اوري افنيري 

تهويد إسرائيل / أوري أفنيري


في يوم ميلادي الـ 16، عام 1939، سارعت إلى مكتب التسجيل لحكومة الانتداب من أجل تغيير اسمي رسميًا.

غيّرت الاسم الألماني الذي أعطي لي عند ولادتي وتبنيت لنفسي الاسم الشخصي واسم العائلة اللذين اخترتهما.

لم يكن هذا مجرد تغيير اسم. لقد كانت هذه مقولة: انفصلت عن الماضي في المجهر، عن تقاليد آبائي اليهود-الألمان وعن كل شيء كان "ذو علاقة بالمهجر".

لقد قلت: أنا عبري، جزء من المجازفة الكبيرة لإنشاء شعب عبري جديد، ثقافة عبرية جديدة ودولة عبرية جديدة، ستقوم في اللحظة التي ننجح فيها بطرد الإنجليز من بلادنا.

لقد كان ذلك عملا طبيعيًا للغاية. لقد قام بذلك جميع أصدقائي وأعزائي في اللحظة التي توفرت فيها الإمكانية القانونية.

عندما قامت الدولة، تحوّل الاسم إلى سياسة حكومية. لم يكن ممكنًا تقريبًا لذوي الاسم الأجنبي الانضمام إلى الخدمة الخارجية أو الترقي إلى رتبة أعلى في الجيش إلا في حال قاموا بتغيير اسمهم إلى عبري.

وفعلا، هل كان ممكنًا التفكير بأن يسمى سفيرنا في ألمانيا برلينر؟ أو أن يسمى سفيرنا في بولندا بولونسكي؟ أو أن يحمل رئيس حكومة إسرائيلي الاسم غرين (الاسم السابق لرئيس الوزراء بن غوريون)؟ أو أن يكون قائد أركان يدعى كيتيغورودسكي (الاسم السابق لموشيه ديان)؟

لقد كان بن غوريون متعصبًا بالنسبة لهذه القضية. ربما كانت هذه القضية الوحيدة التي كنا فيها على رأي موحّد.

إن استبدال الأسماء قد رمز إلى موقف إيديولوجي أساسي. لقد ارتكزت الصهيونية على إنكار تام للمهجر، أنماط حياته، تقاليده وتعابيره.

رأى مؤسس الصهيونية، بنيامين زئيف هرتسل، "صاحب فكرة الدولة"، الاختفاء المطلق للشتات. في يومنا، تأمل أنه بعد إقامة "دولة اليهود"، سيأتي جميع اليهود الذين يريدون ذلك إلى إسرائيل. منذ ذلك الحين فصاعدًا، هم - وفقط هم! - سيسمون يهودًا. سيمتزج جميع من تبقى في النهاية مع الشعوب المضيفة ولا يعودون يهودًا. (لقد تم جعل هذه القسم من نظرية هرتسل منسيًا عن قصد. لا يتم تعليمه في المدارس، وليس مذكورًا في خطابات السياسيين).

لم يخف هرتسل في يومنا السخرية العميقة التي لحقت باليهود في المهجر. هنالك مقاطع في السجل ذوو طابع لاسامي حقيقي. (بالمناسبة، إن المصطلح "لا سامية" تم صكه في ألمانيا في فترة حياة هرتسل).

استوعبت بصفتي طالب في المدرسة الابتدائية في تل-أبيب هذه السخرية. لقد كان كل أمر "مهجري" تافهًا. أن يُنادي شخص ما "مهجرًا" كان أكبر إهانة. لقد كانت البلدة اليهودية مهجرة، وكذلك الأمر بالنسبة للديانة اليهودية، التقاليد اليهودية، المعتقدات التابعة والآراء المسبقة. لقد تعلمنا أن يهود الشتات امتهنوا الأعمال المشبوهة وكانوا سماسرة بورصة متطفلين، لم ينتجوا أي شيء ملموس، وأنهم ابتعدوا عن العمل الجسماني، وكان مجتمعهم "هرمًا مقلوبًا" وأننا نحن سننشأ مجتمعًا سليمًا من الفلاحين والنشطاء.

في كتيبتي في المنظمة العسكرية الوطنية، وبعد ذلك في جيش الدفاع، لم يكن حتى شابًا واحدًا لم يعتمر القلنسوة، رغم أن البعض اعتمروا قبعات ذات واق للعينين. لقد شفقنا على المتدينين.

