اوري افنيري 

أتمت نفسي مع الفلسطينيين؟ / أوري أفنيلا


أشهر كلمات قيلت يوما ما في غزة هي جملة شمشون الجبار (سفر القضاة، 30): "لتمت نفسي مع الفلسطينيين!"

تروي الرواية التوراتية أن شمشون قد قبض على العمودين المتوسطين الذين كان البيت قائما عليهما فأسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي كان فيه. يُجمل الراوي التوراتي: "فكان الموتى الذين أماتهم في موته، أكثر من الذين أماتهم في حياته."

رواية معاناة، دمار وموت. من شأن ذلك أن يتجدد الآن، من خلال تبديل الأدوار: هذه المرة سيسقط المبعد الفلسطينيون (أي فلسطينيو اليوم)، ومن بين القتلى سيكون هناك أقطاب إسرائيل.

هل ستتحول غزة إلى مسادا الفلسطينية؟

يخشى سكان غزة ذلك. أتباع حماس على أهبة الاستعداد. قادة الجيش الإسرائيلي يستعدون ويخشون أيضا.

منذ أشهر يناقش زعماء إسرائيل السياسيون والعسكريون "العملية الكبيرة": اجتياح كبير من قبل الجيش الإسرائيلي لغزة، بهدف وضع حد لإطلاق الصواريخ نحو إسرائيل.

قادة الجيش الإسرائيلي، الذين تفرحهم المعارك عادة، ليسوا متحمسين لهذه المعركة. ليسوا متحمسين أبدا. إنهم يريدون الامتناع عنها بأي ثمن. ولكنهم يتعاملون معها على أنها قدر. كل هذا متعلق بالوضع المبهم. على سبيل المثال، إذا سقط غدا صاروخ قسام على بيت في سدروت وقتل عائلة بأكملها، ستحدث ضجة في إسرائيل لا تبقي للحكومة، من وجهة نظرها، أي حل سوى إصدار الأمر.

من وجهة نظر كل مخطط عسكري وسياسي، قطاع غزة هو كابوس. طوله حوالي 40 كم، عرضه حوالي 10 كم. في هذه المساحة الصحراوية الجافة المكونة من 360 كم مربعا يحتشد حوالي مليون ونصف المليون شخصا، معظمهم فقراء بائسون، ليس لديهم ما يخسرونه، وترأسهم منظمة دينية متطرفة عنيدة. ( من الجدير أن نتذكر: في حرب عام 48 كان عدد السكان اليهود لا يكاد يتعدى 650 ألف نسمة.)

منذ بضعة أشهر تقوم قيادة حماس في غزة بجمع الأسلحة، يتم تهريبها إلى غزة عن طريق الأنفاق العديدة الموجودة تحت حدودها مع مصر (كما هرّبنا نحن الأسلحة للدول العربية في حرب عام 48). صحيح أنه لا توجد هناك دبابات، ولكن هناك سلاح خطير جدا ضد الدبابات.

وفقا لتقديرات الجيش الإسرائيلي فإن اجتياحا كبيرا من شأنه أن يؤدي إلى مقتل مئات الجنود الإسرائيليين وآلاف المقاتلين والمواطنين الفلسطينيين. سيستخدم الجيش الإسرائيلي الدبابات والجرافات, وسيرى العالم صور فظيعة ومخيفة- من نوع الصور الذي حاول الجيش الإسرائيلي إخفاءها والتي أحدثت ضجة عالمية حول "مجزرة جنين" في حملة "الجدار الواقي".

لا يمكن لأحد أن يعرف كيف ستتطور الأمور. من الممكن أن تتراجع المقاومة الفلسطينية سريعا، ويتبين أن كل المخاوف من وقوع الكثير من الضحايا الإسرائيلية قد تلاشت. ولكن، من الممكن أيضا أن تتحول غزة إلى حصن فلسطيني، شيء من قبيل ستلنغراد بصورة مصغرة. هذا الأسبوع، في إحدى العمليات "الصغيرة" التي نفذها الجيش الإسرائيلي في غزة، اخترق أر-بي-جي فلسطيني دبابة "مِركفاه-علامة-3"، وبأعجوبة فقط لم يُقتل ركابها الأربعة. ليس من المؤكد أن تتكرر هذه المعجزات في اشتباك كبير ودموي.

لا ينتهي الكابوس بهذا الأمر. لا يوجد شك بانتصار الجيش الإسرائيلي على المقاومة، مهما كلف الثمن لدى الطرفين، ربما من خلال هدم أحياء بأكملها وقتل جماعي. ولكن ماذا بعد ذلك؟

إذا سارع الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من غزة، سيعود الوضع لما كان عليه سابقا، وسيتجدد قصف القسام (إذا كان قد توقف أصلا). معنى ذلك أن العملية كلها ستكون بغير جدوى. إذا بقي الجيش الإسرائيلي- ولن يكن لديه خيار آخر- يتوجب عليه تحمل المسؤولية كنظام محتل. إطعام السكان، إدارة الخدمات الاجتماعية، والحفاظ على الأمن. كل ذلك بظروف حرب عصابات متواصلة وحامية الوطيس، تحول حياة المحتلين ومن هم تحت الاحتلال إلى جحيم.

