|
||
لم تكن تلك مصارعة بين منازلين في حلبة رومانية، يقاتلان حتى الموت. إيلان بيبه وأنا شريكان في نضالنا ضد الاحتلال، وأنا أقدر شجاعته. نحن نقف في نضال مشترك ولكنّ بيننا نقاش حاد حول بديلين. ما الذي يتمحور الخلاف حوله؟ ليس بيننا خلاف على الماضي. ما من خلاف على أن الصهيونية، التي أحدثت حدثا تاريخيا، ألحقت أيضا الظلم بالشعب الفلسطيني. الاحتلال هو وضع مقيت، ويجب القضاء عليه. لا جدال على هذا الأمر. قد يكون بيننا خلاف أيضا على المستقبل البعيد. ما الذي من الأجدى أن يحدث بعد 100 سنة. سنتحدث عن ذلك لاحقا في هذه الأمسية. ولكن ثمة بيننا خلاف حاد في الرأي حول المستقبل المنظور - حل النزاع النازف، على مدى 20، 30، 50 سنة. هذا ليس نقاش نظري. لا يمكن أن نقول: "لكل شخص معتقداته" وعلى حركة السلام. لا تسوية بين هذين البديلين - هناك حاجة إلى الحسم، هناك حاجة إلى الاختيار، لأن كل بديل من البديلين يملي استراتيجية وتكتيك مختلفين - ليس بعد غد ولا في الغد، بل هنا والآن.الفرق هو فرق مصيري. على سبيل المثال: هل يجب صب الجهود على الرأي العام الإسرائيلي، أم التخلي عن النضال داخل البلاد والشروع بالنضال في الخارج؟ أنا إسرائيلي، أنا أقف بكلتي رجلي على أرض الواقع الإسرائيلي. أريد أن أغير هذا الواقع تغييرا جذريا. ولكني أريد لهذه الدولة البقاء. من يلغي وجود دولة إسرائيل ككيان يجسد هويته الإسرائيلية، يمنع نفسه من أي عمل هنا. أي عمل يقوم به هنا سيكون مصيره الفشل مسبقا. قد ييأس شخص ما ويقول: ما من عمل يمكن القيام به، فكل شيء قد ضاع. لقد اجتزنا نقطة "اللا عودة". إن الوضع "غير مرتجع". ليس لدينا ما نفعله في هذه الدولة. يحدث أن بعضهم ييأس للحظة. قد يكون كل منا قد يئس ذات مرة في لحظة معينة. ولكن لا يجب تحويل اليأس إلى أيديولوجية. اليأس يحطم أي إمكانية للعمل. أنا أقول: لا مكان لليأس. لم يضع أي شيء. ما من أمر في الحياة هو بمثابة "غير مرتجع"، فما عدا الحياة ذاتها. ما من نقطة تدعى "نقطة اللا عودة". أبلغ من العمر 83 عاما، وقد شاهدت في حياتي علو شأن النازيين وسقوطهم. شاهدت الاتحاد السوفييتي في ذروته وكذلك انهياره. قبل يوم واحد من سقوط جدار برلين، لم يكن هناك ألماني واحد يؤمن بأن هذا سيحدث وهو على قيد الحياة. حتى أذكى الخبراء لم يتوقعوا ذلك مسبقا، لأن في التاريخ تيارات تعمل تحت وجه الأرض ولا يمكن لأحد أن يراها في الوقت الحقيقي. لذلك فإن التحليلات النظرية قلما تتحقق على فترات متقاربة. ما من شيء ضائع حتى يستسلم المقاتلون ويقولون أنه لا جدوى. الاستسلام ليس حلا، وهو غير أخلاقي أيضا. إن الشخص الذي يعتريه اليأس، في وضعنا هذا، يقف أمام خيار بين ثلاث إمكانيات" (أ) الهجرة من البلاد، (ب) الهجرة إلى الداخل، ومعناها القبوع في البيت وعدم القيام بشيء، أو (ج) الهرب إلى عالم الحلول المثلى، إلى أيام المسيح المنتظر. الإمكانية الثالثة هي الأكثر خطورة، لأن الوضع حرج وخاصة بالنسبة للفلسطينيين. ليس ثمة وقت كاف لحل يتم تحقيقه بعد 100 سنة. نحن نحتاج إلى حل مستعجل، حل يمكن تحقيقه خلال سنوات معدودة. سمعت أحدهم يقول: أفنيري أصبح هرما. إنه يتشبث بأفكار قديمة. ليس بمقدوره أن يستوعب فكرة جديدة. وأنا أستغرب: فكرة جديدة؟ فكرة الدولة الواحدة المشتركة كانت قديمة حتى حين كنت فتى. لقد ازدهرت هذه الفكرة في ثلاثينيات القرن الماضي، ولكنها أعلنت إفلاسها في حينه. فكرة الدولتين هي التي نبتت على تربة الواقع الجديد. وإذا سمحتم لي، فهذه ملاحظة شخصية: أنا لست مؤرخا. لقد عشت الأحداث، وكنت شاهد عيان، شاهد استماع وشاهد إحساس. كجندي في حرب عام 1948، كمحرر لصحيفة على مدى 40 عاما، كنائب في الكنيست لمدة 10 سنوات، كعضو في "كتلة السلام" - أنا أتعامل مع الأمور من عدة نواح مختلفة ومتغيرة. أنا أتابع نبضات قلب الجمهور. هناك ثلاثة أسئلة تتعلق بفكرة الدولة الواحدة: 1. هل الأمر ممكن بالفعل؟ 2. وإذا كان الأمر ممكنا – هل هو جيد؟ 3. هل سيؤدي إلى إحلال سلام عادل؟ بالنسبة للسؤال الأول فإن إجابتي قاطعة وجازمة: لا، هذا غير ممكن.. من هو على علم بمجريات الأمور بين أوساط الجمهور الإسرائيلي-اليهودي، يعلم أن الطموح الأكثر عمقا لهذا الجمهور هو بقاء الدولة بأغلبية يهودية. دولة يكون فيها اليهود هم أسياد مصائرهم. هذا التطلع يغلب أي تطلع آخر، حتى التطلع إلى أرض إسرائيل الكبرى. يمكن الحديث عن دولة واحدة، من البحر إلى النهر، دولة ثنائية القومية أو لا قومية – هذا يعني من الناحية الفعلية حلّ دولة إسرائيل. هدم كل ما تم بناؤه خلال خمسة أجيال. يجب أن نقول ذلك بشكل واضح، من دون تجميل ومداهنة، وعلى هذا النحو ينظر إليه الجمهور اليهودي، وكذلك جزء كبير من الشعب الفلسطيني. يجري الحديث هنا عن حلّ دولة إسرائيل. نحن نريد تغيير أمور كثيرة في هذه الدولة، روايتها التاريخية، تعريفها المتعارف عليه كدولة "يهودية ديموقراطية". نحن نريد وضع حد للاحتلال على الصعيد الخارجي وللتمييز على الصعيد الداخلي. نحن نريد خلق بنية جديدة للعلاقات بين الدولة ومواطنيها العرب الفلسطينيين. ولكن لا يمكننا أن نتجاهل روح الشعب ومقوماته الأساسية للأغلبية الساحقة بين مواطني الدولة. 99.99% من الجمهور اليهودي لا يريدون حلّ الدولة. هذا أمر طبيعي. هناك وهم قائل أنه من الممكن التوصل إلى هذا الأمر عن طريق الضغط الخارجي. هل الضغط الخارجي هو الذي سيجبر الشعب على التخلي عن الدولة؟ أقترح عليكم اختبارا بسيطا: فكروا للحظة بجيرانكم في المنزل، في العمل أو في الدراسة" هل سيتخلى أحدهم عن الدولة لأن شخصا آخر من الخارج يريد ذلك؟ ضغط من أوروبا؟ وحتى ضغط من البيت الأبيض؟ لا، لا يجب على الإسرائيليين التخلي عن الدولة سوى هزيمة عسكرية نكراء في ميدان المعركة. وإذا هزمت الدولة في معركة عسكرية، فإن نقاشنا هذا يصبح عقيما لا حاجة فيه. أغلبية الشعب الفلسطيني أيضا تريد دولة خاصة بها. هذا ضروري لتلبية تطلعات الشعب الأساسية جدا، لإرجاع اعتزازه الوطني، لعلاج صدماته. حتى زعماء حماس، الذين تحدثنا معهم، يريدون ذلك. من يعتقد غير ذلك فهو يعان من أضغاث أحلام. هناك فلسطينيون يتحدثون عن دولة واحدة، ولكن هذا بالنسبة لمعظمهم كلمة سر لحلّ دولة إسرائيل. وهم أيضا يعلمون أن هذا هو حلم من أحلام اليقظة. هناك فلسطينيون أيضا يوهمون أنفسهم بأنهم إذا تحدثوا عن دولة ثنائية القومية، فهذا سيخيف الإسرائيليين جدا، لدرجة سيوافقون فيها على إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، ولكن النتيجة ستكون عكسية: هذا يخيف الإسرائيليين ويدفع بهم إلى أحضان اليمين. هذا ينبه كلب التطهير العرقي الغارق في سبات في الزاوية. علينا ألا ننسى هذا الكلب ولا للحظة. التوجه مختلف في سائر أنحاء العالم: ليس إقامة دولة متعددة القوميات، بل على العكس، تقسيم الدول إلى وحدات قومية. لقد فاز في الانتخابات في اسكتلندا هذا الأسبوع حزب يدعو إلى الانفصال عن انجلترا. الأقلية الناطقة بالفرنسية في كندا تقف على حافة الانفصال كل الوقت. من المتوقع أن تستقل كوسوفو عن صربيا. الاتحاد السوفييتي تفكك إلى أجزاء، الشيشان تريد الانفصال عن روسيا، يوغوسلافيا تفككت، قبرص تفككت، الباسكيون يريدون الاستقلال، كورسيكا تريد الاستقلال، تدور في سييرا لنكا حرب أهلية، وكذلك الأمر في السودان. أما في اندونيسيا فتتفكك الغُرز في أماكن كثيرة. لا يوجد في العالم مثال لشعبين مختلفين قررا بمحض إرادتهما العيش في دولة واحدة. لا يوجد أي مثال، فيما عدا سويسرا، لدولة ثنائية القومية أو متعددة القوميات لها أداء جيد وحقيقي. (ومثال سويسرا، التي نمت خلال مئات السنين بعملية مميزة، هو مثال خارج عن القاعدة، يؤكد القاعدة). بعد 120 عاما من النزاع، الذي ولد فيه جيل خامس، يُعتبر الانتقال من الحرب الشاملة إلى السلام الشامل في دولة مشتركة بمثابة حلم لا غير. كيف يمكن تنفيذ هذه الفكرة من الناحية الفعلية؟ مؤيدو الدولة الواحدة لا يتحدثون أبدا عن ذلك من شأن ذلك أن يحدث، على ما يبدو، على النحو التالي: يتخلى الفلسطينيون عن حرب تحريرهم وعن تطلعهم إلى دولة قومية خاصة بهم. يعلنون عن رغبتهم في العيش في دولة مشتركة. بعد إقامة هذه الدولة، سيضطرون إلى النضال فيها على حقوقهم المدنية. كثيرون من دول العالم سيؤيدون هذا النضال كما حدث في جنوب أفريقيا، إلى أن ينعكس اتجاه دوران العجلة وتنتقل السلطة إلى أيدي الأغلبية الفلسطينية. كم من الوقت سيستغرق ذلك؟ جيلين؟ ثلاثة أجيال؟ أربعة أجيال؟ هل يمكن لشخص ما أن يتخيل كيف سيكون أداء هذه الدولة من الناحية الفعلية؟ هل سيدفع الساكن في بلعين نفس الضرائب التي سيدفعها الساكن في كفار سابا؟ هل سيقوم سكان جنين وسكان نتانيا بوضع الدستور معا؟ هل سيخدم سكان الخليل والمستوطنين في الجيش ذاته، جنبا إلى جنب، وفي الشرطة ذاتها، وسيتقيدون بالقوانين ذاتها؟ هل هذا واقعي؟ هناك من يقول: هذا الأمر موجود أصلا، فإسرائيل تحكم الدولة الواحدة الممتدة من البحر إلى النهر، ما يجب فعله فقط هو تغيير نظام الحكم. ولكن هذا الأمر غير قائم بالأصل، فهناك دولة محتلة وهناك أراضي ترزح تحت الاحتلال. من الأسهل بكثير حلّ المستوطنات من أن نجبر ستة ملايين إسرائيلي-يهودي على حلّ الدولة. لا، الدولة الواحدة لن تقوم. ولكن لنسأل أنفسنا – فيما لو أقيمت، فهل هذا أمر جيد؟ إجابتي هي: بالتأكيد لا. هيا نتخيل هذه الدولة، ليس كمخلوق خيالي، يتمتع بالكمال، بل في الواقع. سيكون الإسرائيليون في هذه الدولة هم الفعالون. لديهم تفوق تام وهائل في معظم المجالات تقريبا – مستوى الحياة، القوة العسكرية، المستوى الثقافي، الكفاءة التكنولوجية، دخل الفرد لدى الإسرائيليين أعلى بـ 25 ضعفا (25 ضعفا!) من الدخل لدى الفلسطينيين. 20 ألف دولار للإسرائيلي في السنة مقابل 800 دولار للفلسطيني في السنة. سيهتم الإسرائيليون في أن يكون الفلسطينيون الحطابين والمزارعين لأجيال طويلة. سيكون ذلك بمثابة احتلال بوسائل أخرى. احتلال مطموس المعالم. هذا لن ينه النزاع التاريخي، بل سينقله إلى مرحلة جديدة. هل سيؤدي هذا الحل إلى سلام عادل؟ أعتقد أن ما سيحدث هو العكس تماما. ستكون هذه الدولة بمثابة ميدان معركة. سيحاول كل طرف فيها السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي وأن يزيد عدد سكانه بأكبر قدر ممكن. سيقاتل اليهود فيها بكل الوسائل من أجل منع العرب من أن يصبحوا أغلبية وأن يصلوا إلى السلطة، وستكون هذه من الناحية العملية دولة أبارتهايد. إذا وصل العرب إلى مكانة الأغلبية، وأرادوا تسلم زمام السلطة بالوسائل الديموقراطية، سيشتعل نزاع من شأنه أن يؤدي إلى حرب أهلية. 1948 بإصدار جديد. حتى من يؤيد هذا الحل يعلم علم اليقين أن هذا النضال سيستمر لعدة أجيال. من الممكن أن تسفك دماء كثيرة، ويمكن لنتائج هذا النزاع أن تكون غير محمودة العواقب. هذا حلم من أحلام اليقظة. بهدف تحقيقه، يجب تبديل الشعب، وربما الشعبين. يجب خلق إنسان جديد. هذا ما اعتقده الشيوعيون في بداية الاتحاد السوفييتي. هذا ما اعتقده مؤسسو الكيبوتسات. إن الإنسان لم يتغير لمزيد الأسف. أحلام اليقظة الجميلة بالذات يمكنها أن تؤدي إلى نتائج وخيمة. وفي نبوءة "يسكن الذئب مع الحمل" ستكون هناك حاجة إلى تبديل الحمل كل يوم. هناك من يبجّل تجربة جنوب أفريقيا. مثال جميل ومشجّع. للأسف، لا يوجد أي تشابه تقريبا بين المشكلة هناك والمشكلة هنا. هناك لم يكن شعبان، لهما تراثين مختلفين من آلاف السنين. لا البيض ولا السود أرادوا دولة منفردة خاصة بهم، ولم يعيشوا في دولتين منفصلتين. الدولة الواحدة كانت قائمة منذ زمن بعيد، وما كان النضال إلا من أجل السلطة في الدولة الواحدة. كان زعماء جنوب أفريقيا عنصريين، يبجّلون النازية وقد مكثوا في السجن بسبب ذلك. كان من الأسهل فرض مقاطعة دولية على دولتهم في كل المجالات. بالمقابل، يُنظر إلى إسرائيل اليوم كدولة الناجين من الكارثة، وفيما عدا مجموعات صغيرة، لا يعلن أي شخص مقاطعتها. سيذكر اليهود شعار النازيين الذي مهّد الطريق إلى أوشفيتس: "لا تشتروا من اليهود!" KAUFT