اوري افنيري 

الغضب، الشوق، الأمل / أوري أفنيري


واحدة من أذكى الجمل، التي سمعتها في حياتي، قالها ضابط مصري، بعد أيام قليلة من زيارة محمد أنور السادات إلى القدس.

كنا أول من زار القاهرة من الإسرائيليين، وكانت أكثر الأسئلة التي شغلتنا وأثارت فضولنا حينها هي: كيف نجحتم بمفاجأتنا في حرب الغفران؟

وما كان من ذلك الضابط الا أن أجاب قائلا: "كان عليكم، بدل أن تقرأوا تقارير المخابرات العسكرية لجيش الدفاع، أن تطالعوا القصائد التي كان يكتبها شعراؤنا."

تلك الأيام لم تبرح تفكيري يوم الأربعاء الفائت، يوم جنازة محمود درويش.

لمرات عديدة، خلال الجنازة في رام الله، دعي درويش بـ "الشاعر الوطني الفلسطيني".

ولكنه كان أكثر من ذلك بكثير. كان يجسد حال المصير الفلسطيني.

مصيره الشخصي تماثل كليا مع مصير شعبه. ولد في قرية البروة الجليلية، بمحاذاة شارع عكا ـ صفد. قبل 900 عام وصف أحد السياح الفرس تلك القرية التي جاءها زائرا قبري "عيسو وشمعون، عليهما السلام". عام 1931، قبل عشر سنوات من ولادة محمود، كان تعداد السكان في القرية 996 نسمة، بينهم 92 مسيحيا والبقية من المسلمين.

في 11 حزيران عام 1948 احتُلت تلك القرية على أيدي الجيش العبري. الـ 224 بيتا في القرية تمت إزالتهم تماما عن وجه الأرض، إضافة لـ 650 قرية عربية أخرى لا يشهد على وجودها إلا ما تبقى من شجيرات السرو الموزعة هنا وهناك. ليلة احتُلت القرية، نزحت عائلة درويش، ومعها محمود ابن السبع سنوات، إلى لبنان المجاورة.

بطريقة ما، نجحت العائلة بالتسلل عائدة إلى داخل العمق الإسرائيلي لتصنف العائلة ضمن تصنيف "الغائبين الحاضرين" ـ بدعة إسرائيلية محبوكة. معنى ذلك: هم يعيشون في الدولة ضمن القانون، ولكن أرضهم أُخذت منهم وصودرت مثلها مثل أراضي العرب الآخرين الذين لم يتواجدوا في أراضيهم ساعة أحتُلت. فوق أنقاض قرية البروة أقيم "كيبوتس ياسعور" (التابع لحركة هشومير هتسعير) و"موشاف أحيهود".

استقر المقام، بوالد محمود، في القرية المجاورة قرية "الجديدة"، حيث أمكنه من هناك أن يشرف، بناظريه، على أرضه الضائعة. هناك نشأ محمود وترعرع وهناك لا زالت تقيم عائلته.

في السنوات الـ 15 الأولى، من عمر دولة إسرائيل، فُرض على مواطنيها العرب قانون "الحكم العسكري" ـ وهو نظام حكم قمعي جائر، تحكم بكل تفصيل من تفاصيل حياتهم وراقب كل حركة من تحركاتهم، ومن بين تلك الأحكام ألا يمكن لأي عربي أن يخرج من قريته من دون تصريح. محمود درويش، الطفل الصغير، خالف وكسر ذلك القانون مرات عديدة، وكل مرة كان يُقبض عليه كان يُزج في السجن. حين بدأ بكتابة الشعر قُبض عليه بتهمة التحريض وسُجن، إداريا، أي من دون محاكمة.

تلك الأيام شهدت كتابته لواحدة من قصائده الشهيرة وهي "بطاقة هوية"، قصيدة الشعر الغاضبة المتمردة لفتى ترعرع بمثل تلك الظروف المهينة، القاسية. يستهل درويش قصيدته بهذه الكلمات الهادرة: "سجل أنا عربي!"

في تلك الأيام كان لقائي الأول به. جاء إلي برفقة شاعر آخر، الشاعر راشد حسين، شاب عربي، ريفي، آخر يمتاز بوعي وطني عميق. أذكر، لهذه اللحظة، جملة قالها لي: "قتل الألمان ستة ملايين يهودي، وبعد مرور ست سنوات عقدتم اتفاق سلام معهم. لكن، يرفض اليهود إبرام اتفاق سلام معنا!"

