اوري افنيري 

المشكلة الرهيبة / أوري أفنيري


زئيف بنيامين بيجن ابن مناحم بيجن هو لطيف جدا. لا يمكن ألا يُحَب. فهو خلوق جدا، ومتواضع. ويرغب الآخرون بصحبته.

ولكن للأسف الشديد، آراؤه محبوبة أقل. إنه متطرف أكثر من والده. لقد التقى والده الذي كان زعيما للإتسل بأنور السادات وصنع السلام معه. أما زئيف بيجن فهو أشبه بجولدا مائير، التي تجاهلت تمهيدات السلام التي أبداها السادات وورطتنا بحرب يوم الغفران.

بيجن الابن مخلص لتوراة حركة الصهيونية التصحيحية التي أقامها زئيف جابوتنسكي. تولي هذه الحركة أهمية للكتابات والتصريحات. بالمقابل، لم يمنح حزب العمل برئاسة دافيد بن غوريون أية قيمة تقريبا للكتابات والتصريحات، محترما "الحقائق الواقعية" فقط.

في الأسبوع الماضي، كتب بيني بيجن أحد مقالاته النادرة. كان هدفه الرئيسي هو إثبات أنه لا يمكن صنع السلام مع الفلسطينيين. وفق رأيه، هذا وهم هواة السلام الإسرائيليين ("هآرتس" 09.10.17). في الوقت الذي اقتبس فيه نصوصا فلسطينية مختلفة، خطابات وحتى كتبا تعليمية، يثبت بيجن أن الفلسطينيين لن يتنازلوا عن "حق العودة".

بما أن "حق العودة" منوطا بنهاية الدولة اليهودية، يوضح بيجن أن السلام هو أضغاث أحلام. لهذا لن يُصنع أبدا. النهاية.

توصل مفكّر كبير آخر يدعى ألكسندر يعقوبسون إلى الاستنتاج ذاته حقا ("هآرتس" 26.09). كان المقال موجها إلي شخصيا، وورد في عنوانه أني "مخلص لإسرائيل ولكن ليس للحقيقة". فهو يتهمني بالتعامل المتسامح تجاه حركة المقاطعة بي. دي. اس، التي تسعى إلى القضاء على إسرائيل.

كيف يعرف؟ بكل سهولة: تصادق تلك الحركة على "حق العودة" للفلسطينيين. كما يعرف الجميع، فإن معنى "حقّ العودة" هو نهاية الدولة اليهودية.

حسنا، أنا أعارض تلك الحركة لأسباب مختلفة. كانت حركة "كتلة السلام"، التي أنا عضوا فيها أول من فرض (منذ عام 1997) المقاطعة على منتجات المستوطنات. كان هدفنا هو إبعاد الجمهور الإسرائيلي عن المستوطِنين. ولكن حققت المقاطعة ("سحب الاستثمارات، إلغائها، وخوض الإضرابات") نتيجة عكسية. بما أنها ترغب في فرض مقاطعة على إسرائيل بأكملها، فهي تدفع الجمهور الإسرائيلي نحو المستوطِنين.

في الحقيقة، لا أرغب بتشجيع سكان العالم على مقاطعتي.

ولكن من بين كل اقتراحات حركة بي. دي. اس فإن البند الذي يطالب بالاعتراف بـ "حق العودة" أقل ما يقلقني. أعتقد أنه سخيف فقط. إذ أن الحركة ليست قادرة أيضا بعد مرور آلاف السنوات على إجبار الدولة القيام بعمل رغما عنها. إذا، لماذا التأثر؟

أولا، سأتطرق قليلا إلى الحقائق.

عندما غادر البريطانيّون فلسطين في عام ‏1948‏، كان يعيش بين البحر والنهر نحو ‏1.2‏ مليون عربي ونحو ‏635,000‏ يهودي. خلال حرب 1948 هرب أو طُرد ما معدله ‏720,000‏ عربي. تدعى هذه الظاهر في يومنا هذا تطهيرا عرقيا. بقي القليل من العرب فقط في الأراضي التي احتلها اليهود، ولم يبقَ يهودي واحد في الأراضي التي احتلّها العرب. لحسن حظنا، نجح العرب في احتلال مناطق صغيرة فقط (القدس الشرقية، جوش عتصيون، بيت هاربه، وغيرها) ولكننا احتللنا مناطق واسعة ومأهولة. كنت جنديا وشاهدت الأحداث عن كثب.

تكاثر اللاجئون العرب بسبب الزيادة الطبيعية، وأصبح تعدادهم نحو ستة ملايين. يعيش نحو مليون ونصف المليون في الضفة الغربية المحتلة، ويعيش نحو مليون إضافي في قطاع غزة، أما البقية فهم موزعون في الأردن، لبنان، سوريا، وجميع أنحاء العالم.

هل يرغب كل هؤلاء بالعودة إلى إسرائيل، في حال سنحت لهم الفرصة؟ هذا هو السؤال الهام.

قبل عامين مررت بتجربة استثنائية.

دعيت لإلقاء خطاب في نيو يورك. لمزيد دهشتي وسروري، شاهدت في الصف الأول في القاعة صديقي الشاعر العربي الشاب راشد حسين، المولود في قرية مصمص بالقرب من أم الفحم. لقد شجعني على زيارته في شقته، قريبا من نيو يورك.

دُهِشت عندما زرته. كانت شقته الصغيرة مليئة بالناس. كان فيها لاجئون فلسطينيون كثيرون، منهم الشبان والمتقدمون في السن، رجالا ونساء. دار بيننا نقاش طويل ومفعم بالأحاسيس حول مشكلة اللاجئين.

