|
||
في الوقت الذي كان يتعرّض فيه السكّان للقنابل والصواريخ، دون "القبة الحديدية"، كان تشرتشل نفسه يختبئ في أنفاق تحت مبنى رقم 10 في شارع داوننج. لقد احتفظ بجميع سكان بريطانيا كرهائن. حين عرض عليه زعيم ألمانيا عام 1940 مقترح سلام سخيّ، قام برفضه، لدوافع أيديولوجية ظلامية، وهكذا حكم على شعبه بعذاب لا يُوصف. بين الفينة والأخرى، خرج تشرتشل من النفق الذي اختبأ فيه، التقط صورًا بجانب الدماء وعاد إلى المكان الآمن. ولكنه قال للسكّان: "ستقول الأجيال القادمة إنّ هذه كانت أجمل أوقاتكم!" لم يكن هناك مناص لسلاح الجوّ الألماني إلا بمواصلة قصف المدينة. أراد قادته، كما قالوا، أنّ يقصفوا أهدافًا عسكرية واضحة، كالمنازل الخاصة بالجنود البريطانيّين، والتي تمّ فيها عقد اجتماعات وإعطاء أوامر. دعا سلاح الجو الألماني سكّان لندن إلى ترك المدينة، وتم إخلاء الكثير من الأطفال فعلا. ولكن، استجاب معظم السكّان لدعوة تشرتشل وظلّوا، وهكذا تحوّلوا إلى "ضحايا بيئيّين". لقد تبدّد تمامًا أمل القيادة الألمانية، في أن يؤدّي فقدان منازل سكان لندن وقتل أسرهم إلى إسقاط تشرتشل وأصدقائه مروّجي الحرب من الحكم. استجاب سكان لندن البدائيّون، الذين تجاوزت كراهيّتهم لألمانيا كلّ اعتبارات المنطق، بشكل طائش لجميع تعليمات تشرتشل الجبان. ازداد إعجابهم قوّة يومًا بعد يوم، وتحوّل تشرتشل خلال الحرب إلى إله تقريبًا. وينتصب اليوم أيضًا تمثال له أمام مبنى البرلمان في لندن. بعد مرور أربع سنوات تبدّلت الأحوال. قصف سلاح الجوّ البريطاني والأمريكي المدن الألمانية ودمّرها تمامًا. لم يُترك حجرٌ في مكانه، تمّ تدمير مبان كبرى وكنوز ثقافية، وتم سحق مواطنين "غير متورّطين"، حُرقوا أحياء بل واختفوا تمامًا. تمّ تدمير مدينة درسدن كلّها، وهي من أجمل مدن أوروبا، خلال بضع ساعات في "عاصفة نيران". كان الهدف المعلن هو تدمير صناعة الحرب الألمانية، ولكن هذه تحديدًا لم تُصب بأذى. كان الهدف الحقيقي هو فرض الرعب غير المسيًطر عليه على السكّان المدنيّين ودفعهم لإسقاط القادة والاستسلام. لم يحدث هذا. نُفّذ التمرّد الوحيد الذي كان ضدّ هتلر تحديدًا من قبل ضبّاط كبار (وفشل). لم ينتفض السكّان المدنيّون، ولكن العكس. دعا جوبلز في أحد خطاباته ضدّ "طيّاري الإرهاب" قائلا: "يمكنهم أن يكسروا بيوتنا ولكن ليس أرواحنا!" لم تستسلم ألمانيا حتى آخر لحظة. لم تكن ملايين الأطنان من القنابل مجدية. لقد عزّزت فقط من الروح المعنوية للسكّان وولائهم لقادتهم. ومن هنا إلى غزة. الجميع يسأل: من المنتصر في هذه الجولة؟ يجب الإجابة على ذلك، بالطريقة اليهودية، بالسؤال: وفقًا لأي شيء نحكم؟ إنّ التعريف التقليدي للانتصار هو: المنتصر في المعركة هو الذي يبقى في ساحة المعركة بعد أن تنتهي. ولكن هنا لم يتحرّك أيّ أحد. حماس لا تزال هناك. وإسرائيل أيضًا. قال كارل فون كلاوزفيتز، الجنرال البروسي الذي يعتبر أعظم منظّري الحرب: من المعروف أنّ الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. ولكن في هذه الحرب لم يكن لأي من الأطراف هدفًا سياسيًّا واضحًا. ولذلك فمن غير الممكن أن نحكم بهذه الطريقة من سينتصر. لم يؤدّ القصف الثقيل لقطاع غزة إلى إخضاع حماس. من جهة أخرى، لم ينجح إطلاق الصواريخ الهائل الذي غطّى معظم أراضي إسرائيل هو أيضًا. النجاح المذهل للصواريخ، التي وصلت إلى جميع مدن إسرائيل، واعترضتها "القبة الحديدية"بنجاح مذهل. ولذلك، فحتى الآن، هذه حالة تعادل. ولكن حين تحقّق قوة صغيرة تعمل من مساحة صغيرة التعادل ضدّ أحد أقوى جيوش العالم، فإنّه من الممكن اعتبار ذلك نصرًا. غياب الهدف السياسي هو نتيجة للتفكير المشوّش. قيادتنا، السياسية والعسكرية على حدّ سواء، لا تعلم في الواقع كيف تتعامل مع حماس. ربما ننسى أن حماس هي صناعة إسرائيلية. في السنوات الأولى للاحتلال، حين تم حظر كلّ عمل سياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة تمامًا وتمت معاقبة القائمين به بشكل قاس، وكان يشكل المسجد المكان الوحيد الذي استطاع الفلسطينيون التجمع والتنظيم فيه. في نفس الوقت، اعتُبرت فتح العدوّ الأخطر على الإطلاق. انخرط قادة إسرائيل ليلا ونهارًا في شيطنة ياسر عرفات، الإرهابيّ اللدود. اعتُبر الإسلاميّون، الذين كرهوا ياسر عرفات، أهون الشرّرين، بل وحلفاء مخفيين. سألت مرة أحد رؤساء الشاباك إذا كان الجهاز قد أنشأ حماس. أجاب: "لم ننشئها، ولكن سمحنا بها". تغيّر ذلك فقط بعد بداية الانتفاضة الأولى، مع سجن زعيم حماس، الشيخ أحمد ياسين. منذ ذلك الحين، بالطبع، تبدّلت الأحوال: أصبحت فتح حليفة لإسرائيل، على الأقل من ناحية أمنية، وحماس الآن هي العدوّ اللدود. ولكن هل كان الأمر كذلك في الحقيقة؟ هناك ضباط كبار يزعمون أنّه لو لم تكن حماس موجودة، لكان هناك حاجة لإنشائها. حماس تسيطر على قطاع غزة. يمكن أن نلقي عليها مسؤولية ما يحدث هناك. إنّها توفّر القانون والنظام. إنها شريك مسؤول في وقف إطلاق النار. في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، والتي أديرت برقابة دولية، فازت حماس في الضفة والقطاع. حين أقيلت حكومة حماس، سيطرتْ على قطاع غزة بالقوة. وفقًا للتقارير الموثوقة، فالكثير من سكان غزة يؤيّدونها. يتفق جميع الخبراء الإسرائيليين بأنّه فيما لو سقطت حكومة حماس في غزة، فستسيطر هناك فصائل أكثر تطرّفًا. كان القطاع - مع المليون وثماني مائة ألف نسمة فيه - سيغرق في الفوضى. لا يحبّ الخبراء العسكريون ذلك. ولذلك فإنّ هدف الحرب، إن كان بالإمكان تسمية ذلك كذلك، ليس تدمير حماس، وإنما إبقاؤها في السلطة في حالة ضعف. ولكن كيف، بحقّ الله، يقومون بذلك؟ طريق واحدة، يقترحها رجال اليمين المتطرّف في الحكومة، وهي احتلال كلّ قطاع غزة. وعلى هذا يجيب قادة الجيش الإسرائيلي بالسؤال: ثمّ ماذا؟ في نظر الجيش، فإنّ الاحتلال الدائم لقطاع غزة هو كابوس. معناه أنّ إسرائيل ستأخذ على نفسها المسؤولية الأمنية لـ 1.8 مليون إنسان عدائي والاهتمام بجميع حاجيّاتهم. (معظمهم، بالمناسبة، هم من لاجئي حرب الـ 48 وذرّيّتهم). ستكون النتيجة حرب عصابات مستمرّة. لا يوجد أحد في إسرائيل يريد ذلك. الاحتلال ثم الانسحاب؟ من السهل أن نقول. عملية الاحتلال نفسها ستكون دامية. إذا تمّ اعتماد مبدأ "الرصاص المصبوب"، فسيكون هناك أكثر من ألف قتيل فلسطيني، وربما ألفين. مبدأ (غير مكتوب) يعني أنّه فيما لو لزم الأمر قتل مائة فلسطيني من أجل الحفاظ على حياة جندي إسرائيلي واحد، فهذا أفضل. ولكن إذا وصل عدد القتلى الإسرائيليين إلى العشرات، فإنّ الروح المعنوية في البلاد ستتغيّر تمامًا. لا يريد الجيش الإسرائيلي المخاطرة في ذلك. في اليوم الثالث، كان يبدو للحظة أنّه قد تم تحقيق وقف إطلاق للنار، للرفاهية الكبيرة لبنيامين نتنياهو وجنرالاته. ولكنه كان مجرّد وهم. كان الوسيط هو الدكتاتور العسكري المصري الجديد، شخص يحتقره جميع الإسلاميين في العالم. وهو الرجل الذي قتل وسجن المئات من الإخوان المسلمين. وكذلك متعاون عسكريّ بشكل واضح مع إسرائيل. إنّه يتوسّل للحصول على المال الأمريكي. فضلًا عن ذلك، فلأنّ حماس وُلدت من نسل الإخوان المسلمين المصريين، فإنّ الجنرال عبد الفتاح السيسي يكرههم من أعماق نفسه. ولا يخفي ذلك إطلاقًا. وهكذا، بدلا من أن يفاوض حماس، فقد قام السيسي بشيء غبيّ جدّا: فهو يملي شروط وقف إطلاق النار وفق الصيغة الإسرائيلية دون أن يسأل حماس إطلاقًا. علم قادة حماس عن وقف إطلاق النار من وسائل الإعلام. بالطبع فقد رفضوها تمامًا. في رأيي، كان من الأفضل لو أنّ إسرائيل وحماس تفاوضتا مباشرة، وجهًا لوجه. خلال التاريخ العسكري، رتّب القادة العسكريّون بينهم وقف إطلاق النار. يرسل القائد في أحد الأطراف ضابطًا مع راية بيضاء لقائد الطرف المضادّ، ويرتّبون وقف القتال. (في حرب الاستقلال تم ترتيب هدنة قصيرة في الجبهة التي قاتلتُ فيها من بين الرائد يروحام كوهين والضابط المصري الشاب جمال عبد الناصر). يبدو أنّ ذلك غير ممكن في الوضع الحالي، ولذلك فمن المطلوب أن يكون هناك وسيط مباشر فعلا. في الوقت الراهن خضع نتنياهو لضغوط رجاله/خصومه وأدخل الجيش الإسرائيلي في عملية محدودة، بشكل أساسيّ للكشف عن الأنفاق التي تهدّد سكّان المنطقة المحيطة بغزة. كيف ستكون النهاية؟ لن تكون هناك نهاية، فقط جولة أخرى وجولة أخرى وجولة أخرى؛ إلا في حال تمّ فعلا إيجاد حلّ سياسي. معنى ذلك: وقف إطلاق الصواريخ والقصف من كلا الطرفين، وضع حدّ للحصار الخانق على غزة، تمكين سكّان القطاع من الحياة بشكل اعتيادي، دعم الوحدة الفلسطينية تحت حكومة وحدة حقيقية، والتفاوض الجادّ. إحلال السلام. |