اوري افنيري 

كابتن بويكوت يطلّ مجدّدًا / أوري أفنيري


دومًا كان لديّ طموح خفيّ بأنّه في يوم من الأيام سيدعى قرار للمحكمة العليا على اسمي.

إنّه نوع من الخلود. بعد زمن طويل من رحيلي عن هذا العالم سيقتبس المحامون بالتماسي وسيعتمدون على قرار الحكم.

يجري الآن تناول قضية "أوري أفنيري وآخرين ضدّ الكنيست ودولة إسرائيل". فقد حُكم عليه هذا الأسبوع في المحكمة العليا. تتعلّق القضية بقانون المقاطعة الذي سنّته الكنيست.

بعد عدّة ساعات من قبول القانون في القراءة النهائية قدّمت حركة "كتلة السلام" وأنا شخصيًّا التماسًا لإلغائه. وقد أعددنا الحجج القانونية المفصّلة مسبقًا في وقت مبكّر. ولذلك حملت القضية اسمي. أما سائر أصحاب الالتماسات، الذي تم تسميتهم بإهانة "آخرين"، يشملون نحو عشر منظّمات لحقوق الإنسان، من اليهود والعرب.

بعد رحلة "الأنا" هذه، سأتطرق للقضية.

كانت جلسة المحكمة ليست عادية بالمرة. بدلا من ثلاثة قضاة، كما هو معتاد، اشترك في المحكمة تسعة قضاة من المحكمة العليا، تقريبًا كلّ المحكمة. وقد مثّل عشرات المحامين كلا الطرفين. وكان من بينهم المحامية الخاصة بنا، جابي لسكي، والتي افتتحت الادّعاء باسم مقدّمي الالتماس.

لم يكن القضاة سلبيّين، ضجِرين كالعادة. اشترك كلّ القضاة التسعة في النقاش، طرحوا أسئلة، قدّموا ملاحظات استفزازية. كان من الواضح أنهّم مهتمّون بشدّة.

لا يحظر القانون المقاطعة بشكل عام. لم يُطبّق على الكابتن تشارلز بويكوت، والذي سمّيت المقاطعة على اسمه باللغة الأجنبية.

كان الكابتن بويكوت مديرًا لأحد العقارات في إيرلندا. عام 1880، عام الجوع في إيرلندا، قام الكابتن بطرد المزارعين المستأجرين الذين عملوا في الأرض ولم يكونوا قادرين على دفع الإيجار. بدلا من الإضرار به جسديّا، اتّخذ جيرانه طريقة جديدة ضدّه: لقد قاطعوه، لم يتحدّثوا معه، لم يعملوا عنده، لم يبيعوه شيئًا، لم يحضروا له البريد. ولم يساعده أيضًا العمّال الأجانب، الذي أحضروا للمكان مع ألف جندي بريطاني. انتشرت هذه الطريقة، ودخل اسم بويكوت إلى اللغة الإنجليزية ولغات كثيرة أخرى.

واليوم يوجد للكلمة بويكوت مفهوم أكثر اتّساعًا بكثير من المقاطعة لشخص واحد. إنها وسيلة للاحتجاج، هدفها الإضرار بشريحة معيّنة سواء من ناحية أخلاقية أو من ناحية اقتصادية، شبيهة بإضراب العمّال.

في إسرائيل هناك مقاطعات دومًا. يدعو الحاخامات إلى مقاطعة المحلات التي تبيع لحومًا مفترسة والفنادق التي تقدّم وجبة ساخنة يوم السبت المقدّس. وقد قاطع المستهلكون الغاضبون جبنة كوتج، وتوسعت هذه العملية وتحوّلت في صيف 2011 إلى احتجاجات حاشدة. لم يعترض أحد.

إلى أن تطرّق الأمر للمستوطِنين.

عام 1997 أعلنت حركة "كتلة السلام" عن مقاطعة كل منتجات المستوطنات. في رأينا، تضرّ هذه المستوطنات بمستقبل البلاد، لأنّ مجرّد وجودها يمنع السلام والأمان. كانت تلك هي المقاطعة الأولى. دعوّنا المستهلكين الإسرائيليين إلى الامتناع عن شراء المنتجات التي يكون مصدرها المستوطنات الواقعة على الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

لم يحدث ذلك ضجّة. وحين دعوّنا إلى مؤتمر صحفي، لم يظهر أي صحافي إسرائيلي واحد، وهو الأمر الذي لم يحدث لي في السابق أبدًا وليس بعد ذلك.

