفع أفيغدور ليبرمان (المذكور أعلاه) نسبة الحسم من أجل القضاء عليها. من الصعب جدا (إذا كان ممكنا أصلا) إقامة حكومة يسارية في الكنيست من دون القائمة العربية. لم يكن عقد اتفاق أوسلو ممكنا من دون أن يدعم أعضاء الكنيست العرب إسحاق رابين إلى حد كبير (من دون الانضمام إلى حكومته). وإن لم يكن ذلك كافيا، فقد أعلن جباي أيضا بأنّ عضو الكنيست العربي الوحيد في حزب العمل، مذيع الرياضة الشعبي زهير بهلول، لن يكون في الكنيست القادمة. ما ذنبه؟ لقد انتقد بهلول تصريح بلفور، الذي وعد بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في البلاد التي كانت حينذاك بلادا عربية. شهدت هذه الأمور الذروة (حتى الآن) في الأسبوع الماضي، عندما اتخذ جباي خطوة اعتبرها الكثيرون من أعضاء حزبه عملا قبيحا. يوجد في إسرائيل اليوم نحو 35 ألف لاجئ أفريقي ليسوا يهودا، معظمهم من السودان وموريتانيا. لقد احتُجزوا لأشهر قليلة في "منشأة" حولوت، وهي بمثابة سجن مفتوح للاجئين، والشروط فيها بالتأكيد أفضل من الحياة في بلادهم. يعيش الآخرون في الأحياء الفقيرة جنوب تل أبيب ويكسبون رزقهم من الأعمال المتوفرة أمامهم، وتغيظ هذه الحقيقة الكثير من السكان الفقراء المحليين. تزعم إسرائيل أنها "دولة يهودية". خلال مئات السنين كان اليهود لاجئين ملاحقين في أوروبا. ولكن الآن لا يكفي أن الحكومة قد سدّت مسار دخول اللاجئين إلى إسرائيل، فقد بدأت تبادر إلى عقد صفقة مثيرة للاشمئزاز: ستستقبل رواندا، الدولة الإفريقية الصغيرة هؤلاء اللاجئين مقابل 5000 دولار ستدفعه لها الحكومة الإسرائيلية مقابل كل شخص يصل إليها. سيحصل كل لاجئ سينتقل إليها "بإرادته" على 3500 دولار، ولكن إذا رفض، سيُسجن لفترة غير محددة. هل ستعمل الحكومة على طرد اللاجئين؟ سجنهم؟ هل سيحدث هذا في "الدولة اليهودية"؟ من الصعب أن نصدّق. يدعو جباي حزبه الآن إلى التصويت لصالح هذه الخطوة الحقيرة! إضافة إلى ذلك صرح جباي بأقوال لا تصدّق. وأدان موقف حزبه تجاه اليهودية. قبل سنوات التقطت إحدى الكاميرات صورة لنتنياهو، عندما كان يهمس في أذن حاخام بأنّ "حزب العمل نسي ماذا يعني أن تكون يهوديا". الآن كرر جباي الاتهام ذاته. وفق ادعائه "نسي حزب العمل ماذا يعني أن تكون يهوديا". لا شيء يمكن أن يصدم هذا الحزب. أسس ملحدون الحزب قبل مائة عام، مثل دافيد بن غوريون، الذي رفض اعتمار القلنسوة أيضا في الجنائز. (أحيانا أعتمر أنا أيضا قلنسوة في الجنازات، احتراما للفقيد وأهله المتديّنين). بدأ كل المشروع الصهيوني كانتفاضة ضدّ الدين. لحقت شتائم كثيرة ببنيامين زئيف هرتسل من معظم الحاخامات المهمين في عصره تقريبًا. فقد طرد الله بجلاله اليهود من بلادهم بسبب خطاياهم، والله وحده قادر، بواسطة المسيح، على إعادتهم إليها إذا اعتقد أن ذلك هو العمل الصواب. كانت حركة العمل الصهيونية ملحدة دائما تماما، فيما عدا عدد قليل من المتدينين فيها. تشكل كلمات جباي بناء على ذلك انقلابا أيديولوجيا. (كما هو معلوم، يعني "جباي" في العبرية مدير الكنيس). ماذا يعني "أن تكون يهوديا" في أيامنا؟ لا أحد يعلم. هل اليهودية معناها الدين؟ الشعب؟ كلاهما؟ هل يعني ذلك فقط أن الإنسان يتماهى مع تاريخ اليهود والتقاليد اليهودية، أم إنه يؤمن بأنّ الله "اختارنا من بين جميع الشعوب"؟ ومن يهمه ذلك حقا؟ هل يؤمن جباي فعلا بكل هذه الأمور، أم هذه مجرد دعاية؟ ربما تكون الإجابة الثانية تحديدا هي الصحيحة. جباي رجل أعمال فذ وداهية. يستخدم منطق رجل الأعمال. إنه يؤلف الأرقام. هناك طريقتان لتحليل واقعنا السياسي. الطريقة العادية هي الطريقة البسيطة: عدّ الأصوات في الانتخابات. بحسب هذه الطريقة يحظى اليمين بغالبية واضحة. فيما عدا الليكود، فإنّ هذه الغالبية مؤلفة من حزبين يمينيين متطرفين - "إسرائيل بيتنا"، "البيت اليهودي"، "كلنا"، والأحزاب الحاريدية. إن اليسار (أو " وسط اليسار"، وفق التسمية المفضّلة لديه) مؤلف من حزب العمل، ميرتس، "هناك مستقبل"، والقائمة العربية. من أجل تغيير هذا التوازن، على حزب العمل أن يجذب عددا كبيرا من الناخبين من اليمين المعتدل. يمكن النظر إلى المنظومة أيضا بطريقة أخرى: هناك أقلية يمينية مقابل أقلية يسارية، وفي الوسط هناك الحشود الكبيرة من الناخبين. ولكن النتيجة هي ذاتها: على الوسط - اليسار أن يسحب من اليمين ما يكفي من الأصوات من أجل تغيير التوازن. كيف؟ تبدو إجابة جباي منطقية: يجب سرقة أصوات الناخبين، أي في الواقع: تبني شعارات اليمين، التنكّر لشخص متديّن، العمل كقومي، وتمكين اليمينيين من التصويت لك. يبدو أن هذا هو تكتيك جباي. هل سينجح ذلك؟ في السياسة، النجاح هو الإثبات. إذا جذب جباي ما يكفي من الناخبين اليمينيين، يمكن أن يغيّر التوازن. ولكن إذا خسر الحزب أصوات اليسار، فهذا لا يهم. سيصوّت هؤلاء الناخبون لصالح حزب ميرتس، وسيكون بدوره في الواقع شريكا في كل ائتلاف يساري. (ولأنّ حزب ميرتس وصل الآن إلى نقطة نسبة الحسم، فإنّ ذلك قد ينقذه). وإذا غضب العرب، فهذا أيضا لا يهم - فليس أمامهم مناص سوى دعم حكومة يسارية "من الخارج". ولكن ماذا إذا أدت هذه الطريقة إلى كارثة؟ المنطق السياسي مختلف تماما عن المنطق التجاري. إنه لا يسير وفق المنطق القائل إن 2 + 2 = 4. في السياسة قد تكون الإجابة 3 أو 5. وحينها تخطر في بالي فكرة مقلقة: ربما لا يكون ذلك أصلا تكتيكا سياسيا، ربما يؤمن جباي بذلك حقا؟ نطلب من الله رحمته! |