NICHT BEI JUDEN. إضافة إلى ذلك: فإن آلية دولية من المقاطعة ستثير في يهود العالم أجمع المخاوف من اللا سامية، وستدفعهم إلى أحضان اليمين المتطرف. هناك شيء مختلف تماما وهو المقاطعة العينية، ضد مظاهر معينة من الاحتلال. لقد كنا رواد هذا الأسلوب، حين أعلنا قبل أكثر من عشر سنوات عن مقاطعة منتجات المستوطنات، وجررنا إلى ذلك الاتحاد الأوروبي أيضا. على فكرة، قال لي خبراء في شؤون جنوب أفريقيا أن هناك مبالغة بشأن أهمية تلك المقاطعة. لم تكن المقاطعة هي العامل الرئيسي الذي أسقط نظام الحكم هناك، بل تغيير الوضع الدولي. لقد أيدت الولايات المتحدة جنوب أفريقيا لأنها اعتبرتها حصنا ضد الشيوعية. لدى انهيار الاتحاد السوفييتي، تخلى الأمريكيون ببساطة عن جنوب أفريقيا. العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل أعمق بكثير وأكثر تعقيدا. إن فيها عناصر أيديولوجية عميقة – رواية وطنية مشابهة، اللاهوت المسيحي التبشيري وغيرها. حل الدولتين هو الحل العملي الوحيد والواقعي. مما يثير الضحك الادعاء بأن هذا الحل قد هُزم. ما يحدث هو العكس تماما: في المجال الأهم، مجال الوعي، هو يتخطى المرحلة تلو الأخرى. غداة حرب عام 1948، حين رفعنا هذه الراية، كنا قلة قليلة. كان يمكن عدنا على أصابع اليدين (أذكر في هذا السياق أهرون كوهين، من رواد هذه الفكرة) وقد أنكر الجميع أن الشعب الفلسطيني موجود أصلا. منذ الستينيات أخذت أتجول في واشنطن وأتحدث مع رجالات البيت الأبيض، وزارة الخارجية مجلس الأمن القومي وبعثة الأمم المتحدة - لم يرغب أحد منهم بالاستماع آنذاك. يوجد اليوم إجماع دولي على أن هذا هو الحل الوحيد. الولايات المتحدة، روسيا، أوروبا، الرأي العام الإسرائيلي، الرأي العام الفلسطيني، الجامعة العربية. علينا أن ندرك ما معنى ذلك: العالم العربي برمته يؤيد الآن هذا الحل. إن لذلك أهمية عظيمة بالنسبة للمستقبل. لماذا يحدث هذا؟ هذا ليس لأننا متمرسين إلى حد كبير وقد استطعنا التأثير على العالم بأسره. لا، فإن المنطق الكامن في هذا الحل هو الذي اجتاح العالم. صحيح أن جزءا من مؤيدي هذا الحل يدفعون ضريبة كلامية. من الممكن أنهم يستخدمونه لتمويه الرأي العام عن نواياهم الحقيقية. أشخاص مثل أريئيل شارون وإيهود أولمرت يتظاهرون كمؤيدين لهذه الفكرة، بينما يكون هدفهم الحقيقي هو منع القضاء على الاحتلال. غير أن هذا يشهد على أنه، حسب رأيهم أيضا، لا توجد إمكانية لمناهضة حل الدولتين. حين يعترف العالم بأسره بأن هذا هو الحل العملي الوحيد - فسيتم تنفيذه في نهاية الأمر. العوامل معروفة، ويوجد عليها أجماع عالمي اليوم:
