اوري افنيري 

كلّل حديثك بالورود / أوري أفنيري


افرحوا وهللوا: قررت وزيرة الخارجية إقامة طاقم مميز في الوزارة لمعالجة المسائل الجوهرية المتعلقة بالسلام مع الفلسطينيين.

أجل، أجل، هو كذلك. استعدادا لمؤتمر- أنابوليس، ألقى رئيس الحكومة على عاتق وزيرة الخارجية مهمة تنظيم شؤون التفاوض مع السلطة الفلسطينية.

ستقولون: أليس الأمر طبيعيا أن تعالج وزارة الخارجية الشؤون الخارجية؟ ربما يكون ذلك طبيعيا في دولة أخرى. في دولة إسرائيل الأمر غير طبيعي قط.

تحولت وزارة الخارجية،منذ السنوات الأولى للدولة، إلى أضحوكة. ألّف صديقي ميداد شيف قافية بما معناه: "وزارة الخارجية جد ضرورية، فلولا وجودها ماذا فعل موظفوها"؟ أقيمت الدولة خلال فترة حرب. المقاتلون فيها كانوا أبطالا. مهندس الدولة، دافيد بن غوريون، رسم الخطوط التي تدار بموجبها الدولة حتى يومنا هذا. حتى يومه الأخير في الحكم كان يؤدي وظيفة رئيس الحكومة ووزير الأمن كذلك. فلم يكلف نفسه عناء إخفاء ازدراءه لوزارة الخارجية. تماشى ذلك مع قوله المعروف: "ليس من المهم ما يقوله غير اليهود، بل المهم ما يفعله اليهود"!

شارك ذاك الجيل بأكمله في ذاك الازدراء. الرجال الحقيقيون، ذوو اللهجة محلية، تجندوا في الجيش، تحولوا إلى أبطال وعملوا في وزارة الأمن. الرجال "النواعم" أصحاب اللكنة الإنجليزية أو الألمانية عملوا في وزارة الخارجية، ومن ثم تحولوا إلى سفراء أو موظفين. لقد كان الاقتسام واضحا.

تجسد ذلك أيضا على الصعيد الشخصي: كان بن غوريون ينكّل بوزير الداخلية، موشيه شاريت، الذي رأى فيه منافسا محتملا. لذلك، عندما قرر بن غوريون الاعتزال مؤقتاً والعودة إلى سديه-بوكير، أصبح شاريت رئيسا للحكومة. لقد دفع مقابل ذلك ثمنا باهظ: عندما عاد بن غوريون من منفاه الاختياري، سحق شاريت وحوله إلى رماد، واستعدادا لحملة سيناء عزله من وزارة الخارجية أيضا.

أودع بن غوريون وزارة الخارجية بين أيدي غولدا مئير. ولكنه عزلها هي أيضا. أعد حملة سيناء الشاب شمعون بيرس، المدير العام لوزارة الأمن وخادم بن غوريون. ساعد في حبك المؤامرة الفرنسية- البريطانية- الإسرائيلية للهجوم على مصر. مقابل استعدادنا لخدمتهم في النضال من أجل تحرير الجزائر، قدم لنا الفرنسيون المفاعل النووي في ديمونا. لم تكن لوزارة الخارجية أية صلة بالأمر.

كانت هذه هي طبيعة الأمور طيلة سنوات الدولة. أدار ديوان رئيس الحكومة ووزارة الأمن شؤون الخارجية المهمة، بمساعدة الموساد. كان سفراؤنا يسمعون بذلك، في مختلف أنحاء العالم، عن طريق وسائل الإعلام.

هذه ليست ظاهرة إسرائيلية حصرية. إن الرؤساء ورؤساء الحكومات هم الذين يديرون، في أيامنا هذه، سياسيات الخارجية بأنفسهم. الطيران السريع، الهاتف الدولي، والبريد الإلكتروني يمكنهم من إحياء العلاقات فيما بينهم بأنفسهم. في كل الدول تقريباً، أصبح وزراء الخارجية فتيان إرساليات (أو فتيات إرساليات) بلباس تنكري فخم.

تبرز هذه الظاهرة في إسرائيل أكثر، بسبب المكانة المركزية التي يحظى فيها الجيش في الحياة الوطنية. في لعبة الشدّة الإسرائيلية ينتصر جنرال واحد على عشرة سفراء. تنتصر تقارير شعبة الاستخبارات وتقارير الموساد بسهولة على أي تقدير لوزارة الخارجية- هذا لو كلّف أحدهم نفسه بقراءتها. لم أستطع كبح ابتسامتي عندما قرأت خبر قرار الوزيرة تسيبي ليفنيه إنشاء طاقم لشؤون السلام.

