|
||
هذا الأمر لم يخطر ببال. نحن؟ في آسيا؟ ما الأمر؟! حين شاهدت الحدث من على شاشة "الجزيرة"، تذكرت فجأة ذكرى سنوية خاصة، كانت قد برحت ذاكرتي. قبل 60 سنة بالضبط، جمعت مجموعة صغيرة من الشباب وأسسنا كتلة تدعى "أرض إسرائيل الفتاة" وكنا نصدر، على نفقتنا الشخصية (وكنا جميعا مفلسين آنذاك)، بين الحين والآخر، مجلة تدعى "بمأفاك" (في النضال). لقد تركت "في النضال" أصداء صاخبة، لأنها تفوهت بحديث كافر تثير الغضب. فخلافا للأسطورة الصهيونية السائدة، كانت تدعي أننا، نحن الجيل الناشئ في البلاد، نشكل أمة جديدة، الأمة العبرية. خلافة لمجموعة "الكنعانيين" التابعة ليوناتان رطوش، التي سبقتنا، قلنا (أ) أن الأمة الجديدة هي جزء من الشعب اليهودي، كما أن أستراليا هي جزء من الشعب الأنجلو-سكسوني، و (ب) أننا أمة أخت للأمة العربية المتجددة في البلاد وفي المنطقة بأسرها. وليس أقل أهمية: لكون الأمة العبرية الجديدة قد ولدت في البلاد، وأن البلاد تقع في آسيا، فنحن أمة آسيوية، يربطها ميثاق طبيعي مع الأمم الآسيوية والأفريقية التي تتطلع إلى التحرر من قيود الاستعمار الأوروبي. في يوم الأربعاء، 19 آذار 1947، وبعد عدة أشهر من صدور العدد الأول من "في النضال"، نشر في جريدة "هبوكر" (الصباح) إعلان يقول: "كتلة أرض إسرائيل الفتاة، أرسلت برقية تهنئة إلى فانديت جواهر لال نهرو في نيو دلهي بمناسبة انعقاد المؤتمر الآسيوي. وقد جاء في البرقية: "بمناسبة انعقاد المؤتمر الآسيوي الأول، نبعث إليك بتهنئة شبيبة أرض إسرائيل على مبادرتك التاريخية. نرجى أن تتظافر تطلعات الحرية لشعوب آسيا الجديدة، التي يشكل لها نضالك البطولي قدوة يُحتذى بها. فلتحيى أسيا الفتاة، المتحدة والمستيقظة، طلائعية الأخوة والتقدم". خبر مشابه نشر في الصباح ذاته في الصفحة الأولى من "فلسطين بوست" (التي سبقت "جروزاليم بوست"). حيث ذكرت الصحيفة أسماء الموقعين: أوري أفنيري، عاموس إيلون وبن-عامي غور. كانت "في النضال" تصدر بين حين وآخر، حين كان يتسنى لنا المال الكافي، وذلك حتى حرب عام 1948. لقد نشر في الصحف العبرية أكثر من مائة رد، معظمها ردود سلبية، وجزء منها هو تجريح لاذع. وقد كنّاها الكاتب موشيه شمير، من أفراد "هشومير هتسعير" في ذلك الوقت، "بمات-أفاك" (أي مسرح الغبار). عند نشوب الحرب، محي هذا الفصل وطواه النسيان. ولكن كل ما قلناه تقريبا، قبل 60 سنة، ما زال ملائما اليوم. والأكثر ملاءمة هو السؤال: إلى أية قارة تنتمي دولة إسرائيل؟ أنا أومن أن أحد الأسباب الأكثر عمقا للنزاع التاريخي بيننا وبين العالم العربي عامة، والشعب الفلسطيني خاصة، كامن في حقيقة أن الحركة الصهيونية، منذ يومها الأول، قد أعلنت أنها لا تنتمي للمنطقة التي نعيش فيها. ربما يكون هذا أحد الأسباب لكون النزاع لم يُشفى حتى بعد أربعة أجيال. كتب بنيامين زئيف هرتسل، كما هو معروف، في المستند التأسيسي للحركة الصهيونية، وهو كتاب "دولة اليهود": "من أجل أوروبا سنكون (في أرض إسرائيل) مقطعا من السور الواقي من أسيا...