لقد كان الرأي المقبول هو أن الدين بالفعل أشغل لمدة مئات السنين وظيفة هامة في صمود الشعب اليهودي، أما اليوم فقد تقوم الوطنية العبرية بهذه الوظيفة. الوطنية هي الصمغ الجديد. لقد تحوّل الدين إلى أمر غير ضروري، وسيختفي قريبًا.

لقد كان كل أمر جيد وسليم عبريًا – البلدة العبرية، الزراعة العبرية، الكيبوتسات العبرية، "المدينة العبرية الأولى" (تل أبيب)، المقاومة العبرية، الدولة العبرية المعدّة لأن تقوم مستقبلا. الأشياء اليهودية كانت في الشتات – دين يهودي، تقاليد يهودية وأشياء أخرى لا داعي لها.

فقط بعدما عُلم حجم المحرقة الكامل، قُبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، تغيّر هذا التوجه وتحوّل إلى ندم عميق. ساد الشعور بالذنب نظرًا لأننا لم نقم بما يكفي لإنقاذ أخوتنا المطاردين. تحوّلت البلدة اليهودية فجأة إلى مكان مفعم بالحنين، تذكر الناس طفولتهم، البيت اليهودي الدافئ، الحياة الريفية في الشتات.

ولكن حينها أيضًا رفض بن غوريون تقبل الفكرة بأن اليهود يمكنهم العيش خارج دولة إسرائيل. لقد رفض التعامل مع القادة الصهاينة الذين عاشوا خارج البلاد. عندما واجهت الدولة الجديدة ضائقة مادية صعبة وكانت بحاجة ماسة للعملة الأجنبية عندها فقط، وافق بن غوريون في النهاية على السفر إلى الولايات المتحدة وطلب المساعدة من القيادة اليهودية هناك.

منذ ذلك الحين قامت اليهودية بعودة مدهشة.

لقد تحوّلت المجموعة الصغيرة من المتدينين الذين انضموا إلى الصهيونية منذ البداية إلى حركة دينية – وطنية كبيرة وذات قوة عظمى، نواة المستوطنين واليمين المتطرف، عصبة أساسية في الحكومة.

لقد جمع الحاريديون المناهضون للصهيونية قوة أكبر من ذلك. رغم أن جميع الحاخامات المهمين في زمن هرتسل استنكروه وشتموه هو ومؤيديه، يستخدم الحاريديون اليوم قوتهم السياسية لانتزاع مبالغ ضخمة من الدولة. لقد أعدت الأموال أساسًا لإنشاء جهاز تربية مستقل، حيث لا يتعلمون شيئا هناك عدا الآيات الدينية. إنهم يمنعون تجنيد أبنائهم للجيش بهدف منعهم من التواصل مع شباب آخرين، وفي الأساس مع الشابات. إنهم يعيشون في غيتو.

لقد تم بث مسلسل وثائقي هذا الأسبوع على القناة العاشرة، التي تنبأ فيها علماء السكان أنه بسبب الزيادة الطبيعية الهائلة لديهم، سيشكل المتدينون بعد 30 عامًا غالبية الشعب اليهودي في إسرائيل. إذن ستكون دولة إسرائيل أشبه بإيران أو سعودية يهودية.

منذ اليوم يسيطر الحاريديون على بعض المدن والأحياء. في تلك الأماكن، ليست هنالك مواصلات على الإطلاق أيام السبت. تتم مهاجمة النساء مكشوفات اليدين في الشارع بالبصق عليهن، وضربهن أحيانا. لا تقلع طائرات "إل عال" أيام السبت، وليست هنالك حركة حافلات وقطارات في هذه الأيام.

إذا أصحبت أغلبية حاريدية في الدولة، سيتحوّل ذلك إلى قاعدة. لن تكون أي وسائل مواصلات أيام السبت والأعياد. ستكون الشوارع فارغة كما هو الحال في يوم الغفران. وستغلق جميع المحلات. لن يكون هنالك طعام غير جائز في الحوانيت والمطاعم. لن تكون هنالك قوانين علمانية. لن تكون أي طريقة غير مباشرة للزواج بين اليهود وغير اليهود، بين عائلة كوهين ومطلقة. ستهتم الشرطة بمراقبة الأخلاقيات.

سيهرب العلمانيون، الذين يشكلون الآن أغلبية، من الدولة وسيفضلون أن يكونوا يهودًا جيدين في بروكلين أو برلين.