قبل 51 سنة، قبل حملة سيناء بأسبوع واحد، نشرت مقالا بعنوان "رئاسة الأركان البيضاء"، كان هذا المقال نبراس بالنسبة لي. قلت أنه لا يعقل أن لا يكون في دولة، التي مشكلتها الوجودية الأساسية هي التوصل إلى السلام، أي جهة مهنية مؤهلة تركز على هذا الموضوع. قدمت اقتراح إقامة وزارة خاصة بشؤون السلام.

لن تصلح وزارة الخارجية، حسب رأيي، لهذه الوظيفة، لأنها جهة حربية تدير الصراع الدولي ضد العالم العربي.

لإعطاء فكرة، قلت أن مقابل رئاسة الأركان الكاكيّة، التي تشن حملات حربية، يجب إنشاء "رئاسة أركان بيضاء" لشنّ حملات للسلام. وكما أن رئاسة الأركان الكاكية من وظيفتها تخطيط برامج مستقبلية، لأي احتمال حربي، يجب أن تخطط رئاسة الأركان البيضاء برامج مستقبلية لأي احتمال سلمي. يجب أن تشمل رئاسة الأركان هذه، خبراء في الشؤون العربية، دبلوماسيين، علماء نفس، علماء اقتصاد، رجال استخبارات وما شابه.

بعد عشر سنوات، كررت اقتراحي هذا في خطاب ألقيته في الكنيست، وقد تم شمله، بعد فترة في أنطولوجيا مقتطفات الخطابات الهامة في تاريخ الدولة. قلت أنه على الرغم من آلية حكومة إسرائيل الضخمة، وآلاف العاملين فيها، لا يوجد حتى 12مستخدما يعالجون شؤون السلام.

لقد سبق ذلك قضية طريفة. فقد دبر لي أريك رولو، أحد أهم الصحفيين في فرنسا لشؤون الشرق الأوسط، لقاء سريا مع السفير التونسي في باريس. كان ذلك بعد أن ألقى حبيب بورغيبا الأسطوري في أريحا خطابا تاريخيا، ناشد فيه العالم العربي بإحلال السلام مع إسرائيل. طلبت من السفير تشجيع الرئيس والاستمرار بالمبادرة. اقترح السفير اقتراحا: أن تعمل إسرائيل في باريس على تحسين العلاقات الفرنسية التونسية ( التي كانت متردية جدا) ويواصل بورغيبا مبادرته.

أسرعت إلى البلاد وطلبت مقابلة وزير الخارجية، أبا إيبن، بشكل مستعجل. حضر اللقاء الموظف المسؤول في وزارة الخارجية، مردخاي غزيت. أصغى إيبن وقال بضع كلمات جميلة وغير ملزمة. عندما خرجنا من مكتبه، انفجر غزيت بالضحك.

"لا تعرف ماذا يجري هنا" قال، "حتى لو أخذ إيبن الأمور بجدية وطلب بتحضير تقرير حول العلاقات الفرنسية التونسية، فما من شخص هنا سينصاع لهذه الأوامر. ففي كل وزارة الخارجية لا يوجد حتى ستة أشخاص يعالجون شؤون العالم العربي".

عندها ألقيت الخطاب، وبعد ذلك تحدثت حول هذا الموضوع مع رئيس الحكومة ليفي إشكول، ومن ثم مع رئيس الحكومة يتسحاق رابين- ولم يتغير شيء. لذلك، أسمح لنفسي أن أشك بمبادرة السيدة ليفني هي أيضا.

نشر وزير الخارجية المتقاعد، هنري كسنجر، مؤخرا، كتابا حول مهنة الدبلوماسية. إنه يدّعي أن تأثير كبار وزراء الخارجية على التاريخ كان أكبر من تأثير القواد والملوك.

لا أعتبر من أتباع هذا الرجل المعتوهين، وهو ابن جيلي ومن مواليد ألمانيا مثلي. أتسلى بالتفكير أحيانا، ماذا كان سيحدث لو هاجر والده إلى فلسطين وهاجر والدي إلى أمريكا. هل كنت سأتحول إلى مهووس الأنا ومجرم حرب مثله، وكان سيتحول هو إلى ناشط سلام إسرائيلي؟ لكنني مستعد بالتأكيد لتحديد النظرية المركزية في كتابه: لا يمكن أن تكون سياسة الخارجية ناجعة إن لم يكن لها هدف نهائي متعارف عليه، واضح ومتتابع.

لا يوجد لدى وزيرة الخارجية الإسرائيلية هدف كهذا. فهي تخطب وتعلن وتصرح، ولكن من غير الواضح إلى أين ستؤدي بنا سياستنا الخارجية، حتى لو سمحنا لها بقيادتها. بعد مضي سنتين على توليها المنصب، ما زالت صورتها الدولية ضبابية وواهية.