التحق محمود درويش بركب الحزب الشيوعي، الحزب الوحيد، في ذلك الحين، الذي كان مسموحا للوطنيين العرب بأن ينشطوا من خلاله. كان هو محرر صحيفته. أرسله الحزب ببعثة للدراسة، إلى موسكو، لكن الحزب استبعده من صفوفه حين قرر عدم الرجوع إلى البلاد، التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية ووصل إلى مقر ياسر عرفات، في بيروت.

هناك التقيته ثانية في حدث الأحداث الأكثر تأثيرا في حياتي، حين اجتزت الخطوط عام 1982، في ذروة حصار بيروت، والتقيت عرفات. صمم القائد الفلسطيني على أن يتواجد محمود درويش في ذلك اللقاء الرمزي ـ أول لقاء لعرفات مع إسرائيلي. بعث حينها بمن يستدعي درويش للحضور.

إن وصف حصار بيروت كان من إبداعات درويش الكلاسيكية. لقد حظي، في تلك الفترة، بكنية "الشاعر الوطني"، رافق مسار الكفاح الفلسطيني من خلال اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني، وهو الهيئة التي وحدت أجزاء شعبه، وكان يُلهب الحاضرين بقراءة أشعاره الحماسية.

طوال تلك السنوات بقي درويش مقربا جدا من عرفات. فبينما كان عرفات القائد السياسي للحركة الوطنية الفلسطينية، كان درويش قائدها الروحي. درويش هو من صاغ بروحه الوثيقة الوطنية الفلسطينية، التي أقرت من قبل المجلس الوطني عام 1988 بمبادرة من عرفات. تلك الوثيقة شبيهة جدا بوثيقة الاستقلال الإسرائيلية، التي تعلمها درويش في المدرسة. أدرك ماهيتها جيدا: بموجب تلك الوثيقة تبنى المجلس الوطني، فعليا، فكرة إقامة دولة فلسطينية بجانب إسرائيل، على جزء من أرض الوطن، بما يتلاءم والنهج الذي خطه عرفات.

ذلك التحالف بين الاثنين تصدع حين تم توقيع اتفاق أوسلو. فقد رأى عرفات بذلك الاتفاق أنه "أفضل اتفاق بظل هذا الوضع الرديء" بينما كانت فكرة درويش أن عرفات تنازل كثيرا لإسرائيل. وقف القلب الوطني أمام العقل الوطني. ذلك جدل تاريخي لازالت رحاه دائرة حتى اليوم، بعد رحيل الاثنان عن هذه الدنيا. مذاك الحين أقام درويش في باريس، عمان، رام الله ـ الفلسطيني المتنقل، الذي أخذ مكان اليهودي المتنقل.

لم يرغب بأن يكون "شاعرا وطنيا". أساسا لم تكن رغبته بأن يكون شاعرا سياسيا، بل شاعرا غنائيا، شاعرا يتغنى بالحب. لكن، في كل مرة كان يتوجه الى تلك الطريق، كانت تأتي يد المصير الفلسطيني، الطويلة، وتسحبه اليها من جديد.

لست مخولا بأن أحلل شعره وأقف عند مقامه الكبير كشاعر. كثيرون من علماء اللغة العرب لا زالوا يتجادلون، فيما بينهم، حول ماهية شعره، المتنوع والمتشعب، المليء بالرموز والدلائل والتشبيهات. كان يتحكم باللغة العربية الفصحى، الشعر الغربي والشعر الإسرائيلي. اعتبر درويش، بالنسبة للكثيرين، أعظم شاعر عربي وأحد أهم الشعراء في أيامنا هذه.

استطاع من خلال شعره أن يفعل ما لم يستطع غيره أن يفعل بطرق أخرى: توحيد كل فصائل الشعب الفلسطيني المشتت والمنقسم ـ في الضفة الغربية، في قطاع غزة، إسرائيل، في مخيمات اللاجئين وفي الشتات. كان للجميع، كان للاجئين أن يتماثلوا معه كونه كان لاجئا، وكان للفلسطينيين، مواطني دولة إسرائيل، أن يتماثلوا معه كونه واحدا منهم، وكذلك سكان المناطق الفلسطينية المحتلة.

في هذا الأسبوع، حاول بعض قادة السلطة الفلسطينية استغلاله ضد صراعهم مع حماس. لا أعتقد أنه كان ليوافق على ذلك ـ رغم أنه كان فلسطينيا علمانيا حتى النخاع، وبعيدا عن عالم حركة حماس الديني المتعصب، كان يعبّر، وببراعة مدهشة، عن مشاعر الجميع. كانت أشعاره تلهب مشاعر أعضاء حركة حماس في غزة.

باعتقادي، كان درويش شاعر الغضب، الشوق، الأمل والسلام. تلك كانت أوتار كمانه.

