اوري افنيري 

تحقيق المستحيل / أوري أفنيري


أنا أحبّ الرئيس رؤوفين ريفلين، حبا كبيرا.

قد يبدو ذلك غريبا بعض الشيء، لأنّه يمينيّ. هو عضو في الليكود ويؤيد فكرة إسرائيل الكبرى.

ولكنه إنسان، متواضع، ولطيف. تعيش أسرته في البلاد منذ أجيال طويلة. يعتبر نفسه رئيسا لكل الإسرائيليين، بما في ذلك المواطنين العرب.

يبدو لي أنّه في أعماق قلبه يزدري بنيامين نتنياهو وأمثاله.‎ ‎

إذن فكيف تم انتخابه رئيسا؟ يتم اختيار رئيس الدولة في تصويت سري في الكنيست. أشك كثيرا أنّه لم يصوت جميع أعضاء الليكود لصالحه، وأنّه انتُخب بغالبية أصوات الوسط واليسار.

نشر الرئيس هذا الأسبوع خطة سلام. وهذا ليس أمرا عاديا مفهوما ضمنا، حيث إنّ منصب الرئيس هو شرفي إلى حدّ كبير.‎ ‎

تستند خطته إلى كونفدرالية بين "كيانية": كيان يهودي-صهيوني وكيان عربي-فلسطيني.

لم يدخل الرئيس في التفاصيل. من الواضح أنه يعتقد من المفضل في المرحلة الحالية إطلاق فكرة عامة، حتى يعتاد الناس عليها. من الممكن جدا أن يكون هذا نهجًا حكيمًا.

ومع ذلك، فهو يزيد من صعوبة النقاش الجادّ حول الخطة. كما يقولون، يسكن الشيطان في التفاصيل الصغيرة. يمكن أن تكون تلك خطة جيدة جدا، وربما خطة سيئة جدا. الأمر قابل للتغيير، وذلك وفق التفاصيل.

ولكن هناك إيجابية كبيرة في حقيقة أن ريفلين قد نشر فكرته. في إسرائيل في هذه الأيام، جميع الأفكار مجمّدة. وهذا ينشئ جوّا من عدم الاهتمام، اللامبالاة بل واليأس. التوجه العام هو أنّه "لا يوجد حلّ". يعزز نتنياهو هذا الاتجاه، ويخلُص منه إلى استنتاج: "سنعيش بالسيف إلى الأبد".

إنّ فكرة الفدرالية بحدّ ذاتها ليست جديدة. أنا أيضا فكرت فيها عدة مرات. (ولذلك علي أن أطلب المعذرة إنْ كنت قد كررت هنا أشياء كتبتها في الماضي).

قبل حرب 1948، اعتقد بعضنا أنّ العبريين والعرب في البلاد يمكنهم أن يندمجوا وأن يصبحوا أمة جديدة مشتركة. وقد شفتْني الحرب من هذا الوهم. مما رأت عيناي استنتجتُ أنّ هناك قوميتين تعيشان في البلاد، وأنّ كل حلّ واقعي يجب أن يتأسس على هذه الحقيقة.

بعد الحرب مباشرة، في بداية عام 1949، التقت مجموعة صغيرة من أجل البحث عن حلّ. كان فيها أيضًا عربيّان، أحدهما مسلم والآخر عربي درزي. أنشأت هذه المجموعة ما يسمى الآن "حلّ الدولتَين" في البلاد الواقعة بين البحر ونهر الأردن، وربما أيضًا وراءه. والآن هناك إجماع عالمي تامّ حول ذلك.

كان من الواضح لنا أنّ دولتين في بلاد صغيرة كبلادنا لا يمكنهما أن تعيشا بجانب بعضهما البعض دون تعاون وثيق بينهما. درسنا إذا ما كان بالإمكان تسمية ذلك فدرالية، ولكننا قررنا التخلي عن ذلك، لكيلا يخيف هذا المصطلح أحدا من الجانبين، وربما كلاهما.

بعد حرب عام 1956 مباشرة (في هذه البلاد نحن دائما "مباشرة بعد حرب") أقمنا مجموعة أكبر بكثير، والتي سمّت نفسها "العمل السامي". كان من بين أعضائنا ناتان يلين-مور، الذي كان في الماضي قائد منظمة ليحي، الكاتبان بوعز عفرون وعاموس كينن والعديد غيرهم.

كرّسنا عاما كاملا لصياغة وثيقة لا مثيل لها، في رأيي، في تاريخ البلاد قبل وبعد ذلك. كانت تلك خطة تفصيلية لتغيير وجه البلاد في جميع مجالات الحياة. سمّينا هذه الوثيقة "البيان العبري".