يعالج الكنيست الآن اقتراح قانون ينبغي له استبدال القول بأن إسرائيل هي "دولة يهودية وديمقراطية"، يحدد أن إسرائيل هي "دولة القومية للشعب اليهودي".

يقال أن ذلك هو تحقيق الصهيونية، ولكن في الحقيقة إنه الرفض المطلق للصهيونية. استدارت العملية 360 درجة وعادت إلى المكان الذي بدأت منه. بدلا من الغيتو في البلدة اليهودية، ستتحوّل إسرائيل بنفسها إلى غيتو. تحت إنكار الشتات، سيكون الشتات كله جزءا من إسرائيل. سيتم كل ذلك دون الأخذ برأيها، طبعًا. لن تبقى الدولة بعد ذلك تابعة لمواطنيها، اليهود والعرب على حد سواء، وإنما لليهود في لوس أنجيليس وموسكو.

الفكرة بحد ذاتها، بالتأكيد، سخيفة. يشكل اليهود طائفة إثنية-دينية عالمية، تواجدت لمدة 2500 عام دون وطن. حتى أنه في فترة المملكة المكابية فقد عاش معظم اليهود خارج البلاد. إن علاقتهم المبسطة مع أرض إسرائيل شبيهة بعلاقة المسلمين بإندونيسيا أو علاقة مالي بمدينة مكة – مكان مقدس يجب ذكره في الصلوات والحج إليه، لكن ليس وطنا لهم فيه سيادة. على مر مئات السنين، حتى ارتفاع شأن العنصرية في أوروبا، لم يبذل اليهود أي جهد للاستيطان في البلاد. في الواقع، تمنع الديانة اليهودية بشكل واضح "الهجرة" (بشكل منظم) إلى أرض إسرائيل.

الوطنية الإسرائيلية، رغم ذلك، مرسخة في وطن ملموس. إنها تتعلق بالسيادة، والمواطنة – مصطلحات غريبة بالنسبة للدين.

في الواقع، لقد أجبر الصهاينة الأوائل بسبب الظروف أن يوحدوا الإدراكَين المتناقضَين. لم يكن الشعب اليهودي موجودًا. كانت البلاد تابعة لشعب آخر. بما أنه ليس من خيار آخر، فقد اختلقوا الخيال بأنه لدى اليهود، خلافًا لجميع ما تبقى من الشعوب، الوطنية والدين هما الشيء ذاته. من أجل تدعيم التماسهم لامتلاك البلاد، ادعوا - ولا يزالون - الصهاينة الملحدون أن الله وعد اليهود بالبلاد بصفقة منذ قبل 3500 عام (تقريبًا).

تطالب الحكومة الإسرائيلية الآن، كشرط للسلام، أن يعترف الفلسطينيون بـ"دولة القومية للشعب اليهودي". إذا رفضوا ذلك، فإن ذلك يثبت أنه مقرر بالنسبة لهم تدمير إسرائيل، مثل هتلر، ولذلك فلن نصنع معهم السلام.

إنها سخافة في نظري. برأيي، يجب على الفلسطينيين الاعتراف بدولة إسرائيل كما هي (مقابل اعترافنا بدولة فلسطين). إنه ليس من شأنهم كيف تعرّف الدولة نفسها (كما أنه لن يكون شأننا كيف ستعرّف نفسها الدولة الفلسطينية).

نحن، وفقط نحن، نقرر ما إذا كانت دولتنا يهودية أو إسرائيلية.

لنعد إلى قضية الأسماء.

في الآونة الأخيرة، قلائل فقط هم من يتخذون لأنفسهم أسماء عبرية. إن معظم الإسرائيليين ملتصقون بأسمائهم الألمانية، الروسية، والعربية. إني أرى بذلك تراجعًا إلى الغيتو.

عندما أجريت معي مقابلة هذا الأسبوع على غالي تساهال، هاجمني المقابلون الشباب على موقفي من هذه القضية. إنهم يرون بفرض الأسماء العبرية، كما كان شائعًا في السنوات الأولى للدولة، عملا اضطهاديًا، مخالفة الخصوصية، وحتى اغتصاب.

يكتفي غالبية الإسرائيليين الآن بالأسماء البولندية الروسية، المغربية والعراقية لآبائهم. يرمز ذلك بنظري إلى يهودية الدولة الحديثة.