اوري افنيري 

الهروب إلى الأمام / أوري أفنيري


يسمي الألمان هذا الأمر "الهروب إلى الأمام". عندما تصل الأمور إلى حد اليأس، هاجم! بدل الانسحاب، تقدّم! حين لا يبقى أمامك مهرب، قم بالانقضاض!

نجح هذا الأسلوب في حرب عام 1948، ففي أواخر شهر أيار تقدمت الصفوف المصرية باتجاه تل أبيب. وقفنا أمامها، صف نحيل من الجنود، من دون أسلحة تُذكر. ونحن الذين هاجمنا. مرة أخرى، وأخرى وأخرى. فقدنا الكثير من زملائنا. ولكننا صددنا المصريين.

هذا هو الأسلوب الذي ينتهجه إيهود أولمرت الآن. إن وضعه ميئوس منه. لا شك، لدى معظم الناس في إسرائيل، أنه تلقى رشوة بمغلفات مليئة بالدولارات. من شأن المستشار القضائي أن يقدم لائحة اتهام ضده في أية لحظة، وهذا سيجبره على الاستقالة.

وعندها، في اللحظة الحرجة، قُبيل الكشف عن التفاصيل المُدينة، تم نشر إعلان مشترك في القدس وفي دمشق وفي أنقرة، بشكل متزامن، عن الشروع بمفاوضات سلام بين إسرائيل وسوريا، بوساطة تركية. سوف ترتكز المفاوضات على مبادئ مؤتمر مدريد، التي تقول: إرجاع هضبة الجولان برمّتها.

واه!!

إن إيهود أولمرت هو تلميذ سابقه ووليّه في هذا الشأن، أريئيل شارون.

كان شارون غارقا حتى أذنيه في فضائح الفساد. وفي إحداها، وهي فضيحة "الجزيرة اليونانية" دفع المليونير دافيد إبل مبالغ طائلة لنجل شارون المبتدئ، كأتعاب استشارة. عندها أيضا كان يبدو أن المستشار القضائي لن يتمكن من التملص من تقديم لائحة اتهام.

وجاء رد شارون العبقري: الانفصال. انفصال عن المستشار القضائي للحكومة، بواسطة الانفصال عن قطاع غزة.

كان هذا بمثابة عملية ميدانية ضخمة. بمسرحية ميلودرامية هائلة تم إخلاء مستوطنات غوش قطيف. إلى جانب الجيش، تم أيضا تجنيد كل قوى الشرطة – هي الشرطة ذاتها التي كان عليها أن تحقق مع عائلة شارون – في حملة وطنية تحبس الأنفاس. لقد أيدت قوى السلام، كيف لا، إخلاء المستوطنات. كادت فضائح الفساد أن تُنسى.

وبالفعل فقد حول الانفصال، من دون التفاوض والتنسيق، قطاع غزة إلى قنبلة موقوتة، تجبر أولمرت الآن على إدارة مفاوضات حول وقف لإطلاق النار. ولكن هذه المناورة قد تكللت بالنجاح بالنسبة لشارون. لولا أنه أصيب بالسكتة الدماغية، لكان شارون اليوم أيضا هو رئيس حكومة إسرائيل.

أما تلميذه أولمرت فقد رأى وتعلّم.

يقول أصحاب الذوق الرفيع: قرف! من غير المسموح تقبّل هذه المناورة القذرة! من غير المسموح الموافقة على سلام مصدره الخطيئة!

يبدو أن حاسة الذوق لديّ مختلة. لأنني مستعد لتقبل السلام من زعيم مفسد إلى أقصى الحدود أيضا، وحتى من الشيطان ذاته. إذا كان الفساد محفزا لسياسي ليفعل شيئا من شأنه أن يمنع الحروب وينقذ حياة الإنسان وحياة آلاف بني البشر من كلا الطرفين - فهذا أمر جيد أيضا. ربما يعبر هذا الأمر عن أقوال فريدريخ هاغل عن "مكر الذكاء".

تروي التوراة أنه حين هاجم جيش دمشق السامرة، قام أربعة مجذومين بإحضار البشارة إلى المدينة بأن العدو قدر هرب (ملوك ب، الأصحاح 7). كتبت الشاعرة راحيل عن ذلك تقول: "ولكني لن أقبل بشارة الخلاص / إذا جاءت من فم مجذوم." أما أنا فأقبلها.

كان من المتعارف عليه دائما أن الزعيم القوي فقط يمكنه صنع السلام. يبدو الآن أن هناك إمكانية معاكسة: أن الزعيم الضعيف فقط، الغارق في عمق المشاكل، والذي يمكن لفترة توليه لمنصبه أن تنتهي في أية لحظة، والذي يقف ائتلافه على قائمتي دجاجة، زعيم لم يعد لديه ما يخسره - إن مثل هذا الشخص أيضا قادر على المراهنة على السلام.

هناك عدة إمكانيات لتطور الرواية.