اقترح هذا البيان فدرالية بين دولة إسرائيل ودولة فلسطين، وعلى رأسها المؤسسات المشتركة المطلوبة. وقد اقترحت الوثيقة أيضًا كونفدرالية إقليمية، تشمل جميع الدول العربية، دولة إسرائيل، وربما أيضًا تركيا وإيران، واللتين رغم أنهما ليستا دولتين ساميتين فإن السكان فيهما يعتنقون دينا ذا أصول سامية واضحة. بعد حرب الأيام الستة مباشرة (مرة أخرى) أقمنا مجموعة اسمها "فدرالية إسرائيل-فلسطين"، وكررنا فيها الاقتراح ذاته في الظروف الجديدة. وقد أُسكِتَ صوتها في ضجيج سكرة النصر.

منذ ذلك الحين طُرحت فكرة الفدرالية أو الكونفدرالية مرات عدة بأشكال مختلفة، ولكنها لم تضرب جذورها.

إن المصطلحات ذاتها ليست دقيقة. ما الفرق بينها؟ فهي تحظى في البلدان المختلفة بمعانٍ مختلفة. روسيا هي بشكلٍ رسميّ فدرالية، وإنْ لم يكن واضحا ما هي حقوق مختلف المكونات. سويسرا تدعو نفسها كونفدرالية. ألمانيا هي "جمهورية فدرالية". الاتحاد الأوروبي يمثّل في الواقع كونفدرالية، رغم أنه لا يسمّي نفسه كذلك.

من المعتاد الافتراض أنّ "الفدرالية" هي تحالف وثيق أكثر من "الكونفدرالية". بدا ذلك واضحا في الحرب الأهلية الأمريكية، عندما قاتل الشمال "الفدرالي" الجنوبَ "الكونفدرالي" لمنعه من الانسحاب من الاتحاد، الذي بدا له وثيقا جدا.

ولكن، كما ذكرنا، فإنّ هذه المصطلحات قابلة للتغيير جدّا. وهي أيضًا ليست مهمّة جدا. المضمون هو الذي يحدد، والمضمون مختلف بالضرورة من بلد إلى آخر، وفقا للظروف والتطوّرات التاريخيّة.

يكمن جمال هذه الفكرة بخصوص بلادنا في كونها تحقق المستحيل.

ماذا يريد الجانبان؟

يريد اليهود دولة يهودية، دولة مؤسسة على الثقافة اليهودية والتاريخ اليهودي، يتحدثون فيها بشكل أساسيّ بالعبرية والمرتبطة بالشتات اليهودي. فيما عدا أقلية صغيرة جدا، فإنّ هذه الرغبة مشتركة بين جميع الإسرائيليين اليهود. أراد الكثير من الإسرائيليين أيضًا الحفاظ على كامل البلاد، وبشكل أساسي على كامل القدس.

يريد الفلسطينيون أن تقوم في النهاية دولة فلسطينية حرّة، يكونون فيها أسيادا لأنفسهم، يتحدّثون بلغتهم، يعزّزون ثقافتهم ودينهم ويسنّون قوانين خاصة بهم، دولة حرّة من دون احتلال.

يمكن أن تحلّ الفدرالية أو الكونفدرالية هذا التناقض الظاهري، وأن تحققا المستحيل. كانت ستمكّن كل شعب من الشعبَين العيش في دولة خاصة به، الحفاظ على هوية قوميته، علمه ونشيده الوطني، وفيها حكومة خاصة به وفريق كرة قدم خاص به، مع الحفاظ على البلاد كاملة وحلّ المشاكل المشتركة في مؤسسات مشتركة، بالتنسيق والتعاون الوثيقين. ستكون الحدود بين الدولتين بالضرورة مفتوحة لمرور البشر والبضائع، من دون حواجز.‎ ‎

لستُ خبيرا في أمريكا الشمالية، ولكن يبدو لي أنّ هذا هو الوضع القائم بين الولايات المتحدة، كندا، والمكسيك (على الأقل، حتى يصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض) - رغم الفوارق في اللغات والحالة الاجتماعية للشعوب الثلاثة.

آمل ألا يكتفي الرئيس ريفلين بإطلاق الفكرة. ليته يعمل في هذا الشأن، ضمن حدود منصبه.

كنت سأقترح أن يجمع الرئيس في مقرّه مجلسا من الخبراء لدراسة التفاصيل، استيضاح كيف سيبدو ذلك عمليا.

لا أعتقد أن أحد الجانبين سيكتفي بـ "كيان". لن يتخلّى الإسرائيليون-اليهود عن دولتهم، ولن يكتفي العرب-الفلسطينيون بما هو أقلّ من "دولة". حسنا، لا مشكلة.