لطالما كانت غزة منطقة محتلة معقدة. الجيش الإسرائيلي كان قد انسحب من هناك ثلاث مرات، وفي كل مرة ابتهج المنسحبون وفرحوا. "غزة- وداعا بغير رجعة!" كان هذا دائما شعار حظي بالشعبية. عندما قامت إسرائيل بصنع السلام مع مصر، رفض المصريون استرجاع غزة لتكون تحت مسؤوليتهم.

اندلاع الانتفاضة الأولى والثانية في غزة لم يأت من قبيل الصدفة. (اندلعت الأولى، التي مضى على اندلاعها عشرون عاما هذا الأسبوع، عندما اصطدم سائق شاحنة إسرائيلي بسيارتين مليئتين بالعمال الفلسطينيين، رأى الفلسطينيون بذلك عملية انتقام إسرائيلية مقصودة. اندلعت الثانية في اعقاب العمل الاستفزازي الذي قام به أريئيل شارون في الحرم القدسي الشريف وإطلاق النار من قبل الشرطة على المتظاهرين المسلمين الثائرين.)

منظمة حماس أيضا، والتي تحتفل اليوم بالذكرى العشرين لتأسيسها، ولدت - وليس بمحض الصدفة - في غزة.

لا عجب من تخوف قيادات الجيش الإسرائيلي من إعادة احتلال غزة. إنهم لا يريدون لعب دور الأقطاب الفلسطينيين (التوراتيين) في قصة شمشون فلسطيني.

تكمن المشكلة في أنه ليس ثمة أي شخص يعرف السبيل للخروج من الأزمة التي تركها اريئيل شارون خلفه، وهو صانع الأزمات المتمرس.

بادر شارون إلى "الانفصال" - أحد أكثر الأعمال غباء في تاريخ الدولة، المليء بالأعمال الغبية.

فكك شارون، كما هو معروف، المستوطنات وترك القطاع، من دون أن يحاور الفلسطينيين ومن دون أن يسلم المنطقة للسلطة الفلسطينية. إنه لم يمنح سكان غزة فرصة عيش حياة عادية، بل قام بتحويل المنطقة إلى سجن ضخم. تم قطع أي اتصال بالعالم – قام سلاح البحرية بقطع الاتصال البحري، وتم إغلاق الحدود مع مصر فعليا، بقي المطار مدمرا، وتم منع إنشاء ميناء بحري بالقوة. تم قطع "الممر الآمن" بين القطاع والضفة تماما، بقيت كل الممرات من القطاع وإليه تحت سلطة إسرائيلية مطلقة، حيث فتحت الممرات وأقفلتها كما يحلو لها. تم وقف عمل الكثيرين من عمال غزة في إسرائيل، والذين كان القطاع بأكمله متعلق بمدخولاتهم.

إن تفادي ما سيحصل بعد ذلك كان مستحيلا: تولت حماس السلطة في غزة، من دون أن يتمكن الوصوليون في رام الله، الذين لا حول لهم ولا قوة، من التدخل. أطلقت من غزة صواريخ القسام وقذائف الهاون على البلدات الإسرائيلية المجاورة، من دون أن يكون الجيش الإسرائيلي قادرا على إغاذتها. أحد أقوى الجيوش في العالم، والذي يملك أكثر الوسائل القتالية تطورا، لا يستطيع منع استخدام الأسلحة الأكثر بدائية في العالم.

وهكذا تكونت حلقة مفرغة لا مخرج منها: يشدد الإسرائيليون الخناق على سكان غزة، سكان غزة يقصفون سدروت، يرد الجيش الإسرائيلي بقتل مقاتلين ومواطنين في غزة، يقوم سكان غزة بإسقاط وابل من قذائف الهاون على الكيبوتسات، ينفذ الجيش الإسرائيلي اجتياحات "صغيرة" ويقتل في كل يوم وفي كل ليلة مقاتلين فلسطينيين، تقوم حماس باستيراد سلاح متطور مضاد للدبابات- من دون أن يكون لهذا الأمر نهاية.

لا يعرف الإسرائيلي العادي ماذا يحدث في قطاع غزة. الانفصال هو انفصال تام. لا يستطيع أي إسرائيلي الدخول إلى غزة، ولا يستطيع أي فلسطيني الخروج منها تقريبا.

يصفون الحكاية في إسرائيل كما يلي: لقد قمنا بعمل رائع. خرجنا من غزة. فككنا كل المستوطنات هناك، مع أن ذلك سبّب أزمة وطنية كبيرة. وماذا حدث؟ لم نلبث أن خرجنا من هناك، حتى بدأ الفلسطينيون بقصفنا من داخل القطاع وحوّلوا حياتنا في سدروت إلى جحيم. لا يوجد لدينا خيار آخر عدا تحويل حياتهم إلى جحيم أيضا، كي يتوقفوا.

