اوري افنيري 

من طرابلس إلى سدروت / أوري أفنيري


المعارك الدامية التي نشبت حول مخيم اللاجئين نهر البارد بجوار طرابلس تذكر الجميع أن قضية اللاجئين الفلسطينيين لم تنته. على العكس، بعد 60 سنة من النكبة، ها هي تتصدر الانتباه الدولي مرة أخرى.

إنه جرح مفتوح. من يُخيّل إليه أنه من الممكن حل النزاع الإسرائيلي-العربي من دون مداواة هذا الجرح، فهو واهم.

من طرابلس إلى سدروت، من الرياض إلى القدس، قضية اللاجئين الفلسطينيين ما زالت تلقي بظلالها على المنطقة بأسرها. امتلأت وسائل الإعلام، هذا الأسبوع، بصور النازحين الإسرائيليين والفلسطينيين، الأمهات اللواتي يولولن بالعبرية أو بالعربية، على موت أعزائهن، وكأن شيئا لم يحدث منذ عام 1948.

الإسرائيلي العادي يهز بكتفيه لمرأى معانات اللاجئين الفلسطينيين ويعفينا بالكلمات: "هم المذنبون بحق أنفسهم".

البروفسورات المثقفون والبائعين في السوق يقولون أن الفلسطينيين هم الذين أوقعوا مأساتهم بنفسهم، حين رفضوا عام 1947 قبول قرار التقسيم الذي أصدرته هيئة الأمم المتحدة، وشنوا حربهم للقضاء على الاستيطان العبري.

هذه أسطورة عميقة الجذور، وهي إحدى الأساطير الأساسية في الوعي الإسرائيلي. ولكنه بعيدة كل البعد عن أن تجسد الواقع الذي كان قائما.

بادئ ذي بدء، لأنه في تلك الفترة المصيرية لم تكن هناك زعامة فلسطينية يمكنها اتخاذ القرارات.

في أحداث عام 1936 وحتى عام 1939، قتل المفتي الحاج أمين الحسيني معظم الزعماء الذين لم ينصاعوا إلى إمرته، ثم فرّ من البلاد، وقد تم نفي بقية الزعماء الفلسطينيين إلى جزيرة نائية على يد البريطانيين.

عند حلول الساعة المصيرية وإصدار الأمم المتحدة قرار التقسيم، لم تكن هناك زعامة فلسطينية قادرة على الحسم. لقد نشط عوضا عنها زعماء الدول العربية الجارة، الذين قرروا إرسال جيوشهم إلى البلاد فور زوال الانتداب البريطاني.

صحيح أن جماهير الشعب الفلسطيني قد عارضة خطة التقسيم. لقد كانوا يؤمنون أن فلسطين كلها هي وطنهم منذ أجيال طويلة، وأن اليهود، الذين قدموا لتوهم، لا حق لهم فيها. ناهيك عن أن الأمم المتحدة قد منحت اليهود، الذين شكلوا في حينه ثلث سكان البلاد، 55% من البلاد. كان 40% من سكان هذه المنطقة هم من العرب.

(توخيا للعدل علينا أن نذكر أن المنطقة التي تم تخصيصها لليهود كانت تضم النقب - وهي منطقة شاسعة كانت خاوية في حينه وبقي معظمها كذلك حتى اليوم.)

صحيح أن الطرف اليهودي قد قبل قرار التقسيم – غير أن ذلك كان ظاهريا فقط. لم يخف دافيد بن غوريون، في جلسة سرية، أن بنيته استغلال أول فرصة سانحة لتوسيع المنطقة التي خصصت للدولة اليهودية وضمان أغلبية يهودية كبيرة فيها. حرب عام 1948، التي شنها العرب، خلقت الفرصة لتحقيق هاتين الأمنيتين: لقد توسعت إسرائيل من 55% إلى 78% من البلاد، وأخليت المناطق من معظم سكانها العرب، وقد طردنا نحن جزءا منهم.

خلال الحرب، تحول حوالي 750,000 فلسطيني إلى لاجئين. الزيادة الطبيعية تضاعف عددهم كل 18 سنة، وقد اقترب عددهم اليوم من خمسة ملايين.

هذه مأساة إنسانية من الدرجة الأولى، شأن إنساني ومشكلة سياسية. كان يبدو، خلال فترات طويلة، أن المشكلة ستنتهي من تلقاء نفسها مع مرور الوقت، وفجأة ترفع رأسها من جديد.

جهات عديدة استغلت القضية لمصالحها. أنظمة عربية مختلفة حاولت تجنيدها لاحتياجاتها.