ولتسهيل عملية المقاطعة، نشرنا قائمة المصانع القائمة في المستوطنات. وتفاجأنا حين طلب آلاف الأشخاص تلك القائمة. وهكذا بدأت الكرة بالتدحرج.

لم ندع إلى مقاطعة دولة إسرائيل. على العكس. كان هدفنا الرئيسي التأكيد على الفرق بين إسرائيل ذات السيادة وبين المستوطنات. كُتب على إحدى الملصقات التي أصدرناها: "أنا أشتري منتوجات البلاد - وأقاطع منتوجات المستوطنات".

في الوقت الذي كانت تعمل فيه الحكومة كلّ شيء من أجل إزالة الخطّ الأخضر، كان هدفنا إعادته إلى وعي الشعب الإسرائيلي.

أردنا كذلك الإضرار بقوة الجذب الاقتصادية للمستوطنات. عملت الحكومة بكلّ قوّتها لجذب الناس إلى هناك. لقد عرضت فيلّات أنيقة للأزواج الشابّة، والذين لم يستطيعوا أصلا التفكير في منزل متواضع في تل أبيب. لقد عرضت منحًا سخيّة وإعفاءات ضريبيّة لجذب المصانع. وقد نشأت المقاطعة ضدّ ذلك، من أجل تفعيل الضغط الاقتصادي المضادّ.

وجذبتنا أيضًا طبيعة المقاطعة. فالمقاطعة هي أداة ديمقراطية وليست عنيفة. يستطيع كلّ إنسان القيام بها بهدوء، شخصيًّا، دون أن يكون بحاجة للانضمام إلى تنظيم معيّن أو أن يعلن عن نفسه علانية.

وقد قرّرت الحكومة أن الطريقة الأفضل لتقليص الأضرار هي تجاهلنا. ولكن حين بدأت مبادرتنا بضرب الموجات في الخارج، بدأ اليمين بالقلق. وخصوصًا حين قرّر الاتحاد الأوروبي تفعيل بنود العقد التجاري مع إسرائيل، الذي يوفّر لصادراتنا مزايا واسعة ولكنّه يقرّر بصراحة أنّه لا ينطبق على المستوطنات، والتي هي ليست قانونية بشكل جليّ، بموجب القانون الدولي.

ردّ الكنيست بغضب وخصّص يومًا كاملا للموضوع. (رحلة أخرى من "الأنا": قررت أن أكون حاضرًا في النقاش. باعتباري عضو كنيست سابق جلست مع راحيل في مقاعد المحترمين. حين رآنا متحدّث يمينيّ توجّه إلينا، أشار إلينا بشكل مخالف للقواعد المقبولة في الكنيست وقال: "ها هما الزوجان الملكيّان اليساريّان!")

في الخارج أيضًا كانت المقاطعة موجّهة في البداية ضدّ المستوطنات. ولكن، أدّت محاولة الصراع ضدّ الأبارتهايد في جنوب إفريقيا إلى تغيير الاتجاه. في بلاد كثيرة، بدأت المقاطعة الشاملة لإسرائيل.

لم أدعم مقاطعة شاملة كهذه. في رأيي، إنّه يخالف الهدف. فبدلا من التفريق بين الشعب الإسرائيلي وبين المستوطنات، فإنّه يدفع كلّ الشعب الإسرائيلي بالذات إلى أيادي اليمين المتطرف والمستوطِنين. وكان الشعار مرّة أخرى: "العالم كلّه ضدّنا!"

لم يعد هناك مجال لتجاهل الأبعاد المتزايدة للمقاطعات المختلفة. قرّر اليمين الإسرائيلي التصرّف، وقام بذلك بطريقة ذكيّة للغاية.

أنقذ اليمين المقاطعة ضدّ إسرائيل من أجل أن يخرج المقاطعة ضدّ المستوطنات خارج القانون، وهي المقاطعة الوحيدة التي أزعجته حقًّا. كان ذلك هو أساس القانون الذي تمّ سنّه قبل عامين.