الإمكانية الأولى: الموضوع ما هو إلا "إسفين" – مصطلح أمريكي تحول إلى الاسم الثاني لأولمرت. ما سيفعله، ببساطة، هو المماطلة في المحادثات وكأنها قطعة مطاط، كما يفعل مع الفلسطينيين، وسينتظر إلى أن تهدأ العاصفة.

حول هذا الموضوع يمكن القول: سيكون من الصعب عليه أن يتصرف على هذا النحو، لأن أحد الشركاء في هذه اللعبة هي تركيا. حتى أولمرت يدرك أنها ستكون حماقة كبيرة أن يغضب الأتراك، الذين يُدخلون إلى اللعبة كرامتهم الوطنية.

ولكن حتى في هذه الحال، فإن مجرد موافقة أولمرت على إدارة المفاوضات على أساس إرجاع كل هضبة الجولان هي خطوة هامة إلى الأمام. حين تُضاف هذه الخطوة إلى التفاهمات السابقة التي توصل إليها إسحق رابين وبنيامين نتنياهو وإيهود براك، فهي ترسم خطا إلى مستقبل لا رجعة منه.

الإمكانية الثانية: أولمرت جاد في نواياه. لأسبابه الشخصية، سيدير المفاوضات "عن صدق نية"، كما التزم هذا الأسبوع أن يفعل وأن يتوصل إلى اتفاق. ستدور ضده في البلاد حملة تحريض هوجاء. سيتم حلّ الكنيست، وستجرى انتخابات جديدة، سيترأس أولمرت حزب كاديما مرة أخرى، وسيفوز بصفته رجل السلام.

على النقيض من ذلك: سيخسر الانتخابات. ولكنه سينزل عن الحلبة لسبب وجيه: لم يتم إقصاؤه بسبب فضائح الفساد، بل سيقدم نفسه قربانا على مذبح السلام.

على النقيض من ذلك: سيقدم المستشار القضائي للحكومة لائحة اتهام ضده رغم كل شيء، وسيستقيل، ولكنه سيعود إلى بيته مرفوع الرأس كزعيم خطا خطوة تاريخية. سيبدو المستشار القضائي للحكومة كمن عرقل السلام، ولربما كمن كان السبب في نشوب حرب أخرى.

سؤال يثير الاهتمام: إذا قرر أولمرت "الهروب إلى الأمام"، فلماذا يهرب إلى الأمام، إلى السلام، وليس إلى الحرب؟ ما يحدث، عادة، هو العكس: السياسي الواقف على حافة الانهيار يفضل المبادرة إلى شن حرب صغيرة (أو كبيرة). لا يوجد شيء أفضل من الحرب لتمويه الإدراك، وهي تحظى في معظم الأحيان بشعبية أكبر، في البداية على الأقل، من عملية سلام.

هنا أيضا توجد عدة إمكانيات:

الإمكانية الأولى: سيلقى أولمرت النور كما التقاه بولس الرسول على طريق دمشق، وهو سيتحول إلى رجل سلام حقيقي. الديماغوغ العنصري استقرّ وأدرك أن المصلحة الوطنية تستوجب السلام. أما المتفذلك فسينفجر ضاحكا في هذه الحال. ولكن أمورا كهذه قد حدثت من قبل.

الإمكانية الثانية: يؤمن أولمرت أن الجمهور الإسرائيلي يفضل السلام مع سوريا على الحرب ضد سوريا، ولذلك سيحظى بشعبية أكبر كرجل سلام بالذات. (أنا على قناعة بأن هذا صحيح.)

الإمكانية الثالثة: يسلك أولمرت هذه الطريق لأنه يعلم أن قادة الأجهزة الأمنية (فيما عدا رئيس الموساد، العنصري الذي لا أمل منه)، يدعمون السلام في الشمال، من خلال حسابات استراتيجية محضة. إن قيادة الأركان تنظر إلى فقدان الجولان على أنه ثمن معقول مقابل عزل سوريا عن إيران وإضعاف دعمها لحزب الله وحماس، وعلى وجه التحديد إذا رابطت قوات دولية في هضبة الجولان، حينما ستتحول هذه المنطقة مرة إلى "الهضبة السورية".

سوريا هي دولة سنيّة، حتى وإن كانت تتزعمها الطائفة العلوية الصغيرة، الأقرب إلى الشيعة. (يُدعى العلويون بهذا الاسم نسبة إلى علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، إذ أن الشيعيين يرون فيه وريث النبي القانوني.) إن التحالف بين سوريا السنية العلمانية وبين إيران، الشيعية المتزمتة، هو تحالف سببه الراحة أكثر منه الأيديولوجية. كما أن التحالف مع حزب الله الشيعي يرتكز هو أيضا على المصالح: لكون سوريا لا تجرؤ على مهاجمة إسرائيل لتستعيد لنفسها هضبة الجولان، فإنها تستخدم حزب الله كمقاول ثانوي.

