|
||
بدأ الأمر بنبرة منخفضة. تم وضع ورقة داخل يد رئيس الحكومة، ليفي إشكول، في الوقت الذي استعرض فيه مسيرة عيد الاستقلال. وقد جاء في الورقة أن قوات الجيش المصري قد دخلت إلى شبه جزيرة سيناء. منذ تلك اللحظة ازداد التوتر تدريجيا. وكان كل يوم جديد يحمل معه أخبارا جديدة. وقد أدلى رئيس مصر، جمال عبد الناصر، بتهديدات تقشعرّ لها الأبدان. تم إخراج قوى حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من المنطقة. تحول القلق في إسرائيل إلى خوف، وتحول الخوف إلى رعب. تم النظر إلى إشكول نظرة الرجل الضعيف. حين ألقى خطابًا في الراديو لرفع المعنويات، ارتبك وتلعثم عند قراءة الكلمات خلال الخطاب. بدأ يجري الحديث في البلاد عن "كارثة ثانية"، عن "دمار الهيكل الثالث". كنت أحد القلائل الذين ظلوا هادئين. نشرت في ذروة اليأس الجماهيري، في "هعولام هازيه"، المجلة الأسبوعية التي كنت أحررها، مقالا تحت عنوان "علق ناصر في الفخ". اعتقدت زوجتي راحيل أيضا أن هذا أمر مجنون. كان يختبئ وراء مزاجي الجيد سبب فعلي . كنت قد ألقيت قبل عدة أسابيع من ذلك الوقت محاضرة في كيبوتس يقع على الحدود السورية. وكما هو معتاد، تمت دعوتي لاحتساء القهوة برفقة مجموعة محدودة من الأصدقاء. لقد أخبروني أنه قبل أسبوع كان قد قام قائد لواء الشمال، "دودو" (الجنرال دافيد إليعزر)، بإلقاء محاضرة أمامهم وتمت دعوته بعد المحاضرة مثلما تمت دعوتي. وبعد أن حلّفوني بحفظ السر، روى لي الأصدقاء أن دودو قال لهم- بعد أن كان قد حلفهم بحفظ السر – أنه في كل مساء، قبل دخوله إلى فراشه، يطلب من الله أن يجعل عبد الناصر يدخل جيشه إلى شبه جزيرة سيناء. وعد قائلا "هناك سوف نقضي عليه". لم يرغب عبد الناصر بالحرب. كان يعرف جيدا أن جيشه غير مستعد. كان قد خدع بهدف استقطاب إعجاب الكثيرين من العرب. تم دفعه من قبل الاتحاد السوفييتي، الذي أعتقد أن إسرائيل على وشك مهاجمة سوريا، كجزء من المؤامرة الأمريكية العالمية. (السفير السوفييتي، دميتري تشوباحين، دعاني إلى لقاء وكشف أمامي عن المؤامرة. قلت له، إذا كانت هذه هي الحال، فلماذا لا تطالب السفير الخاص بكم في دمشق تقديم النصيحة للسوريين في وقف الهجمات علينا من حدودهم، وقفا مؤقتا على الأقل؟ انفجر السفير ضاحكا. "هل تعتقد حقا أن هناك شخص ما في دمشق يصغي إلى سفيرنا؟"). سمحت سوريا لمنظمة التحرير الفلسطينية (فتح)، التي تمت إقامتها منذ وقت قصير على يد ياسر عرفات، بإنجاز عمليات عصابية صغيرة وغير ناجعة عبر حدودها. وقد تحدثت أيضا عن "حرب تحرير شعبية" بصيغة الجزيرة. كان رد فعل رئيس الأركان، يتسحاق رابين، على ذلك، دخول دمشق بهدف استبدال الحكم. عبد الناصر، الذي رأى نافذة فرصة صغيرة لتعزيز مكانة مصر كزعيمة العالم العربي، سارع إلى تقديم المساعدة لسوريا. لقد هدد بإلقاء إسرائيل في البحر. وقد أعلن أيضا أنه كان قد وضع ألغامًا في مضيق تيران وعزل إيلات عن البحر الأحمر. (اتضح فيما بعد أنه لم يتم وضع أي لغم). مضت ثلاثة أسابيع وتحول التوتر إلى وضع غير محتمل. التقيت في أحد الأيام بمناحيم بيغين في رواق الكنيست، ودفعني