اوري افنيري 

نهاية معروفة مسبقا / أوري أفنيري


قال أحد الحكماء: "الأحمق يتعلم من تجربته. الذكي يتعلم من تجارب الآخرين". يمكن أن نضيف: "وأغبى الأغبياء لا يتعلم من تجاربه هو أيضا".

إذن ماذا سنستنتج من قراءة كتاب يثبت إلى أي مدى نحن لا نتعلم من تجاربنا؟

كل هذا هو مقدمة للنصح بكتاب واحد كهذا. لم أعتد على النصح بالكتب، ولا بكتبي أيضا، ولكن في هذه المرة خطر ببالي أن اخرج عن هذه القاعدة.

إنه كتاب وليام بولك ( POLK)، "سياسة عنيفة"، الذي صدر منذ فترة وجيزة في الولايات المتحدة. آمل أن تتم ترجمة الكتاب إلى العبرية بسرعة.

لقد زار بولك البلاد عام 1946، في أوج نضالنا ضد الاحتلال البريطاني، ومنذ ذلك الحين يعمل على دراسة تاريخ حروب التحرير. إنه يقارن، في كتابه الذي يقل عدد صفحاته عن 300 صفحة، بين 13 ثورة، ابتداء من حرب التحرير الأمريكية وانتهاء بحرب أفغانستان. كان طيلة سنوات عضوا في غرفة تخطيط العمليات في وزارة الخارجية الأمريكية، وكانت له علاقة أيضا بالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. إن استنتاجاته مثيرة للغاية.

إنه مهتم بشكل خاص بهذا الموضوع. حين جنّدت في سن 15 سنة للمنظمة العسكرية الوطنية، طلبوا مني أن أقرأ كتبا عن حروب التحرير السابقة، وخاصة نضالات البولنديين والإرلنديين. انكببت أقرأ كل الكتب التي تمكنت من الحصول عليها، ومنذ ذلك الحين واصلت أتابع التمردات وحروب العصابات في العالم، مثل الثورات في مالي، كينيا، اليمن، جنوب أفريقيا، أفغانستان، كردستان، فييتنام وغيرها. لقد أيدت إحداها وهي حرب التحرير الجزائرية، بشكل فعال.

في تلك الفترة التي كنت أنتمي فيها إلى "الإتسل"، عملت في مكتب المحاماه، حنيخ أوكسفورد. كان من بين زبائننا موظف بريطاني كبير تابع لحكومة الانتداب. كان رجل مثقف، طيب المعشر ويتحلى بروح دعابة بريطانية كبيرة. أتذكر أنه ذات مرة، حين مرّ من أمامي، راودتني فكرة: كيف يحدث أن أشخاصا أذكياء إلى هذا الحد، يمكنهم أن يديروا سياسات حمقاء للغاية؟

منذ ذلك الحين، كلما تعمقت في الثورات الأخرى، تزايد لدي هذا الإحساس بالتعجب. هل من المعقول أنه في حالة من الاحتلال والتمرد يُفرض على المحتل أن يتصرف بحماقة، حتى أن أذكى المحتلين يتحول إلى أحمق؟

قبل بضع سنوات شاهدت في قناة البي بي سي مسلسل طويل يتناول عملية تحرير المستعمرات البريطانية، من الهند وحتى جزر الكريبي. تم تخصيص حلقة واحدة في المسلسل لكل مستعمرة، وقت تمت فيها مقابلة رجالات السلطة البريطانية، قادة جيش الاحتلال، مقاتلي التحرير والشهود الآخرين. كان ذلك مثيرا جدا للاهتمام ومحبطا في الوقت ذاته.

محبط – لأن كل الحلقات كررت ذاتها بشكل دقيق تقريبا. حكام كل مستعمرة كرروا نفس الأخطاء بالضبط التي اقترفها سابقوهم في الحلقة السابقة. لقد أخطئوا في نفس الأوهام ومُنيوا بنفس الفشل. لم يتعلم أي منهم من تجارب سابقيه، حتى عندما كان سابقه هو نفسه – كضابط الشرطة البريطانية الذي انتقل من فلسطين (أرض إسرائيل) إلى كينيا.

يصف بولك في كتابه المختصر الثورات الرئيسية في الـ 200 سنة الأخيرة، يقارن فيما بينها ويستخلص العبر التي يجب استخلاصها.

من المفروغ منه أن كل حرب تحرير هي حرب مميزة وتختلف عن الأخريات، فالظروف مختلفة، الثقافات مختلفة والمحتلون مختلفون بين مكان وآخر. البريطانيون يختلفون عن الهولديين، وكلاهما يختلف عن الفرنسيين. كان جورج واشنطن يختلف عن طيطو، وهو تشي مين يختلف عن ياسر عرفات. وعلى الرغم من ذلك، هناك وجه شبه يثير العجب بين كل حروب التحرير.