مصير اللاجئين يختلف بين دولة وأخرى. لقد منحتهم الأردن الجنسية، ولكن أبقت كثيرين منهم في المخيمات. اللبنانيون لم يمنحوا الفلسطينيين أية حقوق، وقد ارتكبوا المجازر ضدهم بين حين وآخر. معظم الزعماء الفلسطينيين يطالبون بتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي أصدر قبل 59 سنة، والذي منح اللاجئين حق العودة إلى بيوتهم بسلام.

قلة هم الذين تيقظوا إلى أن "حق العودة" قد كان أداة سهلة بين أيدي حكومات إسرائيل لرفض أي مبادرة سلمية. إن معنى إرجاع خمسة ملايين لاجئ فلسطيني إلى داخل حدود الدولة هو، بطبيعة الحال، نهاية إسرائيل كدولة فيها أغلبية يهودية وتحويلها إلى دولة ثنائية القومية - الأمر الذي يعارضه 99.99% (على الأقل) من الجمهور الإسرائيلي-اليهودي.

علينا أن ندرك ذلك، إذا أردنا أن نفهم النظرة الإسرائيلية للسلام. الإسرائيلي العادي، حتى وإن كان إنسانا مستقيما يطمح إلى السلام، يقول في نفسه: لم يتخل العرب ذات مرة عن حق العودة، ولذلك لا يوجد أي احتمال لإحلال السلام، ومن غير المجدي أبدا البدء في ذلك.

بهذا الشكل، ويا للمفارقة، تحولت قضية اللاجئين إلى أداة بين أيدي الإسرائيليين الذين يعارضون التسوية السلمية. إنهم يتكلون على أنه لا يوجد أي زعيم عربي يجرؤ على التخلي بشكل علني عن عودة اللاجئين. الزعماء القلائل الذين يعترفون في أحاديث شخصية بحقيقة كون الأمر غير واقعي، غير مستعدين لقول ذلك بشكل علني. يعني هذا القول انتحارا سياسيا، مثله مثل التحدث عن إمكانية إعادة اللاجئين في إسرائيل.

على الرغم من ذلك، طرأ في السنوات الأخيرة تحرك تحت أرضي في الطرف العربي. لقد أصبحت تُسمع أصوات تقول، جزئيا على الأقل، أنهم من غير الممكن تجاهل مشكلة إسرائيل الديموغرافية. انطلقت هنا وهناك حلول إبداعية. (قال مندوب فلسطيني، في أحد اجتماعات "كتلة السلام": "يشكل العرب اليوم 20% مكن مواطني إسرائيل. إذن، تعالوا نتفق على أنه مقابل كل ثمانين قادم جديد يحضرون إلى إسرائيل، أرجعوا 20 لاجئا فلسطينيا." هذا القول لقي ترحيب الحضور).

يحدث الآن أمرا ثوريا. لقد طرحت الجامعة العربية على إسرائيل برنامج سلام: تعترف كل الدول العربية الـ 22 بإسرائيل وتقيم معها علاقات دبلوماسية واقتصادية، مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية.

لم يتخط الاقتراح، بطبيعة الحال، قضية اللاجئين. لقد كرر قرار الأمم المتحدة رقم 194، ولكن أضيفت كلمة لها أهمية قصوى: أن يكون الحل "متفقا عليه" بين الطرفين. بكلمات أخرى: سيكون لإسرائيل حق النقض على أي حل. لن يعود اللاجئون إلى داخل حدود دولة إسرائيل.

لقد وضع هذا الأمر حكومة إسرائيل في مأزق. إذا فهم الجمهور الإسرائيلي أن العالم العربي يقترح عليه السلام الكامل من دون حق العودة، فإن من شأنه أن يقبل ذلك بفرح عظيم. لذلك تم بذل كل الجهد لإخفاء تلك الكلمة الحاسمة. لقد أبرزت وسائل الإعلام الإسرائيلية، المدرّبة بشكل جيد، حقيقة أن الاقتراح يذكر القرار رقم 194، ولكنها أخفت الحقيقة بأن الحديث يجري عن حل متفق عليه.

لقد تطرقت الحكومة إلى هذا الاقتراح باستهتار واضح، ولكنها على الرغم من ذلك حاولت أن تجني منه الثمار. لقد أعلنت أنها مستعدة للتحدث عن بعثة عربية - شريطة ألا تتألف من مندوبي مصر والأردن فقط. بهذه الطريقة ينوي إيهود أولمرت وتسيبي ليفنيه التوصل إلى إنجاز سياسي هام من دون دفع أي ثمن: إجبار المملكة العربية السعودية ودول أخرى على إقامة علاقات مع إسرائيل. ولأنه لا توجد وجبات طعام مجانية، فقد رفض العرب ذلك. لم ينتج أي شيء من هذا كله.

