|
||
ماذا حدث؟ أمر جلل: أوساط المخابرات الأمريكية، المكونة من 16 وكالة استخبارات مختلفة، توصلت بالإجماع إلى أن حكومة إيران كانت قد أوقفت منذ عام 2003 جهودها لتصنيع قنبلة نووية، وأنها لا تعمل على ذلك اليوم أيضا. إذا غيرت موقفها، فستحتاج إلى خمس سنوات على الأقل للوصول إلى الهدف. للوهلة الأولى، كنا علينا أن نقفز فرحا وابتهاجا. كان يتحتم على الكثيرين أن يرقصوا في الشوارع، كما في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني قبل 60 سنة. لقد نجونا! فقد قالوا لنا أن القنبلة النووية الإيرانية ستهدد وجودنا لتوها. ليس بأقل من ذلك. محمود أحمد النجاد، الهتلر المناوب في الشرق الأوسط، هذا الذي يعلن صباح مساء أنه يجب محو إسرائيل عن الخارطة، ينوي تنفيذ مآربه. قنبلة نووية صغيرة، صغيرة جدا، من النوع الذي تم إلقاؤه على هيروشيما، تكفي لتدمير المشروع الصهيوني. إذا سقط في ميدان ديزنغوف في تل أبيب، فسيُدمر قلب إسرائيل الاقتصادي، العسكري والتربوي، ومعه مئات آلاف اليهود. كارثة ثانية. ويا لها من مفاجئة، لا توجد قنبلة وليس في القريب المنظور. يستطيع أحمد النجاد الشرير أن يهدد من الصباح وحتى المساء – بكل بساطة، إنه لا يملك الأدوات لإلحاق الأذى بنا. أليس هذا سبب للابتهاج؟ فلماذا يبدو ذلك وكأنه كارثة قومية؟ عالم نفسي لا يكاد يساوي درهما (مثلي) يستطيع أن يقول: لقد اعتاد اليهود على الخوف. مئات السنوات من الملاحقة، الطرد، محاكم التفتيش، المجازر والكارثة، زودونا بأضواء حمراء في رؤوسنا، تضيح حين تظهر الإشارة – وحتى أصغر إشارة – لخطر محدق. في حال كهذه نحن نشعر وكأننا في البيت. نعرف ما يجب علينا فعله. حين لا تضيء هذه الأضواء الحمراء ولا يوجد أي خطر في الأفق، فنحن نشعر أن أمرا غريبا يحدث. أمر غير اعتيادي. ربما تعطلت الأضواء. ربما يكون هذا فخّ! وهناك اكتفاء قليل بالوضع الجديد الذي حل بنا. مقابل زوال خطر التدمير الفوري، كما يبدو، يظهر الاعتراف أننا وحدنا. وحدنا مرة أخرى. هذه هي أيضا إشارة التميّز اليهودي: نحن نقف وحدنا أمام العالم بأسره. كما في أيام الكارثة، فقد تخلى عنا كل من هو غير يهودي. أمام الغول الإيراني، الذي يهدد بافتراسنا، نحن نقف الآن وحدنا. لقد رددت كل وسائل الإعلام هذا بالإجماع، مثلها مثل أوركسترا لا تحتاج إلى مايسترو، لأنها تعرف المعزوفة عن ظهر قلب. صحيح، هناك شعوب أخرى يمكنها أيضا أن تكون راضية عن هذا الإعلان. لا تزال محفورة في ذاكرتنا تلك اللافتة البريطانية، التي كانت معلقة في البلاد على الجدران في تلك الأيام الكئيبة التي تلت سقوط فرنسا بين أيدي النازيين، حين بقيت بريطانيا وحيدة في المعركة. من خلف تعابير وجه وينستون تشرتشل الحازمة ظهرت كلمة السر: Alright then, Alone! ("حسنا، فلنكن وحدها") غير أن هذا يكاد يصل إلى طقوس قومية. كيف أنشدنا في أيام غولدا مئير الأغنية السارة: العالم بأسره ضدنا / هذا لحن قديم جدا / ... وكل من هو ضدنا / فليذهب إلى الجحيم.." حتى أن إحدى الفرق قد حولت هذه الأغنية إلى رقصة. لقد تم إنشاء ائتلاف هائل ضد إيران في السنوات الأخيرة. أصبحت القنبلة الإيرانية في صلب الإجماع العالمي، بقيادة أميركا، ملكة العالم. مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، باسم أعضائه الخمسة الدائمين، فرض عقوبات على طهران. أخذا هذا الائتلاف ينهار الآن أمام أعيننا. الرئيس جورج بوش يتلعثم. لم يعد ثمة سبب لهجوم عسكري أمريكي على إيران، ذروة أحلام حكومة إسرائيل. لا يوجد حتى سبب جيد واحد لتشديد عقوبات مجلس الأمن ضد إيران. من يعلم، ربما يقومون غدا بإلغاء حتى العقوبات البائسة القائمة الآن. إن رد الفعل الأولي للزعامة الإسرائيلية كان هجوما صارما. شجب تام. لقد ادعوا في جميع وسائل الإعلام أن التقرير الأمريكي، بكل بساطة، غير صحيح. إنه يرتكز على معطيات كاذبة. لدى أوساط استخباراتنا توجد معطيات أفضل بكثير، تثبت أن القنبلة على الطريق. كيف ذلك؟ إن كل المعطيات المتوفرة بين أيدي الموساد يتم تمريرها إلى السي.آي.إي مباشرة. إنها جزء من مجمع المعطيات ذاته الذي يرتكز عليه التقرير. ويشكل الجزء الذي تم نشره 3% فقط من المستند الكامل. إذا كان الأمر كذلك، فإن أوساط الاستخبارات الأمريكية تكذب عمدا. توجد لديها، على ما يبدو، موانع سياسية منحرفة عما حددته بشكل واضح. ربما تريد أن تكفّر عن التقارير الخاطئة، التي استند إليها الرئيس بوش حين اجتاح العراق. إذن، فقد بالغوا في تقدير الخطر، والآن ها هم يقللونه. ربما كانت تود أن تنتقم من بوش وشعرت أن الوقت قد حان، بما أن الرئيس قد تحول الآن إلى إوز أعرج. أو أنها تلائم نفسها مع الرأي العام الأمريكي، الذي يرفض أي حرب أخرى. إضافة إلى ذلك فإن زعماءها لا ساميين، أليس كذلك؟ وحتى إن كانت أوساط الاستخبارات الأمريكية تؤمن إيمانا تاما بأن إيران قد أوقفت التحضيرات لتصنيع القنبلة – فهذا يثبت حتما أنهم سذّج أكثر مما يجب. إنهم لا يدركون أن إيران تخدعهم. من مثلنا يعلم كم هو من السهل إخفاء عملية تصنيع القنبلة وخداع العالم بأسره. فقد فعلنا هذا لسنوات عديدة. ولكن هذا كله لا يغير الحقيقة: يعطي هذا التقرير اتجاها جديدا في السياسة الأمريكية ويؤثر بشكل حاسم على الحلبة السياسية الدولية بأسرها. الحرب على إيران، التي كان من المفترض أن تكون الحدث المركزي لعام 2008، قد تحولت إلى غير حدث. ما هو الاستنتاج بالنسبة لإسرائيل؟ لماذا دخل زعماؤنا في حالة من الصدمة لدى نشر التقرير؟ لقد تم شطب إمكانية عملية عسكرية إسرائيلية منفردة ضد إيران عن جدول الأعمال. لا تستطيع إسرائيل إدارة حرب من دون دعم كامل من قبل الولايات المتحدة. حاولنا ذات مرة، في عملية "كاديش" عام 1956، وفي حينه تلقينا صفعة رنانة من قبل الرئيس دويت أيزينهاور. ومنذ ذلك الحين نشدد على الحصول على المصادقة الأمريكية قبل أي حرب. بالنسبة لقادة الجيش والأجهزة الأمنية، فإن التقرير هو بمثابة كارثة لسبب آخر. في كل سنة، عشية تقرير الميزانية، تلعب القنبلة الإيرانية دورا هاما في كفاحهم من أجل قطعة أكبر من كعكة الميزانية. بالنسبة للديماغوغيين اليمينيين، فإن الخطر أكبر بكثير. بنيامين نتنياهو، على سبيل المثال، بنى استراتيجيته على أساس الخوف من إيران، أملا منه أن يتمكن من امتطاء القنبلة (يستغل الفرصة) في طريقه نحو ديوان رئيس الحكومة. وكذلك – في حين يتراجع الشأن الإيراني، يتصاعد الشأن الفلسطيني. هذا صحيح في واشنطن بالذات. وضع الرئيس أسوأ ما يكون. إخفاقاته في العراق وأفغانستان متواصلة. كل المحاولات الأمريكية للتوصل إلى حكم مستقر في العراق، ذات الأغلبية الشيعية، متعلقة بمساندة إيران الشيعية. حلم بوش – توجيه ضربة قاضية إلى إيران وكذلك أن يترك بصمته على صفحات التاريخ – آخذ بالتلاشي. إذن ماذا يمكنه أن يفعل كي يخلّف وراءه أي انطباع إيجابي؟ الخيار الافتراضي هو السلام الإسرائيلي - الفلسطيني. من الممكن أن يوفر الآن لكوندوليسا دعما أكبر. ربما سيتدخل بنفسه أكثر. الحقيقة: للمرة الأولى، منذ أن دخل إلى البيت الأبيض، ينوي أن يقوم بزيارة إسرائيل. على الرغم من أنه لا يوجداحتمال كبير لنجاح هذا المجهود، ولكنهم قلقون في القدس. هذا ما كان ينقصنا، أن يحاكي بوش ذلك اللا سامي، جيمي كارتر، الذي لوى ذراع بيغين حتى خطى ى خطوة السلام مع مصر. ماذا نفعل إذن؟ من الممكن إصدار أمر لكل ممثلي إسرائيل في العالم بتعزيز الجهود من أجل إقناع الحكومات أنه لم يطرأ أي تغيير على الوضع، أنه يجب محاربة القنبلة الإيرانية حتى إذا لم تكن موجودة. وكيف يمكن أن نقول ذلك لروسيا والصين. سيسر حكومات العالم التخلص من ضغط بوش – كلها ما عدا الصنوان المتلازمان، سركوزي الفرنسي وماركل الألمانية، اللذان احتلا مكان طوني بلير ككلبي بودل في البيت الأبيض. يضع الوضع الجديد إيهود أولمرت أمام خيار صعب. لدى عودته من أنابوليس قد تفوه بأقوال مفاجئة. إذا لم يتم تنفيذ حل "دولتين قوميتين لشعبين"، أعلن، "فستكون هذه هي نهاية دولة إسرائيل". لم يجرؤ أي شخص في معسكر السلام على الوصول إلى هذا الحد. هل يؤمن حقا بما يقول أم أنه جزء من خدعة؟ هذا هو السؤال الذي يطرح في كل حوار حول الموضوع. بكلمات أخرى: هل يرغب فقط في كسب الوقت كي يعمل حقا على إحلال تسوية سلام حقيقي؟ وفقا لكل الإشارات فإنه لا يملك القدرة لاتخاذ أية خطوة. إذا حاول تنفيذ المرحلة الأولى من "خارطة الطريق" والبدء بتفكيك البؤر الاستيطانية، فلن يضطر إلى مواجهة المقاومة الحازمة من قبل المستوطنين وداعميهم والمقاومة الخفية (ولكن المفيدة جدا) من قبل الآلية العسكرية فحسب، بل من قبل شركاءه في الحكومة أيضا. قبل أن يتم تفكيك البؤرة الاستيطانية الأولى، سيتفكك الائتلاف. لا يملك أولمرت ائتلافا آخر. يحاول إيهود براك اجتيازه من اليمين، ولا يمكن الاتكال عليه في حالات الأزمات. حزب العمل هو عنصر لا حياة فيه، كثير النزاعات، مجرد من المبادئ ومجرد من أي عمود فقري. حزب ميرتس المقلص هو مجموعة مؤلفة من خمسة أشخاص، أربعة منهم يتنافسون على الزعامة. الأعضاء العشرة في الأحزاب العربية (هكذا جرت العادة على تسميتهم، رغم أن في حزب الجبهة الديموقراطية عضو يهودي) منبوذون، ولا ترغب أي حكومة "صهيونية" بدعمهم بشكل علني. أما حزب أولمرت ذاته، فهناك بعض أعضاء الكنيست اليمينيين المتطرفين، ممن سوف يحاولون تدمير الجهود. في مثل هذه الحال، فإن الميل الطبيعي لسياسي حقيقي مثل أولمرت هو عدم القيام بأي شيء، إطلاق التصريحات يمينا ويسارا، وبالأساس – كسب الوقت. لقد أعلنت الحكومة هذا الأسبوع أنها تنوي بناء 300 بيت جديد في مستوطنة "هار حوماه"، السيئة السمعة. بالنسبة لشخص مثلي، كان قد قضى أياما وليال عديدة في المظاهرات ضد إقامة هذه المستوطنة المحددة، فهذا خبر مرير. إنه لا يشير إلى تغيير نحو الأفضل. من جهة أخرى، سمعت من مقربي أولمرت رأيا مثيرا: يعلم أولمرت أنه على وشك فقدان السلطة. قد يقول لنفسه: إذا كنا سنسقط في كل حال من الأحوال، فلماذا لا أدخل صفحات التاريخ كمن ضحى بنفسه على مذبح مبدأ سام، بدلا من الاختفاء كسياسي غير ناجح؟ إذا واجهته أزمة لا يمكن الخروج منها، فإن من شأنه أن يختار هذا المسلك – إضافة إلى أن عائلته المقربة تدفعه إلى هذا الاتجاه. كنت لأعطي هذه الإمكانية في المجموع مرتبة "احتمال منخفض" – ولكن قد حدثت أمور أكثر غرابة على مرّ التاريخ. في أي حال من الأحوال، من الممكن أن تضطر قوى السلام إلى التغلب على تحفظاتها وأن تحاول التأثير على الرأي العام بطريقة توجه أولمرت إلى هذا الاتجاه. على أية حال، ثمة أمر مؤكد واحد: هذا الماكر، أحمد النجاد، قد احتال علينا مرة أخرى. سرق منا أغلى ما نملك: القنبلة النووية الإيرانية. |