سمعت هذا الأسبوع تقريرا على لسان إحدى الشخصيات الموثوق بها جدا في غزة. الدكتور إياد سراج، طبيب نفسني، ناشط في مجال السلام وفي مجال حقوق الإنسان في غزة. اليكم بعض الأمور التي قالها في حلقة مصغرة لنشطاء السلام:

تمنع إسرائيل كل الاستيراد إلى غزة، باستثناء كمية محدودة تساوي نصف دزينة من الاحتياجات الأساسية. كانت تعمل، في السابق، 900 شاحنة في الاستيراد والتصدير الخاص في غزة يوميا. تعمل اليوم 15 شاحنة في هذا المجال. بهذا الشكل لا يسمحون حتى باستيراد الصابون.

المياه المحلية غير صالحة للشرب. إسرائيل لا تسمح باستيراد الماء المعبأ بالزجاجات. وهي تمنع أيضا استيراد مضخات مياه. أسعار مصافي المياه ارتفعت من 150 ش.ج. الى 1000 ش.ج. قطع الغيار للمصافي غير متوفرة أبدا. ميسورو الحال فقط يمكنهم أن يسمحوا لأنفسهم بشراء المصافي. لكن إسرائيل تسمح بإدخال الكلور.

ليس ثمة استيراد للاسمنت. لا يمكن تصليح الثقوب في الأسقف. لا يمكن مواصلة إقامة مستشفى للأطفال كان قد تم البدء ببنائه. لا توجد قطع غيار من أي نوع. حين يتلف جهاز طبي لا يكون بالإمكان تصليحه. وكذلك حاضنة الرضّع أو أجهزة الغسل الكلوي (الدياليزا).

لا يمكن للمرضى الذين يعانون من حالات مستعصية الوصول إلى المستشفى، لا في إسرائيل، لا في مصر ولا في الأردن. يتم قبول الموافقات النادرة بالعبور بتأخير "فتاك". في حالات عديدة يتم الحكم على المرضى بالإعدام.

لا يستطيع طلاب الجامعات الوصول إلى الجامعات خارج البلاد. المواطنون الأجانب الذين قدموا إلى غزة عن طريق الصدفة، لا يمكنهم الخروج، إذا كانوا يحملون الهوية الفلسطينية. حتى من يملك عقد عمل في الخارج، لا يسمح له بالمغادرة أيضا. سمحت إسرائيل لبعض الفلسطينيين الخروج عبر معبر كيريم شالوم باتجاه مصر، لكن المصريين لم يسمحوا لهم بالدخول وأرجعوهم إلى القطاع.

تم إقفال جميع المصانع تقريبا وقُذف بالعمال إلى الشوارع، لأنه ليس بمقدور هذه المصانع أن تحصل على المواد الخام. هكذا أيضا تم إغلاق مصنع كوكا-كولا. بعد 60 عاماا من الاحتلال – المصري في البداية، والإسرائيلي لاحقا – لا يتم إنتاج أي شيء في غزة تقريبا سوى البرتقال، البندورة، التوت الأرضي وما شابه ذلك.

الأسعار في غزة بارتفاع شديد – بخمسة وبعشرة أضعاف. أسعار الاحتياجات الضرورية للعيش مرتفعة في غزة الآن أكثر منها في تل-أبيب. السوق السوداء مزدهرة.

فكيف يتمكن الناس من البقاء؟ تساعد العائلات بعضها البعض قدر المستطاع. يساعد الأغنياء أقرباءهم. وكالة الغوث الدولية "أونروا" مسؤولة عن توفير المواد الغذائية الأساسية، وتقوم بتوزيعها على اللاجئين، الذين يشكلون أغلبية السكان في القطاع.

هل ثمة مخرج آخر من هذا المأزق غير الاجتياح الكبير؟ بالتأكيد نعم. لكنه يحتاج إلى الفطنة، الخيال، الجرأة والاستعداد للعمل خلافا للأساليب المقولبة المعمول بها.

يمكن التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار. وفقا لكل المؤشرات، حماس هي أيضا مستعدة لذلك، شريطة أن يكون شاملا: سيوقف كلا الطرفين العمليات العسكرية، ومن ضمن ذلك التصفيات الموجهة وإطلاق صواريخ القسام وقذائف الهاون. سيتم فتح المعابر أمام عبور حر للبضائع بالاتجاهين. يتم فتح المعبر بين قطاع غزة والضفة الغربية، وكذلك الحدود بين القطاع ومصر.

هدوء كهذا من شأنه أن يشجع الحكومتين المتنافستين – حكومة فتح في الضفة وحكومة حماس في غزة – على الشروع في مفاوضات مجددة، برعاية المملكة العربية السعودية أو مصر، بهدف التوحد وإعادة تأسيس زعامة فلسطينية موحدة، قادرة على التوقيع على اتفاقيات السلام.

حيال " تموت نفسي مع الفلسطينيين" يجب أن نتذكر كلمات ديلان توماس: "ولا تكون للموت حكومة".