|
||
وهذا ما قلته في قلبي، حين قرأت المقابلة المثيرة التي أجرتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" مع إيهود أولمرت عشية رأس السنة. في نهاية طريقه السياسي، بعد أن استقال من منصب رئيس الحكومة، وفي حين كان ينتظر تسيي ليفنيه لـتؤلف الحكومة الجديدة، ذكر أقوالا رائعة – ليست من ناحية مضمونها بل لأنها جاءت على لسانه. لكل من لم يسمع أقواله، أذكرها لكم فيما يلي:
في البداية، علينا حسم الموضوع السوري. أرغب في رؤية شخص واحد جدي في دولة إسرائيل، يؤمن في التوصل إلى سلام مع السوريين من دون التنازل عن هضبة الجولان في نهاية الأمر ". الهدف، هو محاولة التوصل، للمرة الأولى، إلى الإشارة إلى الخط الحدودي الدقيق بيننا وبين الفلسطينيين، يعترف به العالم بأسره.
كل من أريك شارون، بيبي نتانياهو، إيهود باراك ورابين أيضا رحمه الله ....سلكوا طريقا أدت بنا إلى الاتجاه الصحيح، ولكن في مرحلة ما، في مفترق ما، كانت هناك حاجة إلى حسم، ولكن هذا الحسم لم يأت".
ردة الفعل الأولى كما سابق الذكر، هي: صباح الخير يا إيهود. هذا يذكرني بصديق لي، المؤلف يونا بن يهودا رحمه الله. قبل 32 عاما، بعد أن قتلوا العشرات من العرب مواطني إسرائيل عند احتجاجهم على مصادرة أراضيهم، جاء إلي غاضبا وقال: علينا أن نفعل شيئا. قررنا وضع باقات من الزهور على أضرح القتلى. كنا هناك ثلاثة، يونا بن يهودا، الرسام دان كيدار الذي وافته المنية هذا الأسبوع، وأنا. إبداء حسن النية هذا أدى إلى ثورة غضب ضدنا لم أعرف لها مثيل من قبل أو من بعد. منذ ذلك الحين، عندما كان يتفوه شخص ما بأقوال حول موضوع السلام في إسرائيل، كان يغضب يونا بن يهودا ويقول: "أين كان عندما وضعنا باقات الزهور؟ هذا سؤال طبيعي، ولكنه غير ملائم أبدا. أولمرت الذي حارب مواقفنا طوال حياته، ها هو الآن يكررها. هذا هو الأمر المهم. لا "صباح الخير يا إيهود!" بل "أهلا بك يا إيهود". حقا، قلنا ذلك قبل 40 عاما. ولكننا لم نكن نشغل منصب رئيس حكومة. في الحقيقة، تم ذكر وتفصيل هذه الأمور في السنوات الأخيرة من قبل أشخاص كثيرين وجيدين، سواء كان ذلك في مسودات معاهدة السلام التي وضعتها كتلة السلام، أو في وثيقة نسيبة-أيالون وفي مبادرة جينيف. ولكن أي من أصحاب هذه المبادرات لم يكن رئيسا للحكومة. وهذا هو الأهم. ومن حيث جوهر الموضوع: أولمرت، حين تبلورت هذه الأفكار في رأسه، سمح للمستوطنات بالتوسع وخاصة في القدس الشرقية. هذا يطرح سؤالا ذا أهمية: هل حقا يعني ما يقول؟ أليس هذا خداع نظر، كعادته؟ أليس هذا تلاعب ما، كما جرت العادة؟ أميل إلى أن أصدقه في هذه المرة. يمكن القول: يبدو في أقواله شيء من الحقيقة. ليست الكلمات وحدها هي التي تقرر بل النغمة أيضا. تبدو الأمور وكأنها وصية إنسان سياسية، قد سلّم بنهاية طريقه السياسية (في الوقت الحالي على الأقل). تبدو فيها نغمة فلسفية. هذا أشبه باعتراف شخص ما، جلس مدة سنتين ونصف على أسمى عرش من اتخاذ القرارات، واستوعب الأمور واستخلص العبر. يمكن أن نطرح السؤال: لماذا يتوصل هؤلاء الأشخاص إلى استنتاجاتهم بعد نهاية وظيفتهم فقط، ولم يعد بإمكانهم تحقيق الأمور الحكيمة التي يقترحونها؟ لماذا توصل بيل كلينتون إلى وضع "خطته" في الأيام الأخيرة من فترة توليه لمنصبه، بعد أن بذّر ثماني سنوات توليه في ألعاب صبيانية حول الموضوع الإسرائيلي-الفلسطيني؟ لماذا قال الرئيس لندون جونسون أن حرب فيتنام كانت منذ البداية خطأ فاحشا، بعد أن قتل هو بنفسه آلاف الأمريكيين ومئات آلاف الفيتناميين؟ إن الإجابة متعلقة بجودة الحياة السياسية. ينتقل رئيس الحكومة بين مشكلة وأخرى، بين أزمة وأخرى. إنه يقبع تحت الإغراءات والضغوط الخارجية وتضغطه الاضطرارات الداخلية، الاحتياجات الائتلافية والمؤامرات داخل حزبه. لا يوجد لديه متسع من الوقت لاستخلاص العبر. كانت السنتان والنصف من فترة تولي أولمرت مليئة بالأزمات، ابتداء من حرب لبنان الثانية، التي كان هو المسؤول عنها، وانتهاء بتحقيقات الفساد التي أقلقته طوال الطريق. الآن فقط أصبح لديه متسع من الوقت، وعلى ما يبدو أصبحت لديه أيضا سكينة فلسفية لاستخلاص العبر. هذه هي أهمية هذه المقابلة: يجري الحديث عن شخص وقف لمدة سنتين ونصف على مفترق اتخاذ القرارات الوطنية والدولية أيضا، شخص كان يعرف الضغوط والاعتبارات، شخص أقام علاقة شخصية مع زعماء العالم ومع زعماء الشعب الفلسطيني. شخص طبيعي، ليس حذقا أو مفكرا، بل شخص العملانية السياسية، الذي "يرى الأمور من هناك والتي لا يمكن رؤيتها من هنا". هذه الأمور هي بمثابة تقرير يتم تقديمه للجمهور، ملخص لواقع إسرائيل بعد مرور 60 عاما على إقامتها و 120 عاما على تأسيس المشروع الصهيوني. يمكن الإشارة إلى نقاط سوداء في هذا الملخص. لا يوجد فيه أي انتقاد لطريقة تصرف الحركة الصهيونية طوال خمسة أجيال، ولكن من الصعب أن نطالبه بذلك. لا يوجد فيه تعاطف مع مشاعر وتطلعات وصدمات الشعب الفلسطيني. لا يوجد فيه تطرّق إلى مشكلة اللاجئين (من المعروف أن أولمرت مستعد لإرجاع آلاف معدودة فقط في إطار "لم شمل العائلات"). لا يوجد فيه ندم على إقامة المستوطنات التي تنطوي على كارثة. والقائمة طويلة. إن القاعدة الرجعية لآرائه لم تتغير. تشير إلى ذلك الفقرة المثيرة التالية: "كل حبة تراب من الأراضي الواقعة بين النهر نتخلى عنها ستحرق قلبي... حين نحفر في هذه المناطق، ماذا سنجد؟ تصريحات أدلى بها جد عرفات أو جد جد عرفات؟ سنجد هناك ذكريات شعب إسرائيل التاريخية". هذه ترهات لا غير، لا تمت إلى الاكتشافات التاريخية والأثرية بصلة. يكرر هذا الرجل مواقفه التي صرح بها طيلة حياته، وأقواله مفعمة بالأحاسيس الداخلية. إن الشخص الذي يتشبث بهذه الأيديولوجية، سيواجه صعوبة في تفكيك المستوطنات وصنع السلام. إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يحويه هذا الملخص؟ إن فيه طلاق نهائي للطموح إلى "أرض إسرائيل الكبرى"، من قبل شخص ترعرع في عائلة رفعت راية "الإتسل": خارطة أرض إسرائيل من كلتا ضفتي نهر الأردن. "هكذا فقط" قد تحول إلى "فقط ليس هذا". إن فيه دعم لا نقاش فيه لتقسيم البلاد. يبدو وقوفه، في هذه المرة، تحت راية "دولتان لشعبين" وقوفا حقيقيا أكثر، وليس مجرد ضريبة كلامية ولا خداع نظر. إن مطالبته بتحديد الحدود النهائية لدولة إسرائيل هي، من وجهة نظره، ثورة في مفهوم الفكرة الصهيونية. لقد قال أولمرت في الماضي أن دولة إسرائيل ستكون "منتهية" في حال لم توافق على تقسيم البلاد. لم يأت الآن على ذكر هذا الشيطان. لقد تحدث كإسرائيلي حقيقي، يفكر بمستقبل إسرائيل كدولة متقدمة، منتجة، تعيش بسلام. إنه لم يقل ذلك كرؤيا للمستقبل، بل كخطة للحاضر. إنه يطالب باتخاذ القرار الآن. يطالب بحسم فوري. كاد يقول: دعوني أستمر لبضعة أشهر أخرى، وأنا سأنفذ ذلك. الافتراض الخفي هو أن الطرف الفلسطيني مستعد للمنعطف التاريخي. إضافة إلى ذلك: لقد أقر أولمرت مواقف لن يكون بالإمكان التراجع عنها في أي محادثات مستقبلية. هذه وصية رئيس حكومة، وهي موجهة لرئيسة الحكومة القادمة. نحن لا نعرف إذا ما كانت تسيبي ليفنيه ستنجز مثل هذا البرنامج، أو ما هو موقفها بالنسبة لهذه الوصيّة. صحيح أنها قد تحدثت مؤخرا عن أفكار مشابهة إلى حد كبير، إلا أنها ستدخل لتوّها في قدر الضغط الخاص برئاسة الحكومة. لا يمكن أن نعرف ماذا ستفعل. أتمنى لها شيئا واحدا فقط: ألا تجلس، في نهاية فترة توليها لمنصب رئيس الحكومة، ويتم إجراء مقابلة معها لتعبر فيها عن أسفها لأنها فوّتت الفرصة التاريخية لصنع السلام. |