العقبات معروفة، وهي كبيرة. لا يمكن تخطيها بواسطة العقاقير السحرية. يجب مواجهتها والتغلب عليها. علينا، في إسرائيل، أن نقلل المخاوف والهواجس، أن نبين الفائدة والربح اللذان سنجنيهما من إقامة دولة فلسطينية إلى جانبنا. علينا أن نحدث تغييرا في الوعي والإدراك. ولكنا كنا قد قطعنا شوطا كبيرا على هذه الطريق، منذ تلك الأيام التي كان يرفض الجمهور بأكمله مجرد وجود الشعب الفلسطيني، يرفض فكرة الدولة الفلسطينية، يرفض تقسيم القدس، يرفض التحدث مع منظمة التحرير الفلسطينية، يرفض الاتفاق مع عرفات. لقد تغلغل رأينا في كل هذه المجالات على مستويات مختلفة. من الواضح أن هذا ما زال بعيد عما نحن بحاجة إليه. ولكنه هذا هو الاتجاه وهناك مئات استطلاعات الرأي التي تثبت ذلك. يمكن التغلب على العقبات الحقيقية. إنها لا تضاهى مقابل العقبات التي تعترض طريق الدولة الواحدة. كنت لأقول: بنسبة 1:1000. هذا أشبه بملاكم غير قادر على الفوز على خصم بوزن الريشة، ولذلك يختار منازلة خصم من الوزن الثقيل. أو عداء فشل في العدو لمسافة 100 متر، ولذلك سجل نفسه في الماراتون. أو كمن يئس من محاولة تسلّق جبل الشيخ، ولذلك قرر الوصول إلى قمة جبل إفرست. لا شك في أن فكرة الدولة الواحدة تمنح أصحابها اكتفاء أخلاقيا. لقد قال لي أحدهم: أو كي، إذن هذا غير واقعي، ولكنه أخلاقي، وهذا هو المكان الذي أريد أن أقف فيه. أنا أقول: هذا ترف لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا به، حين يكون الحديث عن مصير أشخاص كثيرين جدا، فالأخلاقي غير الواقعي ليس أخلاقيا. أكرر: الأخلاقي غير الواقعي ليس أخلاقيا. هناك من دب فيه اليأس لأن قوى السلام لم تنجح في وضع حد للاحتلال. الحكومة ووسائل الإعلام يتجاهلوننا. هذا صحيح. ولكن نحن نتحمل جزءا من هذه المسؤولية. لم نفكر بما فيه الكفاية. لم نعثر على أسباب الفشل. متى أجري مؤخرا نقاش متعمق حول استراتيجية وتكتيك النضال من أجل السلام. لم ننجح في الدخول إلى الجمهور الشرقي. بقينا نستنكر لجمهور القادمين الجدد من روسيا. لا يوجد لنا شراكة حقيقية مع الجمهور العربي الفلسطيني في إسرائيل. لم نجد حتى الآن الطريقة للوصول إلى قلوب الجمهور العام. لم ننجح في أن نؤدي إلى إقامة قوة سياسية موحدة وناجعة، تكون قادرة على التأثير على الكنيست والحكومة. علينا أن نفحص أنفسنا. لا يكفي أن حل الدولة الواحدة لا يمكنه أن يتحقق، فهو يحمل في طياته أخطار محدقة أيضا.
ليكن الأمر واضحا: لن يوضع حد للاحتلال طالما لا توجد اتفاقية سلام. أما بالنسبة للمستقبل البعيد، فمن الممكن أن نلتقي في أماكن غير متوقعة. حين نصل إلى هذه المحطة، المسماة السلام بين الدولتين، سيختار كل منا المحطة التالية التي يرغب في الوصول إليها. هل هناك من يصبو إلى توحيد الدولتين في دولة واحدة؟ فليتفضل. هل هناك من يعتقد أن حل الدولتين أفضل إلى الأبد؟ لم لا. هل هناك من يعتقد، مثلي، أن الدولتين يجب أن تتحركا بالتدريج وبموافقة متبادلة طول الطريق، باتجاه وضع من التحالف أو الفدرالية؟ لم لا. (لقد حدثني ياسر عرفات، منذ لقائنا الأول عام 1982 عن حل بنلوكس - إسرائيل-فلسطين-الأردن، وربما لبنان أيضا. لقد واصل التحدث عن ذلك حتى اغتياله.) أنا أقترح تسوية: تعالوا نناضل جميعنا من أجل برنامج الدولتين، وعندها يمكن لمؤيدي الدولة الواحدة أن يواصلوا النضال لتوحيد الدولتين. تثبت التجارب أن الدولة القومية الكلاسيكية تبقى على ما هي عليه من الناحية النظرية، ولكن من الناحية الفعلية تنتقل صلاحيات كثيرة إلى هيئات فوق سياسية، على غرار الاتحاد الأوروبي. كل شخص في ظل كرمته وكل شخص في ظل تينته، وكل شخص في ظل علمه الوطني. ( على فكرة، حين طرحت فكرة الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى، أراد كثيرون إلغاء الدول القومية وإقامة الولايات المتحدة الأوروبية، على غرار الأمريكية. حذّر شارل ديغول آنذاك من تجاهل المشاعر الوطنية. لقد دعا إلى "أوروبا الدول". لحسن الحظ، تم قبول اقتراحه، وها هي الحياة تقوم بما يجب أن تقوم به.) أفترض أن مثل هذه العملية ستحدث في المستقبل البعيد لدينا أيضا. ولكننا الآن بحاجة إلى معالجة المشكلة الملحّة. إن أمامنا جرح ينزف. علينا وقف النزيف ومعالجة الجرح، قبل أن نتمكن من معالجة جذور المرض. خلاصة الأمر، فيما يلي رأيي: رغم أن الوضع يبدو قاتما (كالعادة)، فنحن نتقدم على الرغم من ذلك. صحيح، إن الوضع في السطح محبط تماما: المستوطنات تواصل توسعها، تم بناء الجدار، الاحتلال يزيد الظلم يوميا. ربما يكون ذلك من امتيازات السن: اليوم، وأنا في الثالثة والثمانين من عمري، أصبحت قادرا على رؤية الأمور بمنظور وقت أطول بكثير. لأنه تحت سطح الأرض تجري عمليات تسيّر بالاتجاه المعاكس. كل استطلاعات الرأي تثبت أن الجمهور الإسرائيلي في أغلبيته العظمى قد اعترف بوجود الشعب الفلسطيني واعترف بالحاجة إلى إقامة دولة فلسطينية. لقد اعترفت الحكومة بمنظمة التحرير الفلسطينية وستعترف بحماس غدا. لقد اعترفت الأغلبية بتحويل القدس إلى عاصمة للدولتين. لقد بدأت لدى قطاعات آخذة بالاتساع، عملية اعتراف برواية الشعب الآخر. هناك إجماع دولي لصالح حل الدولتين. لقد نشأ هذا الإجماع بطريقة الحذف: لا يوجد حل واقعي آخر. ولكن بهدف تحقيقه، يجب أن يأتي دعم قوي من الداخل، من داخل الجمهور الإسرائيلي. علينا نحن أن نخلق هذا الدعم. هذه هي وظيفتنا. وفيما يلي تحذير ما: علينا أن نحذر من اليوطوبيا. تبدو اليوطوبيا كضوء مشع في نهاية النفق. هذا الأمر يسحر الألباب. ولكنه ضوء مخادع، من شأنه أن يدخلنا إلى النفق غير الصحيح، الذي لا مخرج له. لم نسمع أبدا أية إجابة على السؤالين الحاسمين فيما يتعلق بفكرة الدولة الواحدة: كيف ستُقام، وكيف سيكون أداؤها. بانعدام وجود إجابات لهذه الأسئلة، لا يبقى من هذا البرنامج سوى الرؤيا. لقد خلقت 120 سنة من النزاع في الجمهور الإسرائيلي ترسبات هائلة من الكراهية، الآراء المسبقة، المشاعر بالذنب التي يتم إبعادها عن الذات، الآراء المقولبة، الخوف (الخوف بالأساس!) وعدم الثقة التام بالعرب. علينا أن نقاوم هذه الأمور، أن نقنع الجمهور أن السلام مجد لمستقبل دولة إسرائيل. جنبا إلى جنب مع تغيير الوضع الدولي وشراكتنا مع الشعب الفلسطيني، فإن احتمالاتنا في التوصل إلى السلام ستكون كبيرة. أنا، على أية حال، قررت أن أبقى على قيد الحياة حتى يتحقق ذلك. |