طلائعيو الحضارة ضد البربرية..." هذه النبرة النغمة المركزية في تاريخ الصهيونية ودولة إسرائيل حتى اليوم. قبل عدة أسابيع أعلن السفير الإسرائيلي في أستراليا، نفتالي تمير، أن "آسيا هي للعرق الأصفر، وأما نحن فبيض وليست لنا أعين آسيوية". من الممكن أن نسامح هرتسل، وهي أوروبي بكل جوارحه، عاش في فترة سادت فيها الإمبريالية في الفكر الأوروبي. ولكن اليوم، وبعد أربعة أجيال من ذلك الوقت، يواصلون المؤثرون على الرأي العام، من وُلدوا في البلاد، على نفس النهج بالضبط. إيهود براك قارن الدولة "بفيلا في قلب الأدغال" (الأدغال العربية)، ويتجسد هذا التوجه في هذا التعبير أو ذاك، في أقوال كافة ساستنا. تسيبي ليفنيه تحب التحدث عن "الحي الخطر" الذي نعيش في، ومستشار أريئيل شارون كان قد جزم أن السلام لن يأتي حتى "يتحول الفلسطينيون إلى فنلنديين". منتخبنا يلعب في الدوري الأوروبي، الأورفيزيون هو حدث وطني لدينا، 95% من نشاطاتنا السياسية تدور في أوروبا وفي أمريكا الشمالية. ولكن الظاهرة الأكثر تطرفا التي تتخطى المجال السياسي، هي "النظرة إلى العالم" بالمعنى الحرفي للكلمة. إن إسرائيل في عالمنا هذا هي جزء من أوروبا. في الخمسينيات، طلبت من دوش، وكان رسام كاريكاتير في مجلة "هعولام هازيه" أن يرسم كاريكاتيرا، ما زلت أتفاخر به حتى اليوم: أنه يظهر خارطة الشرق الأوسط، بينما هناك يد تمسك بمقص وتخرج من اليونان لتنزع دورة إسرائيل عن آسيا. خسارة أني لم أضف رسما آخرا، يتم فيه إلصاق دولة إسرائيل بالجهة الجنوبية من فرنس، أو لربما من الأفضل، بميامي. يصعب في هذه الأيام أن تجد شخصا يدعي بأن الثقافات الآسيوية - الصين والهند - هي ثقافات بربرية. ولكن من السهل أن تجد في إسرائيل، وفي الغرب كله، أشخاصا يؤمنون بأن العالم العربي، وكل العالم الإسلامي، هم "أدغال". من يعتقد هذا الاعتقاد، ليس بمقدوره أن يصنع السلام، فالسلام لا يُصنع مع النمور الكاسرة والثعابين السامة. في أيام "في النضال" نحتنا الشعار "الانخراط في المجال السامي". ولكن كيف يمكن الانخراط، في المجال في حين يُنظر إليه على أنه أدغال؟ النظرة إلى العالم ليست أمرا مجردا. إن لها تأثير كبير على الحياة. إنها تؤثر كثيرا عندما تنمّ عن وعي، وتؤثر أكثر حين تنمّ عن اللا وعي. إنها تبلور حسب القرارات الفعلية، من دون أن يعيها أصحاب القرار. حتى السياسيين ما هم إلا بشرا (في أفضل الحالات)، وأعمالهم موجهة من معتقداتهم الدفينة. لقد اعتدنا على أن نعتبر "المفاهيم" هي أكبر الأخطاء، ومصدر كل هزائمنا وفشلنا. ولكن ما هي "المفاهيم" إن لم تكن نظرة إلى العالم تنمّ عن اللا وعي؟ تؤثر النظرة إلى العالم على مجالات كثيرة في حياة الدولة، فهي لب الجهاز التربوي، الذي يبلور الجيل الصاعد. إنه، على ما يبدو، الجهاز التربوي الوحيد في العالم الذي لا يدرس تاريخ وطنه. إنهم يكادون لا يعلمون شيئا عن تاريخ البلاد، وعوضا عن ذلك، يدرّسون تاريخ "شعب إسرائيل". إنه مركّب من تاريخ المملكة القديمة ("الهيكل الأول")، ثم تاريخ الاستيطان العبري في البلاد قبل الميلاد وبعده ("الهيكل الثاني"). بعد ذلك، يترك البلاد ويرافق شعب إسرائيل في المهجر لبض آلاف من السنوات، ويعود إلى المستوطنات الصهيونية. لقد اختفى تاريخ البلاد من