يحدث كل ذلك بغياب الولايات المتحدة. إن لذلك سابقات أيضا: لقد نضجت مبادرة السادات من وراء ظهر الأمريكيين (كما أخبرني السفير الأمريكي في القاهرة آنذاك). وقد نضجت مبادرة أوسلو أيضا من دون معرفة الأمريكيين.

عارضت الولايات المتحدة حتى الأونة الأخيرة أي تقارب بين إسرائيل وسوريا، وهي تسّلم الآن أمرها بالنسبة للمبادرة على الرغم من أنها تقطب حاجبيها. إن سوريا في مشهد عالم أفلام رعاة البقر الذي يؤمن به جورج بوش، تنتمي إلى "محور الشر" ومن الواجب عزلها.

ثمة هنا أمور تستوجب أن يفكر بها جون ميرشماير وستيفان وولط، البروفيسوران الأمريكيان اللذان من المزمع قدومهما في الشهر المقبل إلى إسرائيل. إنهما يدعيان في كتابهما الاستفزازي أن اللوبي الإسرائيلي يهيمن هيمنة كاملة على السياسة الأمريكية. يبدو أن القدس، في هذه القضية، قد لوت ذراع واشنطن بالفعل.

لقد قال بوش في زيارته إلى القدس قبل عدة أيام أنه يُمنع التحدث مع الأعداء. اعتُبرت هذه الأمور بمثابة احتجاج على أقوال براك أوبما، الذي أبدى استعداده للتحدث مع زعماء إيران. قد يكون أولمرت قد راهن على دخول أوبما إلى البيت الأبيض.

ولكن بوش لم ينته بعد. ما زالت لديه ثمانية أشهر، ولربما هو أيضا سيحسب حساباته أنه من الأفضل "الهروب إلى الأمام". في هذه الحال: أن يهاجم إيران.

كيف يؤثر ذلك على مشكلة المشاكل، لب الصراع العربي الإسرائيلي: فلسطين؟

لقد صنع مناحيم بغين سلاما منفردا مع مصر وأعاد شبه جزيرة سيناء كلها لكي يركز على الحرب ضد الفلسطينيين. لا شك في أن بغين كان مستعدا للقيام بالأمر ذاته على الجبهة السورية أيضا. بموجب خارطة زئيف جبوطينسكي، الذي ترعرع إيهود أولمرت أيضا على مبادئها، فإن الجولان، مثله مثل سيناء، ليس جزءا من أرض إسرائيل.

يكمن في السلام المنفرد خطر محدق على الفلسطينيين. إذا توصلت حكومة إسرائيل إلى تسوية سلمية مع سوريا (وفي أعقابها مع لبنان أيضا)، فستربطها علاقات سلام بكل جاراتها. سيكون الفلسطينيون معزولون، وستتمكن حكومة إسرائيل من محاربتهم كما يحلو لها.

مقابل هذا الخطر، ثمة احتمال إيجابي: بعد الانسحاب من الجولان سيزيد الضغط، من الداخل ومن الخارج، للتوصل أخيرا إلى تسوية سلمية مع الشعب الفلسطيني أيضا.

إن مستوطني الجولان يتمتعون بشعبية أكبر من الشعبية التي يتمتع بها مستوطنو الضفة الغربية. بينما ينظر إلى سكان عوفرا والخليل على أنهم متطرفين متدينين، يتصرفون تصرفات مجنونة غريبة عن الطابع الإسرائيلي، فإن مستوطني كتسرين ونفي أطيف هم، في أغلبيتهم، "جزء منا"، ناهيك أنه قد تم زرعهم هناك من قبل حزب العمل. إذا تم إخلاء سكان الجولان، فسيكون من الأسهل بكثير إخلاء سكان "يهودا والسامرة".

عندما سيحل السلام بين إسرائيل وجميع الدول الجارة، سيزيد إحساس الجمهور الإسرائيلي بالأمن. ربما يكون مستعدا آنذاك أن يتحمل مخاطر أكبر حين يأتي ليصنع السلام مع الشعب الفلسطيني.

الجو الدولي سيتغير هو أيضا. إذا اختفى "محور الشر" مع اختفاء جورج بوش، وإذا بذلت الزعامة الأمريكية الجديدة جهدا جديا لإحلال السلام، فسيجرؤ التفاؤل على رفع رأسه مرة أخرى. هناك من يحلم بشراكة بين براك أوبما وتسيبي ليفنيه.

كل ذلك للمستقبل. أما في هذه الأثناء، فلدينا أولمرت ضعيف يحتاج إلى مبادرة كبيرة. تروي الأسطورة التوراتية أن شمشون الجبار يقتل شبل أسد، وعندها يأتي سرب من النحل ويستوطن على الجيفة. وقد طرح شمشون على الفلسطينيين لغزا: "من العلقم خرج الحلو"، ولم يعرف أحد الحل. يمكننا الآن أن نسأل: "هل يخرج الحلو من الضعيف؟"