فتارة تحاول اجتياز أولمرت من اليسار وطورا من اليمين. تارة تتحدث عن معالجة المواضيع الجوهرية، وطورا تقول أنه لم يحن وقت التسويات النهائية بعد. قد أيدت الحرب ضد لبنان، ولكنها انتقدتها في تصريحاتها. بعد نشر التقرير المرحلي للجنة فينوغراد، دعت أولمرت إلى الاستقالة بنية واضعة في الحلول محله، لكن عندما انهارت هذه الفتنة الصغيرة، بقيت في حكومته وواصلت تحمل المسؤولية عن أعماله.

ليفنيه تكره أولمرت وأولمرت يكرهها. كلاهما ترعرعا، في الواقع، في القرية ذاتها: والد إيهود ووالد تسيبي كانا نقيبين في "الإتسل". كلاهما ترعرع في الجو السياسي ذاته ونهلا في طفولتهم من نفس الينبوع. عندما توفيت أم ليفنيه، قبل بضعة أسابيع، وقف أحدهما إلى جانب الآخر وأنشدا معا نشيد "بيتار": "لأن الصمت هو طين، تخلي عن الدم والروح من أجل السمو الخفي"...

المقت المتبادل بين بن غوريون وشاريت وبين رابين وبيرس يكرر نفسه. هذه العلاقات تقرر بشكل كبير السياسة، وفقا لمقولة كسنجر المشهورة: "لا توجد لدى إسرائيل سياسة خارجية، لديها سياسة داخلية فقط". (يبدو لي أنه يمكننا أن نقول ذلك عن معظم الدول الديموقراطية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية).

تنبع سياسة إسرائيل الخارجية من السياسة الداخلية: لقد عقد أولمرت العزم على الرشوة بكل ثمن. إنه يفعل ذلك ببراعة كبيرة. لكون هذه الحكومة تضم قوى يمينية متطرفة وحتى فاشية، فإن أي تحرك باتجاه السلام سيؤدي إلى انهيارها.

إذا لم يكن لدى الحكومة هدف نهائي، فعلى أي أساس تتم إدارة السياسة؟ يبدو لي أن كسنجر لا يجيب على هذا السؤال. أما أنا بالذات فلديّ الإجابة: حين لا يكون هناك هدف معروف ومعلن، يدخل إلى حيز التنفيذ هدف غير معروف ومعلن: هدف موجود منذ وقت طويل، يتواصل مستخدما قوة التسارع وكأنه يفعل ذلك من تلقاء نفسه.

الشفرة الجينية للحركة الصهيونية تؤدي بها إلى الحرب مع الشعب الفلسطيني بهدف السيطرة على البلاد كلها وتوسيع المستوطنات اليهودية من البحر إلى النهر. طالما لم ينضج قرار وطني متفق عليه لتغيير هذه السياسة بسياسة أخرى – قرار واضح، علني وطويل الأمد – فسيظل هذا هو الخط المنتهج.

لم يُتخذ أي قرار آخر. الوزراء يتحدثون عن حلول أخرى، يصوبون باتجاه "حل الدولتين"، يطلقون الشعارات المختلفة ويصرحون بتصريحات، ولكن من الناحية العملية على أرض الواقع، تتواصل السياسة القديمة بكل قوتها، وكأن شيئا لم يكن.

لو تم اتخاذ قرار آخر، لكانت ستتغير سير الأمور برمته – ابتداء من لغة الجسد التي تتحدث بها الحكومة وانتهاء بنغمة حديثها. حتى الآن، ما زالت النغمات التي تتألف منها الموسيقى هي نغمات نشيد بيتار.

هل هناك إثبات على نية أولمرت عدم خطو أية خطوة جدية نحو السلام؟ بالتأكيد. هذا الإثبات راسخ في قراره تعيين تسيبي ليفنيه مسؤولة عن المحادثات مع الفلسطينيين.

لو كان بنية أولمرت إحراز تقدم تاريخي، لكان سيهتم بتسجيل هذا التقدم باسمه هو. وإسناد المهمة لدميته معناه أنه لا يوجد لذلك أي احتمال.

توجهت حكومة هولندا، في الأسبوع الماضي، إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية بطلب يسمح لمربي الزهور الفلسطينيين في قطاع غزة بتصدير بضائعهم إلى بلاد الخزامى.

تسيبي ليفنيه، القائمة بأعمال رئيس الحكومة ووزيرة خارجية دولة إسرائيل لم تكن قادرة على الاستجابة حتى لمثل هذا الطلب المتواضع. لقد قال الجيش لا.

إنهم، خلافا لكلمات الأغنية، لا يعرفون كيف يكللون حديثهم بالورود.