نحو غرفة جانبية وتوسل قائلا: "أوري، نحن متعارضان سياسيًا ولكن يتعين علينا في حالات الطوارئ أن نكون موحّدين. أعرف أن هنالك تأثير كبير لمجلتك الأسبوعية على الجيل الصاعد. أرجو منك أن تستخدمها بهدف رفع المعنويات!". تجندت كافة وحدات الاحتياط، وهي العمود الفقري للجيش. لم تتم مشاهدة أي رجل في الشارع تقريبا. ولكن إشكول وحكومته ما زالا يترددان. أرسلوا رئيس الموساد، مئير عاميت، إلى واشنطن بهدف التأكد من أن الولايات المتحدة تدعم السياسة الإسرائيلية. مع ازدياد الضغط الجماهيري، أقام إشكول حكومة وحدة وطنية وعين موشيه ديان وزيرا للأمن. بعد أن انشد القوس حتى وصل إلى نقطة الانكسار، تم تحرير الجيش الإسرائيلي. كان معظم الجنود أفراد احتياط تم إبعادهم إبعادا مفاجئا عن عائلاتهم، وانتظروا طوال ثلاثة أسابيع انتظارا يتمثل بعدم صبر متزايد، لذلك قفزوا إلى الأمام كالسهم. شاركت في اليوم الأول من الحرب في جلسة الكنيست. في منتصف الجلسة تم إبلاغنا أنه يتعين علينا النزول إلى الملجأ، نظرا لأن الأردن بدأت بمهاجمتنا عبر شرقي القدس المجاورة. في الوقت الذي كنت أتواجد فيه هناك، توجه إليّ صديق، كان يتقلد منصبا رفيعا في الحكومة، وهمس في أذني: "هذا هو، انتهى كل شيء. لقد قضينا على سلاح الجو المصري!". عندما وصلت إلى البيت في مساء ذلك اليوم، بعد سفر في شوارع البلاد التي كانت مظلمة، لم تصدقني راحيل. لم يبث الراديو كلمة واحدة حول الإنجاز الذي لا يمكن استيعابه. أعلن راديو القاهرة أن "تل أبيب تشتعل". شعرت وكأني عريس في جنازة. منعت الرقابة العسكرية أي ذكر للانتصار. سيطرت أخبار كئيبة على موجات الأثير. لماذا؟ كانت حكومة إسرائيل على قناعة – وبحق– أنه إذا فهمت الحكومات العربية والاتحاد السوفييتي أنهم على وشك هزيمة ساحقة، سيجبرون الأمم المتحدة على إعلان وقف إطلاق النار. وهذا ما حدث فعلا – ولكنه حدث بعد أن كان الجيش الإسرائيلي في طريقه إلى القاهرة ودمشق. لذلك، عندما تم إعلان النصر بدا أنه عظيم – عظيم إلى حد، أن الكثيرين اعتقدوا أنه أعجوبة من السماء. احتل جيشنا، الذي تم تأسيسه في إسرائيل الصغيرة في حدود ذلك الوقت، كل شبه جزيرة سيناء، هضبة الجولان، الضفة الغربية، القدس الشرقية وقطاع غزة. الانتقال من "كارثة ثانية" إلى خلاص باهر خلال ستة أيام. إذا كان الأمر كذلك، هل كانت هذه "حربًا دفاعية" أم "هجومًا عنيفا"؟ كانت قد انخرطت في وعينا القومي كحرب دفاعية، وبقيت على هذا النحو. "العرب" هم الذين بدأوا. من الناحية الموضوعية، دولة إسرائيل هي التي هاجمت، في الواقع نتيجة استفزاز غير محتمل. بعد مضي سنوات، عندما ذكرت هذا في حديث عشوائي، غضب صحافي كبير جدا إلى درجة أنه كفّ عن التحدث معي. على أية حال، كان رد الفعل الجماهيري مذهلا. كانت البلاد جميعها تشهد دوارًا. غمرت الدولة ألبومات النصر وأناشيد الانتصار، ووصلت الأمور إلى حد مستوى تاريخي جماعي. لم تكن أي حدود للكبرياء. لا يمكنني الادعاء بأنني لم أصب بالعدوى. تفاخر أريئل شارون بأن الجيش الإسرائيلي بإمكانه الوصول إلى طرابلس الغرب (في ليبيا) في غضون