المدارسة عن حقبة زمنية تصل إلى حوالي ألفي سنة. لقد ذكرت ذلك في أحد خطاباتي في الكنيست. قلت أن الولد الإسرائيلي، الذي وُلد في البلاد، سواء أكان يهودي أو عربي، يجب أن يتعلم تاريخ البلاد بكل حقبها وشعوبها - ومن بينها الكنعانيون، بنو إسرائيل، اليونانيون، الرومان، العرب، الصليبيون، المماليك، الأتراك، البريطانيون، الفلسطينيون، الإسرائيليون، وغيرها وغيرها. يمكن التعلم أيضا، على حدة، تاريخ اليهود في المهجر. وزير التربية والتعليم، زلمان أران، رد متهكما، وأصرّ على تسميتي "بالمملوك". لقد انتشرت مؤخرا في البلاد موضة جديدة: السياسيون والمحللون يتحدثون عن خطر الإبادة الذي يحوم على دولة إسرائيل. لا يكاد الأمر يًصدق: دولة إسرائيل هي دولة عظمى في المنطقة، اقتصادها متين ومتطور، التكنولوجيا فيها من الأكثر تطورا في العالم، جيشها أقوى من كافة الجيوش العربية مجتمعة، لديها ترسانة من القنابل النووية. حتى لو حظيت إيران بقنبلة خاصة بها، فلن يخطر لها ببال أن تستخدمها حيال قدرة الرد الإسرائيلية. إذن من أين ينبع هذا الخوف في عام الدولة الـ 59 ؟ جزء منه نابع، من دون أدنى شك، من ذكريات الكارثة، المغروسة في الوعي القومي. ولكن جزءا آخر كامن في ذلك الإحساس بعدم الانتماء إلى المنطقة، الإحساس بالوقت المستقطع، بانعدام وجود الجذور. يوجد لذلك، بطبيعة الحال، تأثيرات داخلية أيضا. يلبس الوعي أيضا صورة من المصالح الحقيقية. إن الادعاء بأننا شعب أوروبي يمنح الطبقة المسيطرة لدينا، التي ما زالت من الشكناز-الأوروبيين، امتيازا أوتوماتيكيا أمام الأغلبية العظمى من سكان الدولة الذين هم من اليهود القادمين من آسيا وأفريقيا والعرب-الفلسطينيين. إن الاستهتار العميق بثقافتهم، الذي يرافق الدولة منذ يومها الأول، يسهل كثيرا على الإجحاف بهم في العديد من النواحي. تغيير وعي الجمهور ليس شأنا للمدى المنظور. لا يمكن التوصل إلى ذلك بأمر منزل. إنها عملية طويلة وعميقة، ولكن في مرحلة ما سنضطر إلى بدئها، وفي أول الأمر، في الجهاز التربوي. افتتحت الكراسة التي تحمل عنوان "الحرب أو السلام في المجال السامي"، التي نشرتها في شهر تشرين الأول من عام 1947، بعد بضعة أسابيع من نشوب حرب عام 1948، بالكلمات التالية: "عندما قرر أجدادنا الصهيونيون إقامة"'ملجأ آمن" في أرض إسرائيل، كان لديهم الخيار بين طريقين: كان بإمكانهم تصدر أسيا، كمحتل أوروبي، يرى في نفسه رأس جسر للعرق "الأبيض" وسيد "لأبناء البلاد"..أو أن يرى في نفسه شعبا أسيويا يعود إلى وطنه." حين كتبت هذه الكلمات، كانت نهضة آسيا ما زالت بمثابة حلم. لقد انتهت الحرب العالمية الثانية، قبل سنتين فقط من ذلك الوقت، وقد تحولت الولايات المتحدة إلى قوة عظمى. ولكن في هذه الأيام، يحدث انقلاب هادئ وهائل الحجم. الأمم الآسيوية، وفي مقدمتها الصين والهند، تتحول إلى قوى عظمى اقتصادية وسياسية. التوازن العالمي يتغير باستمرار. ألا يجدر بنا أن ندرج أنفسنا، بالتدريج، في هذا المعسكر؟ لقد اختتمت تلك الكراسة، قبل 60 عاما، بكلمات أغنية كنا نغنيها آنذاك: "وجوهنا إلى الشمس الصاعدة / طريقنا تتجه إلى الشرق ثانية..." |