الغضب بسبب الإجحاف الذي لحق بالشعب الفلسطيني وكل فرد من أبناء ذلك الشعب. الحنين "لقهوة أمي"، لشجرة الزيتون في قريته، لأرض أجداه الأوائل. الأمل بنهاية هذا الصراع التاريخي. دعم السلام بين الشعبين، والذي أساسه العدل والاحترام المتبادل. في فيلم المخرجة، الإسرائيلية ـ الفرنسية، سيمون بيتون وصف الحمار على أنه رمز الشعب الفلسطيني ـ حيوان ذكي، صبور، يصمد ويعيش في أي ظروف.

استطاع أن يدرك ماهية ذلك الصراع أكثر من إسرائيليين وفلسطينيين كُثر. "صراع بين ذاكرتين"، هكذا عرفه. الذاكرة الفلسطينية التاريخية تصطدم بالذاكرة التاريخية اليهودية. يقوم مقام السلام فقط حين يحترم كل شعب ذكريات الشعب الآخر ـ أساطيره، أمانيه الخبيئة، طموحاته ومخاوفه.

هذه هي ماهية جملة ذلك الضابط المصري: الشعر يعبر عن المشاعر العميقة للشعوب، وفقط فهم تلك المشاعر هو الطريق لتحقيق سلام عادل حقيقي. لا أهمية للسلام بين السياسيين إن لم يرافقه سلام بين الشعراء والجمهور الذي يمثلونه. لهذا السبب فشل اتفاق أوسلو، ولهذا لا أهمية تذكر للمفاوضات الدائرة الآن حول "اتفاق الرف". لا مكان لذلك في مشاعر أبناء الشعبين.

قبل ثماني سنوات حاول يوسي سريد، وزير التربية والتعليم حينها، أن يدخل قصيدتين لدرويش، ضمن المنهاج التعليمي الإسرائيلي. ثارت حينها عاصفة، ورئيس الحكومة حينها، إيهود باراك، حكم على أن "الشعب اليهودي ليس مهيأ بعد لتقبل ذلك". في الواقع قال: "الشعب الإسرائيلي ليس مهيأ بعد للسلام".

ربما كان ذلك صحيحا، سلام بين الشعبين، بين الأطفال الذين ولدوا قبل أسبوع، يوم الجنازة، في رام الله وفي تل أبيب يمكن له أن يتم فقط إن قرأ الطلاب العرب قصيدة بياليك "ساحة المعركة" عن مجزرة كيشنيوف (عاصمة مولدافيا سابقا)، وحين يتعلم الطلاب الإسرائيليون شعر محمود درويش عن النكبة. حتى قصيدته الغاضبة تلك التي يقول لنا فيها: "آن أن تنصرفوا، ولتموتوا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا "

بدون أن نعي ونواجه، بشجاعة، مشاعر الغضب الجارفة بسبب النكبة لن نفهم جذور الصراع ولن نتمكن من حل تلك المعضلة. وكما قال ادوارد سعيد (مفكر فلسطيني عظيم آخر): دون فهم تأثير الكارثة في نفوس الإسرائيليين لن يتمكن الفلسطينيون من مواجهة ما يضمره ويحسه الشعب الاسرائيلي.

الشعراء هم الرواد في ذلك الصراع، بين الذاكرتين، بين الأساطير، بين الصدمات. سنكون بحاجة ماسة لهم خلال مسيرة صناعة السلام بين الشعبين، بين الدولتين، لبناء مستقبل مشترك.

لم أكن حاضرا خلال اقامة المراسم الملكية المنظمة، حتى أدق التفاصيل، التي أقامتها السلطة الفلسطينية في المقاطعة، كنت حاضرا، بعد ساعتين، عند دفن الجثة على تلة عالية، تطل على كل ما يحيط بها، بجانب القصر الثقافي في رام الله، الذي سيسمى باسمه منذ هذه اللحظة. هناك تم إشعال شموع تحية لذكراه.

ترك الحشد الكبير، من الناس، لدي انطباعا عميقا، حيث التف الجميع حول الضريح المزدان بالورود، واستمعوا لقصائد محمود درويش المسجلة بصوته والتي نقلت عبر مكبر الصوت. الحاضرون، من النخبة وأبناء الشعب الواحد، توحدوا واتحدوا مع الرجل بصمت، بشكل خاص جدا. رغم الازدحام، فسحوا لنا المجال، لنا نحن الإسرائيليين الذين أتينا للوقوف لذكراه.

ودعنا فلسطينيا عظيما، شاعرا كبيرا، إنسانا رائعا.