من ناحيتي، العبرة الأساسية هي: منذ اللحظة التي يتعاطف عامة السكان فيها مع المتمردين، فإن نصر الثورة مضمون.

هذه قاعدة لا استثناء فيها: الثورات التي يؤيدها السكان، نهايتها النصر، ومن غير المهم كيف يكون رد النظام المحتل وأي الحيل يستخدم. يمكن للمحتل أن ينفذ قتلا جماعيا أو أن يحاول استخدام أساليب إنسانية، نسبيا، لتعذيب مقاتلي التحرير حتى الموت، أو أن ينظر إليهم كأسرى حرب – لا شيء يتغير مع مرور الأيام. يمكن لأخر المحتلين أن يصعد إلى سفينة باحتفال رنّان، كما فعل المندوب السامي البريطاني في حيفا، أو أن يستقل مروحية وهو مذعور، كآخر جندي على سطح السفارة الأمريكية في سايغون – إن سقوطه كان مضمونا منذ اللحظة التي وصل فيها التمرد إلى نقطة معينة.

تدور رحى الحرب الحقيقية ضد الاحتلال في وعي الجمهور الذي القابع تحت الاحتلال. لذلك، فإن المهمة الرئيسية لمقاتل التحرير ليست مقاتلة النظام المحتل، كما يبدو للوهلة الأولى، بل هي حيازة قلوب شعبه. وعلى أية حال، فإن المهمة الأساسية للمحتل ليست الفتك بمقاتلي التحرير، بل منع السكان من تبنيهم واحتضانهم. المعركة هي على روح الجمهور، على فكره وأحاسيسه.

هذا هو أحد الأسباب لفشل الجنرالات دائما تقريبا في صراعهم ضد مقاتلي التحرير. العسكري هو الشخص الأقل ملاءمة للتعامل مع هذا الأمر. كل تربيته، كل طريقة تفكيره، كل ما تعلمه، يتعارض مع هذه المهمة المحددة. لقد فشل نابليون، القائد الفذ، في قمع حرب التحرير الأسبانية (التي وُلدت فيها كلمة "غريلا"، الحرب الصغيرة)، ليس بأقل مما فشل أحمق جنرال أمريكي في حرب فييتنام.

ضابط الجيش هو مجرد تقنيّ، تم تأهيله لينفذ مهمة معينة. هذه المهمة لا تكون ملاءمة في نضال ضد حرب التحرير، رغم التشابه الخارجي. إن حقيقة كون الدهّان يتعامل مع الدهان لا تؤهله أن يرسم الوجوه. يمكن للسّمكري أن يتميز في مهنته، ولكن هذا لا يحوله إلى مهندس في علوم المياه. الجنرال غير قادر على فهم ماهية التمرد الوطني، ولذلك لا يفهم قواعده.

على سبيل المثال، يقيس الجنرال نجاحه بعدد قتلى العدو. ولكن الحركة السرية المقاتلة تتقوى بالذات كلما استشهد المزيد من الشهداء، لأن الجمهور يتعاطف مع الشهداء. يتعلم الجنرال كيف يخطط للمعركة وينتصر فيها، ولكن خصومه، مقاتلي العصابات، يتملصون من المعركة.

تشي غفارة الأسطوري حدد بشكل جيد المراحل التي تجتازها حرب التحرير الكلاسيكية: عصابة صغيرة، أسلحتها محدودة، تختبئ في مكان ناء (أو بين السكان المدنيين). بقليل من الحظ، تنجح في توجيه ضربة إلى قوة الاحتلال، وبعض الأيديولوجيين ينضمون إليها. تحظى هي بقلوب جزء من المواطنين وتنفذ عمليات انقضاض وهروب. حين ينضم إليها مقاتلون جدد، تهاجم وحدة من الجيش المحتل وتستولي على سلاحها. تقيم بالتدريج معسكرات ثابتة، تقدم خدماتها إلى السكان وتتحول إلى حكومة مصغّرة. وهكذا دواليك.

لكي تنجح في كل ذلك، يجب أن تكون لديها أفكار تأجج مشاعر الجمهور. يلتف الجمهور من حولها ويقدم لها العون، الملجأ والمعلومات. في هذه المرحلة، تقدم كل الأعمال التي ينفذها النظام المحتل المساعدة للمتمردين: حين يقتلونهم، يأتي مكانهم آخرون ويملئون الصفوف (كما فعلت أنا في شبابي). حين يفرضون على السكان عقوبات جماعية، يزيد هذا الأمر من كراهية المحتل والدعم المتبادل. حين ينجح النظام المحتل بالقبض على زعماء حركة التحرير وقتلهم، يحل محلهم زعماء آخرون – كما أنبتت هيدرا في الأسطورة اليونانية رؤوسا جديدة حين قطع هرقل أحد رؤوسها.

ينجح النظام المحتل، في بعض الأحيان، بزرع ذات البين بين مقاتلي التحرير، ويرى في ذلك نجاحا كبيرا. ولكن عندها تواصل كل الفصائل مقاتلة المحتل كل على حدة، من خلال التنافس فيما بينها - مثل حماس وفتح.