لو اقترح شخص ما اقتراح الجامعة العربية هذا على إسرائيل في الرابع من حزيران من عام 1967، عشية حرب حزيران، لكنا اعتقدنا أن هذه هي أيام المسيح المنتظر. أما اليوم فإن حكومتنا ترى في هذا الاقتراح خدعة ذكية: صحيح أن العرب مستعدون للتخلي عن عودة اللاجئين من الناحية الفعلية، ولكنهم يريدون إرغامنا على الانسحاب من الأراضي المحتلة وحلّ المستوطنات.

إذا نظرنا بالمنظور التاريخي، فإن الجامعة العربية تصحح الآن خطأ ارتكبته وكانت له نتائج وخيمة. بعد حرب حزيران، اجتمع رؤساء الدول العربية في الخرطوم وقرروا "اللاءات الثلاثة": لا للاعتراف بإسرائيل، لا للمفاوضات مع إسرائيل، لا للسلام مع إسرائيل.

يمكننا أن نفهم لماذا تم اتخاذ مثل هذا القرار المخطئ إلى هذا الحد في ذلك الحين. كانت الدول العربية قد منيت لتوّها بهزيمة عسكرية مهينة. لقد أرادت أن تثبت لشعوبها وللعالم أنها لن تركع. لقد أرادت الحفاظ على كرامتها الوطنية. ولكن بالسبة لحكومة إسرائيل في ذلك الحين، كانت تلك هدية من السماء.

لقد أعفاها القرار من المفاوضات التي كانت ستجبرها على إرجاع الأراضي التي تم احتلالها لتوّها. لقد أعطت الضوء الأخضر لإقامة المستوطنات، وهو مشروع مستمر حتى أيامنا هذه، انتزعت الأرض من تحت أقدام الشعب الفلسطيني. لقد شطبت، بطبيعة الحال، قضية اللاجئين من جدول الأعمال.

القرار العربي الجديد يصحح الظلم الذي لحق بالقضية الفلسطينية. ها هو العالم العربي برمته يقترح الآن قرارا واقعيا. من الآن فصاعدا، تصبح المهمة هي إدخال القرار في وعي الجمهور الإسرائيلي، وخاصة معنى هذا القرار بالنسبة عودة اللاجئين. هذه المهمة غير ملقاة على عاتق قوى السلام الإسرائيلية فحسب، بل على الزعامة العربية أيضا.

لهذا الهدف، يجب نقل قضية اللاجئين من عالم الأساطير إلى أرض الواقع. يجب أن تجتاز عملية من إزالة التعمية.

لا يرى الإسرائيلي اليوم غير كابوس: خمسة ملايين لاجئ سيغرقون إسرائيل، وسيطالبون باستعادة أراضيهم، التي بنيت عليها مدن وقرى إسرائيلية، بيوتهم التي دُمرت منذ زمن أو التي يعيش فيها اليهود. دولة إسرائيل، كدولة فيها أغلبية يهودية، ستختفي.

يجب تحييد هذا الخوف ويجب معالجة هذا الجرح. على الصعيد النفسي، يجب الاعتراف بمسؤوليتنا عن جزء من المشكلة، كنا نحن السبب فيه. يمكن "للجنة الحقيقة والمصالحة" أن تحدد هذا الجزء. لذلك علينا أن نطلب الصفح. كما فعلت شعوب أخرى وطلبت الصفح عن الظلم الذي اقترفته.

على الصعيد العملي، يجب حل المشكلة الفعلية لخمسة ملايين شخص. جميعهم يستحقون تعويضات سخية، تتيح لهم تأسيس حياتهم بالطريقة التي يجدونها مناسبة، فمن يرغب بالبقاء في مكانه الحالي، بموافقة الحكومات المحلية، ستتيح له التعويضات بناء حياته العائلية. أما من يريد الانتقال إلى دولة فلسطين التي ستقام، وأن يأخذ مكان المستوطنات التي سيتم إخلاؤها، فيجب أن يتلقى المساعدة الدولية المطلوبة لذلك. أعتقد شخصيا أنه من الأجدى لنا أن نوافق على استيعاب عدد متفق عليه من اللاجئين في إسرائيل ذاتها أيضا، وذلك لإنهاء القضية من الناحية الرمزية أيضا.

هذا ليس حلما ولا كابوسا. هذه مهمة عملية. لقد اجتزنا مهاما عملية أصعب من هذه بكثير. هذا الأمر أسهل وارخص من مواصلة الحرب التي لا يوجد لها حل عسكري ولا نهاية لها.

قبل 60 سنة، فُتح هنا جرح عميق. لا يبرأ هذا الجرح منذ ذلك الحين، فهو يلوث حياتنا ويشكل خطرا على مستقبلنا. لقد حان الوقت لعلاجه. هذه هي العبرة من طرابلس في الشمال وسدروت في الجنوب.