عندما سافرنا، قلت لزوجتي راحيل: "هل تعرفين ما أشعر به؟ يطالب القليلون فقط بالعودة إلى البلاد، ولكن الجميع مستعد للتضحية من أجل حق العودة".

أعربت راحيل التي كانت شديدة الملاحظة، أن هذا ما شعرت به أيضا.

واليوم بعد مرور عشرات السنوات منذ ذلك الحين، أنا مقتنع أن وجهة النظر هذه ما زالت صحيحة. أعتقد أن هناك فارقا كبيرا بين المبادئ والتطبيقات.

لا يمكن إلغاء المبادئ. فهي خاصة باللاجئ الوحيد. ومنصوص عليها في القانون الدولي. وهي مقدسة.

على كل اتفاقية سلام مستقبلية بين إسرائيل وفلسطين أن تتضمن بندا يصادق على أن إسرائيل توافق مبدئيا على حق العودة للاجئين الفلسطينيين ونسلهم.

لن يكون في وسع أي زعيم فلسطيني التوقيع على اتفاقية لا تتضمن هذا البند.

بعد إبعاد هذه العقبة يمكن بدء نقاش حقيقي حول الحل.

يمكن أن أتخيل المشهد: بعد التوصل إلى اتّفاق في مؤتمر السلام حول هذا البند، يتنفس رئيس المؤتمر الصعداء ويصرح: الآن دعونا يا أصدقائي ننتقل إلى مشكلة اللاجئين الحقيقية. كيف يمكن أن نحلها في الواقع؟"

لدينا ستة ملايين لاجئ. هناك فئات مختلفة منهم. ليس هناك حل ملائم للجميع.

فهناك لاجئون، ربما معظمهم، ممن يعيشون منذ الخمسين عاما الماضية في بلاد أخرى. ويعتقدون أن حق العودة هو حق أساسي. لا يحلمون بالعودة إلى قراهم، حتى وإن كانت لا تزال قائمة. فهناك اللاجئون الأغنياء، حتى الأغنياء جدا.

أحد هؤلاء اللاجئين هو صديقي (هل تسمح لي أن أصفك صديقا لي؟) سلمان أبو ستة، الذي سار حافي القدمين في النقب في صغره. في عام 1948، هرب مع أسرته إلى غزة، ومن ثم أصبح مقاولا ناجحا جدا في إنجلترا ودول الخليج. التقينا في مؤتمر السلام في باريس ودار بيننا حديثا طويلا وهاما أثناء وجبة عشاء شخصية. لم نتفق على كل الأمور.

أصر أبو ستة أنه يجب السماح للاجئين بالعودة إلى إسرائيل حتى وإن كان على جميعهم العيش في النقب. لا أعتقد أن قراره كان منطقيا.

مع مرور الوقت، كانت لدي عشرات النقاشات مع الفلسطينيين حول حل مشكلة اللاجئين، بدءا من ياسر عرفات وانتهاء بسكان معسكرات اللاجئين بالقرب من بيروت. كان من المتوقع أن توافق الأكثرية في يومنا هذا على صيغة تسعى إلى "حل عادل ومتفق عليه لمشكلة اللاجئين". "متفق" عليها هو القصد مع إسرائيل.

تظهر هذه الصيغة أيضا في برنامج السلام العربي الذي أعِدّ في السعودية ووافق عليه العالم الإسلامي رسميًّا.

ما هي خطة عمل ذلك البرنامج في الواقع؟

بموجبه على كل عائلة من اللاجئين الاختيار بين العودة وبين الحصول على تعويضات ملائمة.

العودة إلى أين؟ في حالات استثنائية قليلة جدا، ما زالت قرى اللاجئين غير مأهولة. يمكن أن نتخيل أن يعيد سكانها الأصليون ترميمها - ربما ترميم قريتين أو ثلاث.

يُسمح لعدد من الفلسطينيين وفق الاتفاق بالعودة إلى إسرائيل، لا سيما اللاجئين الذين لديهم عائلات، فيمكنهم أن يعودوا ويعيشوا حياتهم من جديد.

يصعب على الإسرائيليين قبول هذه الفكرة. من الصعب ولكن ليس مستحيلا. يعيش في إسرائيل الآن نحو مليوني مواطن عربي، وهم يشكلون أكثر من %20 من إجمالي السكان. لن يُحدِث عدد إضافي من اللاجئين مثلا ربع مليون إضافي أية تغييرات هامة.

بالمقابل، يحصل الآخرون على تعويضات سخية، وسيكون في وسعهم استخدام المال لتأسيس أنفسهم في الدول التي يعيشون فيها، أو من أجل الهجرة إلى دول مثل أستراليا، وكندا اللتين تفرحان لاستقبالهم واستقبال أموالهم.

يعيش نحو 1.5 لاجئ في الضفة الغربية وقطاع غزة. بالمقابل، يعيش عدد كبير من اللاجئين في الأردن وهو حاصل على الجنسية الأردنية. وهناك القليلون الذين ما زالوا يعيشون في مخيّمات اللاجئين. سيحصل الجميع بكل سرور على تعويضات.

من أين سيأتي المال؟ على إسرائيل أن تدفع حصة (لا سيما أنها ستوفر مالا كثيرا من تقليص ميزانية الأمن). وعلى المنظمات الدولية أن تتبرع بوفرة أيضا.

هل هذا ممكن؟ نعم لا شك.

أجرأ على القول أكثر من ذلك: إذا كان الجو ملائما فهذا محتمل جدا. خلافا لرأي بيني بيجن في النصوص المكتوبة (التي هي ثمرة أعمال مفكّرين يهتمون بمصالحهم) عندما تنفذ هذه الخطة - إلى حد معين - لا يمكن اعتراضها.

يُحظر علينا أن ننسى للحظة: هؤلاء اللاجئون هم بشر.