أولا وقبل كل شيء يجب إيجاد حلّ لمشكلة الجيش. هل سيكون هناك جيشان منفصلان، مع آلية للتعاون، وألا تكون علاقات غير متكافئة أبدا والقائمة اليوم بين الجيش الإسرائيلي و "القوى الفلسطينية"؟ هل يمكن إيجاد جيش مشترك؟ أم شيئًا في الوسط؟

إنها مشكلة صعبة. وهناك مشكلة أصغر في مجال الصحة. فهناك حقا تعاون واسع بين الشعبَين في هذا المجال. يعمل أطباء وممرضون عرب في المستشفيات الإسرائيلية، ويقدّم أطباء إسرائيليون المشورة إلى زملائهم الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

وماذا عن التعليم؟ في كل واحدة من الدولتين سيكون التعليم مستندا بطبيعة الحال إلى لغة الدولة، ثقافتها، تاريخها، وتقاليدها. في كل دولة، سيتعلّم التلاميذ أيضًا لغة الدولة الأخرى، كما يتعلّم التلاميذ في سويسرا لغتين على الأقل من بين اللغات الأربع في البلاد.

هذا لا يكفي. في كلا الجانبين سيحتاج المعلّمون إلى التعلّم من جديد من أجل أن يتعلّموا على الأقل أسس الثقافة والدين في الدولة الأخرى. ستكون هناك حاجة إلى تنظيف الكتب التعليمية في كلا الجانبين من بقايا الكراهية المتبادلة، بحيث تستطيع عرض رواية موضوعية لِما حدث هنا في الـ 120 عاما الأخيرة.

يشكّل الاقتصاد مشكلة كبيرة. يزيد متوسط الدخل في إسرائيل بـ 20 ضعفا (نعم، وهذا ليس خطأ مطبعيا. ليس 120%، وإنما 2000%) عن متوسط دخل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ستكون هناك حاجة لبذل جهود فدرالية لتقليص هذه الفجوة الضخمة.

بالطبع فليس كل شيء يمكن تخطيطه وفرضه. هناك في الحياة منطق خاص بها. سيرغب رجال الأعمال الإسرائيليين في النموّ في المملكة العربية السعودية والعراق، على سبيل المثال، ولأجل ذلك سيبحثون عن شركاء فلسطينيين. سيستخدم رجال الأعمال الفلسطينيون خبرة وثروة الإسرائيليين من أجل إقامة أعمال في اليمن والمغرب. بشكل غير متعمّد، ستنشأ علاقات ودّية. وسيكون هناك زواج مختلط أحيانا. (لا، بحقّ السماء، أرجو أن تحذفوا الجملة الأخيرة!!!)

وهناك منطق وراء العلاقات الشخصية أيضًا. عندما يلتقي الحاخامات ورجال الدين المسلمون، سيكتشفون التشابه المذهل بين الديانتين الإسلامية واليهودية (القريبتان من بعضهما بلا حدود أكثر من قربهما من المسيحية). سيربط المال بين رجال الأعمال، وسيجد الأكاديميون لغة مشتركة بسهولة.

وستكون هناك، بطبيعة الحال، صعوبات كبيرة. ماذا سيحدث للمستوطنين؟ هل يمكن أن يقتنعوا أنّه من المفضل السماح لبعضهم في البقاء مكانهم، مقابل موافقة إسرائيلية على عودة بعض اللاجئين؟‎ ‎

هل يمكن تبقى القدس موحدة كعاصمة الدولتين وعاصمة المؤسسات الفدرالية؟

أين ستكون الحدود بين سلطة كلا الحكومتين القوميتين والمؤسسات الفدرالية؟

لا يمكن المبالغة بالدور الذي يمكن للرئيس ريفلين أن يلعبه بشأن ذلك كله.

يمكنه أن يرسل رسالة واضحة من خلال اجتماع الخبراء في مقرّ الرئيس، كي يديروا هناك مناقشاتهم النظرية. لن يشكّل ذلك خطورة على مكانته.

يمكن أن يكون تأثير نفسي كبير لتلك النقاشات نفسها، أن تغيّر الأجواء وأن تحيي الأمل، وأن تنشئ التفاؤل مجددا.

الرئيس ريفلين هو شخص متفائل بطبيعته. وهكذا أنا أيضًا. من دون تفاؤل، لن يتغيّر شيء نحو الأفضل.

يمكن للرئيس أن يثبت للناس العاديين في كلا الجانبين: نعم، يمكن تحقيق المستحيل!