خسارة أن بولك لم يخصص فصلا خاصا للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، ولكن هذا غير ضروري. يمكننا أن نكتب هذا الفصل بأنفسنا وفق ما نعرفه نحن.

طيلة 40 سنة من الاحتلال، فشل كل قادة الجيش الإسرائيلي والمستوى السياسي في كفاحهم ضد العصابات الفلسطينية. إنهم ليس أكثر حماقة ووحشية ممن سبقوهم – الهولنديون في إندونيسيا، البريطانيون في البلاد، الفرنسيون في الجزائر، الأمريكيون في فييتنام، الروس في أفغانستان. جنرالاتنا يفوقون كل هؤلاء في عنجهيتهم – إنهم يؤمنون أنهم الأكثر ذكاء، وأن الدماغ اليهودي سيخترع لنا اختراعات لا يمكن لكل هؤلاء، غير اليهود، أن يفكروا بها.

منذ أن نجح ياسر عرفات في اكتساب محبة الجمهور الفلسطيني، وتوحيد هذا الجمهور في توق متأجج للتحرير من وطأة الاحتلال، قد تم حسم النزاع. لو كنا أذكياء، لكنا توصلنا معه إلى تسوية سياسية في ذلك الحين. ولكن سياسيينا وجنرالاتنا ليسوا أذكياء أكثر من الآخرين. وهكذا واصلوا القتل، التفجير، الهدم والتهجير، إيمانا غبيا منهم بأن ضربة واحدة أخرى فقط، وها هو النصر المرجو سيظهر كنور في نهاية النفق. غير أننا ما فعلنا سوى أن دخلنا في نفق أكثر ظلمة.

كما يحدث دائما، عندما لا تتوصل حركة سرية مقاتلة إلى هدفها، تقوم إلى جانبها أو بدلا عنها منظمة أكثر تطرفا، وتحتل قلوب الجماهير. المنظمات التي تشبه حماس، أخذت مكان المنظمات التي تشبه فتح. النظام الاستعماري الذي لم يكن ذكيا قبل فوات الأوان ولم يتوصل إلى تسوية مع المنظمة الأكثر اعتدالا، يُضطر في نهاية الأمر إلى التفاهم مع منظمة أكثر تطرفا.

لقد نجح الجنرال ده غول في صنع السلام مع المتمردين الجزائريين قبل أن وصل إلى هذه المرحلة. مليون وربع المليون من المستوطنين في الجزائر سمعوا ذات صباح أن الجيش الفرنسي سينسحب في موعد معين من الجزائر وسيعود إلى فرنسا. المستوطنون، وكان من بينهم من أبناء الجيل الرابع، هربوا خلال بضعة أسابيع، من دون "تعويضات إخلاء" ومن دون تعويضات أبدا. ولكن نحن ليس لدينا ده غول. لقد كُتب علينا أن نواصل إلى بوش.

لو كان الأمر متعلقا بالمآسي اليومية الفظيعة، لكان بالإمكان أن ننظر مبتسمين إلى انعدام الحيلة التي يتمتع بها سياسيونا وجنرالاتنا، الذين يركضون كخيول في الإسطبل ولا يعرفون ما يجب عمله، ومن أين سيأتي خلاصهم. ما العمل؟ تجويعهم كلهم؟ لقد أدى ذلك إلى انهيار محور فلدلفيا. قتل الزعماء؟ كنّا قد اغتلنا الشيخ أحمد ياسين وآخر وآخر وآخر. إنجاز "العملية الكبيرة"؟ لقد كنا قد احتللنا قطاع غزة كله عدة مرات. في هذه المرة سنواجه حرب عصابات أكثر تجربة، أكثر تجذرا بين أوساط السكان. كل دبابة وكل جندي سيكونون هدفا. يمكن للصياد أن يتحول إلى طريدة.

إذن ما الذي يمكننا أن نفعله ولم نفعله حتى الآن؟

أولا، يجب إلزام كل ضابط ابتداء من رتبة ملازم وما فوق أن يقرأ كتاب وليام بولك، إضافة إلى أحد الكتب الجيدة التي تتناول حرب التحرير الجزائرية.

ثانيا، أن نفعل ما فعلته كل أنظمة الاحتلال في نهاية الأمر في كل الدول الأخرى التي تمرد سكانها: أن نعمل على التوصل إلى تسوية سياسية يمكن للطرفين أن يعيشا معها وأن يشعرا أنهما قد ربحا منها. وأن ننصرف.

ليس هناك من شك كيف ستكون النهاية. السؤال الوحيد هو حجم القتل، حجم الدمار، حجم المعاناة التي يجب أن يحدث، لكي يتوصل المحتلون إلى هذا الاستنتاج.

كل قطرة دم أخرى هي خسارة.