لا يعاقب القانون الأشخاص الذين يقومون بالمقاطعة بشكل شخصي، وإنما من يدعو إلى المقاطعة علانية.

يا له من عقاب! ليس السجن، الأمر الذي كان سيحوّلنا إلى شهداء. يقول القانون إنّ كلّ إنسان يدّعي بأنّ المقاطعة تضرّ به له الحقّ في أن يطالب بالتعويضات غير المقيّدة من الداعين للمقاطعة، دون أن يكون بحاجة إلى الإثبات بأنّه عانى من أيّ ضرر. مئات الآلاف من المستوطِنين ورجال اليمين يمكنهم أن يقدّموا مطالبات بمبالغ خياليّة. وبهذه الطريقة يمكن أن يُفرض على الداعين للمقاطعة عقوبات بملايين الشواقل.

لم ينطبق ذلك، بطبيعة الحال، على من يدعو إلى مقاطعة المحلات التي تبيع اللحوم المفترسة وجبنة الكوتج. يتعرّض القانون فقط إلى من يدعو إلى مقاطعة المؤسسات والأفراد بسبب علاقاتهم مع دولة إسرائيل، وكذلك - هذه هي الكلمات الحاسمة - "المناطق التي تسيّطر عليها".

ومن الواضح أن البنية القانونية بأكملها أنشئت من أجل تلك الكلمات فقط. لم يأتِ القانون لحماية دولة إسرائيل. ولم يأتِ لحماية المستوطنات. ذلك هو هدفه الوحيد.

وفي الواقع، فإنّ عشرات الأسئلة التي ألقاها القضاة على محامينا، تطرّقت لهذه النقطة بشكل أساسيّ.

هل نكتفي بحذف تلك الكلمات؟ (سؤال جيّد. من المفهوم أن هذا هو الشيء الرئيسي. ولكن لم نستطع أن نقول ذلك، لأنّ ادّعاءنا الرئيسي هو أنّ القانون يقيّد حرية التعبير. ينطبق ذلك على القانون كلّه).

هل كنّا سنعارض القانون فيما لو كان موجّهًا ضدّ المقاطعة العربية التي كانت على الدولة في بدايتها؟ (كانت الظروف مختلفة تمامًا).

هل نحن نعارض حرية التعبير للحاخامات الذين يحرّمون تأجير البيوت للعرب؟ (هذه ليست مقاطعة، وإنّما تمييز مطلق).

بعد عدّة ساعات من النقاش أغلقت الجلسة. سيُتّخذ القرار في تاريخ معيّن في المستقبَل. من المرجّح أن يكون قرار الأغلبية وقرارات الأقليات.

هل تجرؤ المحكمة على حذف قانون في الكنيست؟ يتطلّب هذا شجاعة قلب كبيرة. ولن أتفاجأ إذا قرّرت غالبية القضاة إبقاء القانون كما هو برمّته، ولكن أن تُحذف الكلمتين المتعلّقتين بالمستوطنات.

وإلا فستكون تلك خطوة أخرى لتحويل إسرائيل إلى دولة المستوطِنين، من المستوطِنين ولأجل المستوطِنين.

يوجد لذلك نماذج تاريخية. قام المؤرّخ البريطانيّ الشهير أرنولد توينبي (والذي أعتبر واحدًا من أنصاره) بتأليف قائمة للدول، التي سيّطرت فيها المناطق الريفية، والتي يكون سكّانها عادّةً أشدّاء وحماسيّين أكثر، مقارنة بسكّان المركز المدلّل. البروسيون، على سبيل المثال، الذين كانوا سكّان المناطق الريفية النائية، سيّطروا في البداية على نصف ألمانيا، ثم بعد ذلك عليها كليًّا. كانت سابوي أيضًا منطقة ريفية، وأسست الدولة الإيطالية الحديثة.

فليكن قرار القضاة كما يكون، شيء واحد مؤكّد: قضية "أوري أفنيري وآخرين ضدّ الكنيست ودولة إسرائيل"، ستُنقل بواسطة القانونيّين للأجيال اللاحقة.