ستة أيام. قامت حركة من أجل "أرض إسرائيل الكبرى"، ووقف كبار رجال الدولة في الطابور للالتحاق بها. لم تمض عدة أيام حتى تم إنشاء حركة الاستيطان. ولكن، كما هي الحال في المأساة اليونانية، تعاقب الآلهة كبرياء البشر الفانين. تحول الذهب إلى تراب. تحول أكبر انتصار من انتصارات إسرائيل إلى أكبر كوارثها. تحولت الأراضي المحتلة إلى قميص نسوس في الأسطورة اليونانية، الذي التصق بجسم الإنسان وسممه. فور نشوب الحرب أعلن وزير الأمن موشيه ديان أنه لا توجد للدولة أي نية في احتلال الأراضي، وهدفها الوحيد هو حماية نفسها. بعد الحرب أعلن وزير الخارجية آبا إيبن أن حدود الدولة قبل عام 1967 كانت "حدود أوشفيتس". هنالك مقولة تقول أن الجنرالات "يحاربون حربهم الأخيرة دائما". افترض الجميع أن العالم لن يسمح لإسرائيل بحيازة الأراضي التي احتلتها لتوّها. كانت "الحرب الأخيرة" هي حملة العدوان الثلاثي عام 1956، عندما هاجمت إسرائيل مصر من خلال مؤامرة مع فرنسا وبريطانيا. أجبر الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور ورئيس حكومة الاتحاد السوفييتي نيكولا بولغانين بعد الحرب إسرائيل على إعادة الأراضي المحتلة حتى المليمتر الأخير. كانت هناك قطاعات ضمن الحدود السابقة ("حدود وقف إطلاق النار") بجانب اللطرون، حيث كانت تعزل الطريق الرئيسي بين تل أبيب والقدس. مع انتهاء الحرب، أمر موشيه ديان بطرد سكان القرى العربية الثلاث في هذا القطاع وعدم إبقاء أي آثار من القرى. أقيم في المنطقة "متنزه كندا"، الذي تم تمويله من قبل حكومة كندا ومواطنين كنديين طيبي القلب. كان الكاتب عاموس كينان شاهدا لما يجري هناك ووفقا لطلب مني كتب تقريرا تقشعر له الأبدان حول الطرد المفزع لأبناء القرى، الرجال، النساء، المسنين، الأولاد والأطفال الذين تم إجبارهم على السير مشيا، تحت أشعة الشمس الحارقة في شهر حزيران، على امتداد الطريق إلى رام الله. حاولت أن أتدخل، ولكن كان ذلك متأخرا. على الرغم من ذلك نجحت في وقف هدم مدينة قليقلية. عندما توجهت إلى بعض الوزراء ومن بينهم بيغين، تم وقف الهدم. الحي الذي تم هدمه أقيم مجددا وتم السماح لسكانه بالعودة. ولكن تم طرد أكثر من مائة ألف لاجئ، ممن سكنوا منذ عام 1948 في مخيم اللاجئين الكبير بالقرب من أريحا، إلى الأردن. رويدا رويدا اعتادت حكومة إسرائيل على الحقيقة المذهلة من عدم تشغيل أي ضغط عليها لإخلاء المناطق المحتلة. في حديث شخصي كان لي مع ليفي إشكول غداة الحرب، فهمت أنه لا يوجد لديه ولزملائه أي نية لإرجاع أي شيء كان، في حال لم يتم إرغامهم على ذلك. تم رفض اقتراحي لتقديم المساعدة للفلسطينيين في إقامة دولة لهم في الضفة والقطاع من قبل إشكول بتهكم لبق. وهكذا تمت إضاعة فرصة تاريخية. يقولون أن من يرغب الله بتدميره، يبهر بصره أولا - مثلما فعل بسكان سدوم. معظم الإسرائيليين الذين يعيشون في يومنا هذا، كل شخص لم يبلغ جيل 60 عاما، لا يمكنهم أبدا أن يتخيلوا إسرائيل من دون الأراضي المحتلة. في الذكرى الـ 60 للدراما الكبيرة، يمكننا أن نتخيل أن هذا لم يحدث أبدا، وهذا ما هو إلا حلم سيء. |