اوري افنيري 

لو كان عرفات على قيد الحياة / أوري أفنيري


"لو كان عرفات على قيد الحياة..." أصبحت هذه الجملة تتكرر المرة تلو الأخرى، ليس في الأحاديث مع الفلسطينيين فحسب، بل كذلك مع الإسرائيليين والأجانب.

"لو كان عرفات على قيد الحياة، لما كان سيحدث ما يحدث الآن في غزة!" - "لو كان عرفات على قيد الحياة، لكان لدينا من نتحدث معه!" - لو كان عرفات على قيد الحياة، لما تعاظم التطرف الإسلامي لدى الفلسطينيين، وكان من شأن ذلك أن يعيق تقدمه أيضا في الدول المجاورة"!

عادت تطفي، من خلال ذلك أيضا، الأسئلة التي لم توجد لها إجابات بعد: كيف مات ياسر عرفات؟ هل قُتل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن قتله؟

عند عودتي، في حينه، من تشييع جثمان ياسر عرفات، التقيت بالنائب جمال زحالقة وسألته فيما إذا كان يصدق أنه قد قُتل. زحالقة، الذي يحمل لقب الدكتوراة في الصيدلة، قال دون تردد "نعم". هذا كان إحساسي أيضا، ولكن هذا الإحساس لم يتم إثباته، فما هو إلا مزيج من الحدسية، الضمير المستقيم والتجربة. قبل فترة وجيزة حصلنا على تأشيرة من نوع ما. أوري دان، الذي كان الناطق الأمين بلسان أريئيل شارون ما يقارب خمسين سنة، نشر عشية وفاته كتابا في فرنسا، حيث كتب فيه عن أن شارون قد روى له أمر حديث دار بينه وبين الرئيس بوش، طلب فيه الأول تصريحا بقتل الزعيم الفلسطيني. لقد منحه بوش التصريح المنشود، ولكن شريطة ألا يتم اكتشاف الأمر. وعندما سأل دان شارون هل فعل ذلك حقا أجاب شارون: "ليس من الجدير التحدث عن ذلك" وقد رأى دان في ذلك مصادقة. توجد بين يدي الاستخبارات السرية في العديد من الدول سموم لا يمكن اقتفاء أثرها، إلا بظروف معينة. لقد حاول الموساد اغتيال خالد مشعل، زعيم حماس، في وضح النهار في شارع رئيسي في عمان، وقد نجى الرجل فقط لأن إسرائيل اضطرت إلى تقديم المعلومات حول السم الذي استخدمته. تم تسميم الرئيس الأوكرايني، فيكتور يوشتشينكو، من قبل المخابرات السرية الروسية، وقد نجى فقط حين تعرف خبراء على الأعراض الخاصة المثيرة للشكوك. منذ فترة وجيزة، قُتل الجاسوس الروسي الأسبق ألكسندر ليتويننكو بواسطة إشعاع فتاك. وكم من هذه الحالات لم يتم اكتشافها أبدا؟ هل من إثبات بأن عرفات قد قُتل على يد عملاء إسرائيليين أو آخرين؟ لا، لا يوجد مثل هذا الإثبات. لقد التقيت هذا الأسبوع بالنائب زحالقة مرة أخرى، وقد توصلنا معا إلى استنتاج بأن الشك آخذ بالتزايد، جنبا إلى جنب مع الاعتراف بأن عرفات ينقصنا الآن أكثر من أي وقت آخر. لو كان عرفات على قيد الحياة، لكان هناك عنوان واضح للمحادثات مع الشعب الفلسطيني. انعدام وجود مثل هذا العنوان هو الذريعة الرسمية الآن التي تتذرع بها إسرائيل لعدم استعدادها للشروع بالمفاوضات السلمية. في كل مرة تتحدث فيها كوندوليسا رايس أو أي ببغاء آخر من ببغاوات بوش عن الحاجة إلى "استئناف الحوار" (معاذ الله أن تُذكر "المحادثات") وعن "الوضع النهائي" أو "الوضع الدائم" (معاذ الله أن تُذكر كلمة "سلام")، فهذا هو رد تسيبي ليفنيه، إيهود أولمرت وشركاهما: حوار؟ مع من؟ لا فائدة من التحدث مع أبي مازن، لأنه لا يستطيع أن يفرض إرادته على الجمهور الفلسطيني. إنه ليس عرفات الثاني. لا توجد لديه القوة. وممنوع علينا أن نتحدث مع حكومة حماس، لأنها تنتمي إلى "محور الشر" الخاص ببوش. إذن ماذا تريدين يا عزيزتي كوندي؟ تسيبي ليفنيه، صديقة كوندي الجديدة، تذهب إلى أبعد من ذلك: لقد حذرت في مؤتمر المليارديرات في دابوس أبا مازن بشكل علني ألا "يتنازل أمام الإرهابيين". إنه تحذير جاء في وقته. محاولة بائسة لخلق عنوان فلسطيني موثوق به، فطار أبو مازن إلى دمشق للقاء مشعل. وقد اعترف من خلال ذلك بشكل علني أنه لا يمكن التحدث من دون زعيم حماس الذي تحول إلى الرئيس الأعلى للشعب الفلسطيني. لقد لاحظت ليفنيه فورا الخطر المحدث وأسرعت لتعرقل العملية. لن يكون هناك حوار مع حكومة الوحدة الوطنية، كما لن يكون هناك حوار مع أبي مازن أو مع حماس. هل فهمت ذلك يا محبوبتي كوندي؟ من يريد أن يرى شكل الارتياح الحقيقي، عليه أن ينظر في وجوه الصحافيين الإسرائيليين الذين يظهرون كل مساء على شاشة التلفزيون ويقدمون تقاريرهم عما يحدث في لبنان. يا لها من متعة! "المسيحيون والسنة" يهاجمون الطلاب الجامعيين الشعية في جامعة بيروت ويقتلونهم! يمكن أن تشب في لبنان، في أية لحظة، حرب أهلية! ها هي طالبة جامعية تقول أن نصر الله أسوأ من أولمرت! شاهدوها مرة أخرى! وأخرى! ومرة أخرى! "عندما يقتتل اثنان يضحك الثالث," حسب قول المثل. عندما يضرب عربي عربيا - في بغداد، في غزة أو في بيروت - تنتشي حكومة إسرائيل ومحلليها نشوة لا مثيل لها. إنها قاعدة تسيطر على الوعي الإسرائيلي الرسمي منذ إقامة الدولة، وحتى قبل ذلك: عندما يقتتل العرب فيما بينهم، فهذا جيد لنا. هذا أمر معقول في أوقات الحرب. النزاع بين أعدائك هو هدية لك. في الحرب العالمية الأولى أعادت هيئة الأركان الألمانية لنين إلى روسيا بالقطار المحكم الشهير، ليزرع الشقاق بين روسيا وبريطانيا وفرنسا. في حرب عام 1948، من المشكوك فيه أننا كنا سننجح لولا المنافسة التي دارت رحاها بين الجيش المصري والجيش الأردني، أكثر مما قاتلانا. في الثمانينيات أرسل الجيش الإسرائيلي ضباط إلى شمال العراق لمساعدة مصطفى البرزاني على انتزاع المنطقة الكردية من بلاد صدام حسين. هذه استراتيجية جيدة في الحرب. كانت الدول تتصرف على هذا النحو منذ القدم. ومن هذه الناحية فإن إسرائيل ليست مختلفة، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه الاستراتيجية جيدة حتى عندما نرغب بالسلام؟ لو- "لو" بالبنط العريض- أرادت حكومة إسرائيل السلام، لكانت ستنتهج استراتيجية معاكسة. حين حاول دافيد بن غوريون، في الخمسينيات، زرع الشقاق بين مصر، سوريا والعراق، قال الدبلوماسي الصهيوني الكبير ناحوم غولدمان، أن هذا خطأ. لقد ادعى غولدمان أن زيادة النزاعات بين الزعماء العرب يشكل خطرا على إسرائيل، لأن كل زعيم عربي سيرغب في أن يثبت أنه يكره إسرائيل أكثر من منافسيه. هذا أصبح واضحا اليوم أكثر من أي وقت مضى. بوش وزمرته يحاولون إقامة كتلة مؤيدة لأمريكا تتألف من إسرائيل، الأردن، أبي مازن والسنيورة. بالمقابل هناك "محور الشر" الذي يضم إيران، سوريا، حزب الله وحماس. صحيح أن زعماء مصر، الأردن والسعودية يدفعون ضريبة كلامية للقضية الفلسطينية، غير أنهم مستعدون في أية لحظة لبيعها مقابل مساعدات أمريكية لائقة. تغمر حكومة إسرائيل السعادة حين ترى نفسها بين الزعماء الديموقراطيين الثلاثة: حسني مبارك والملكين عبدي الله ولكن هل هذا من مصلحة إسرائيل؟ لا، هذا جيد لمواصلة الحرب ضد الفلسطينيين وتنمية المستوطنات. لا، إنه ليس من مصلحة إنهاء النزاع التاريخي مع الفلسطينيين، إزالة الاحتلال وإحلال السلام. لا يوجد أي احتمال وأية قيمة لصنع السلام مع أبي مازن، من دون أن تمنحه حماس الدعم الكامل. ولكن مشاركة فتح-حماس لن تكون هي أيضا قوية بما فيه الكفاية لتحمل هذا العبء الثقيل. إنها بحاجة إلى دعم العالم العربي قاطبة. تكمن هنا أهمية "مبادرة السلام العربية"، التي تمت الموافقة عليها في مؤتمر القمة العربية في عام 2002 في بيروت. إن زعامة فلسطينية موحدة، تتمتع من دعم كل العالم العربي، هو وحدها القادرة على التجرؤ للقيام بهذه الخطة الانقلابية. كان يجدر بنا ألا نعارض ذلك بل على العكس، كان يجب وضعه كشرط. شروط المبادرة العربية هي نسخة عن الشروط التي وضعها ياسر عرفات منذ السبعينيات: دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، تكون حدودها الخط الأخضر وعاصمتها القدس الشرقية، تفكيك المستوطنات، حل مشكلة قضية اللاجئين "بالاتفاق (مع إسرائيل)". لقد وافق عرفات، بشكل غير رسمي، على تبادل المناطق التي ستبقي المستوطنات القائمة بجوار الخط الأخضر. لا يوجد أي فلسطيني ولا أي عربي في العالم يوافق على ما هو أقل من ذلك. يمكن التوصل إلى ذلك، شريطة أن يكون الشعب الفلسطيني متحدا وأن يكون العالم العربي موحدا. أي أن على ذلك الأمر أن يشمل سوريا، حزب الله وحماس، إضافة إلى إيران غير العربية. لذلك، من يرغب في السلام لن يهلل لسفك الدماء في غزة وفي لبنان. ليس لنا أن نضحك عندما يضرب عربي عربيا آخر. ويل لهذا الضحك. وبالفعل، لو كان عرفات على قيد الحياة، لكانت كل الأمور أبسط بكثير.